الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 939/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 939/رسالة الفن

مجلة الرسالة - العدد 939
رسالة الفن
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 07 - 1951


الوجودية

(مهداة إلى الدكتور محمد القصاص)

للأستاذ علي متولي صلاح

يكتب الكثيرون عن الفلسفة الوجودية، وعن المذهب الأدبي الوجودي، فيتهمون المذهب بالشذوذ والانحراف عما يقضي به العقل السليم، ويرمونه بأنه انتكاس للطبيعة الإنسانية، ورجوع بها إلى حال الهمجية والبدائية الأولى، وهم في ذلك لم يبلغوا من فهم هذا المذهب شيئا، ولم يدرسوه دراسة تبيح لهم أن ينالوه بهذه المطاعن، والناس - بعد - أعداء ما جهلوا، وهم أسرع إلى الاتهام، وأشد نهضة إلى كلمة السوء!

وكان آخر ما كتب في هذا الصدد تلك الكلمة الفجة المبتسرة التي كتبها الأستاذ أحمد الصاوي محمد في (الأهرام) منذ أيام، فلم يبسط فيها رأيا، ولم يتكلم فيها بشيء عن قواعد المذهب الوجودي ومقوماته، ولكنه أبتدر أصحابه بالإساءة رأسا حين كتب يقول: (هل المخلوق إلا عدما!؟ من ذا الذي يقول ذلك غير زعيم (الوجوديين) جان بول سارتر زعيم ذلك الخليط العجيب من الناس الذين اجتمعت كلمتهم على تقبيل بعضهم بعضا في المقاهي دون أن يعرف بعضهم بعضا؟. لقد شهدت باريس أمس روايته التمثيلية الجديدة (الشيطان والله سبحانه)! ولم يجتمع لرؤيتها أولئك (الحرافيش) الذين ينتسبون إلى أستاذهم؛ وهم في ثياب مهللة مفتوحة، بل اجتمعت طائفة من أشهر نجوم السينما.

والعجيب في أمر هذا المذهب أنه - ولو أن براعمه لم تتفتح بعد - قد تعرض لأذى كثير، وسخرية كبيرة من الناس، ونقم عليه الشيوعيون والبرجوازيون وأصحاب المذاهب المتطرفة كما نقم عليه المواطنون والاستعماريون والمحافظون، ولعنه الكاثوليكيون والراديكاليون الفرنسيون، وأولئك يعادون الكاثوليكيين أشد معاداة! وأتخذ الناس رمز القبيح والسفه، حتى ليروي جان بول سارتر أن سيدة فرنسية غضبها بقولها (يبدو أني قد أصبحت وجودية)!

ولكن أصحابه صامدون لهذا الأذى الذي يتناولهم الناس به، مؤمنون بأنهم يقومون الإنساني بأجل خدمة، إذ ينشرون مبدأ (الحرية) والعزة والكرامة الإنسانية، ويبشرون بأن الإنسان هو أثمن شيء في الوجود، وبأنه يجب أن يحيا كريما عظيما حرا.

الوجودية لا تذهب هذا المذهب الذي ألصقه بها الأستاذ أحمد الصاوي في زعمه أنها لا ترى في المخلوق إلا عدما!

إن المذهب الوجودي لا يرى هذا الرأي، وإنما نقيضه تماما، إنه يرى الإنسان هو كل شيء في هذه الحياة، ويراه محور كل هذه الدنيا التي نعيش فيها، إليه يرجع كل عمل، ومنه يصدر كل تغيير أو تعديل لأوضاع الحياة، ومن أجله تقوم التشريعات والتقاليد والنظم، فكيف يراه عدما وهو في رأيه جماع ذلك كله؟

تقوم الوجودية على فلسفة ومذهب في الأدب ينقض كل ما سبق من مذاهب أدبية كالسوريالية

والواقعية والرومانية وما إلى ذلك من المذاهب الصغيرة كالدادية والتكعيبية وسواهما من مختلف المذاهب.

أما الفلسفة الوجودية فتقوم على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي له كامل الحرية في تكوين

ماهيته على الوجه الذي يراه، وعلى الصورة التي يبغيها، وهو يقوم بذلك قويا قادرا غير خاضع للبيئة والظروف كما تنادى بها نظرية (تين (، ولا خاضع للإطار العام للدولة كما ينادى بذلك (كارل ماركس) الذي يجعل من الإنسان آلة أو أداة في يد الدولة لا أكثر ولا أقل! لا يدور إلا في فلكها، ولا يتعدى تفكيره تفكيرها.

وفي هذه الفلسفة السارترية ما يأباه علينا أيماننا، وليس من بأس أن نتركه ولا نستمسك بأهدابه، ولا على المذهب الأدبي السارتري بعد ذلك من بأس إذا هجرنا الفلسفة السارترية واستمسكنا به، ونبذناها واتبعناه، وإن كان في حقيقته وجوهره مبنيا عليها ومتفرعا عنها.

وأما المذهب الأدبي الوجودي الذي ينادي به جان بول سارتر: فأنه يقوم على ما يسمى (التزام الآداب) ومعناه أن يكون للأدب هدف، وأن يكون الأدب في الحياة عملا إنشائيا إيجابيا في خلق الحياة الفاضلة، وتغيير الحياة السيئة وتطويرها، فالكاتب الذي التزم الكتابة قد حمل نفسه مسئولية عظمى في هذه الحياة، أو على الأصح حمل نفسه أعظم مسئوليات الحياة جميعا، فهو يكتب لا لتزجية فراغ، ولا لإظهار البراعة اللفظية والمقدرة اللغوية، ولا ليقيم مهرجانات ومواكب من العبارات الموسيقية الخلابة. ولكنه يكتب ليكشف الحياة لنفسه وللناس، ثم ليدعو الناس إلى عمل ما بازاء هذه الحياة، ويدعوهم إلى حبها إن كانت تستحق الحب، وإلى تغييرها إن رآها تستوجب التغيير، وإلى هدمها واقتلاعها من جذورها إن وجدها جديرة بذلك. . فالكتابة - عند المذهب الوجودي - عمل من الأعمال أو قل أنها أهم عمل من أعمال الحياة، وعلى الكاتب تقع مسئولية ما في الحياة من عوج وشذوذ وفساد أول ما تقع، والكلمات عند سارتر إنما هي أسلحة نارية، ومن تكلم أو كتب فقد أطلق هذه السهام، والكاتب مسئول عن الحياة اليومية الواقعية للناس وللوجود ومن هنا كان اشتقاق أسم المذهب الذي يشارك في الوجود وفي الحياة مشاركة فعالة، منتجة مغيرة، هدامة في بعض الحالات، والكتاب مشتركون، أو هم قادة للجهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الحياة التي يعيشونها، وعليهم أن يعرفوا ذلك تماما، وأن يفرضوا لمل يكتبون أوسع انتشار وأعظم دوى وأبعد صدى.

والوجودية - في تحميلها الكاتب كل هذه المسئوليات - إنما تلتمسها من الحرية العريضة التي تفترضها فيه، إنها تفترض فيه حرية شاملة كاملة لا يحد منها شيء، حرية لا تغشاها مثل ومبادئ سابقة، ولا تقهرها ظروف أو بيئة، فالكاتب الحر قدير على أن يهزم هذه الظروف ويرتفع على تلك البيئة، ولا تحدها وطنية ضيقة، فالكاتب الوجودي لا يقف عند حدود وطنه، بل يتعداه إلى دفع الظلم أيا كان موطنه، ومحاربة الفساد في أي مكان يراه، فسارتر مثلا دافع عن الزنوج وأنتصر لهم على الأمريكان في روايته المسماة (القحبة الحفية) التي قام بترجمتها الكاتب الوجودي المصري (الدكتور محمد القصاص) والتي نرجو أن ينشرها على الناس حتى يتعرفوا بحق بعض المبادئ الإنسانية العالية التي ينطوي عليها المذهب الوجودي.

والوجودية تطلب إلى الكاتب ألا يهرف في الهواء، ويرثى الحريات المضيعة، ويبكي الظلم في الحياة، ويذرف الدمع سخينا على خلو الحياة من العدالة وما إلى ذلك. إن الوجودية لا تعرف هذا النواح في الهواء الطلق، ولا البكاء في الخلاء العريض، ولكنها تطلب إلى الكاتب أن يحارب ظلما بعينة واقعا من ظالمين بأعينهم، عل مظلومين بأعينهم! إنها تطلب إلى الكاتب أن ينظر حواليه، فإن وجد ظالما أخذ بتلابيبه وحاربه حربا لا هوادة فيها ولا رحمة، فإن سكت الكاتب عن ظلم يراه ويشهده فقد خان الأمانة وخرج - بسكوته عن محاربة هذا الظلم - على قواعد المذهب الوجودي الصحيح.

والوجودية تطلب أن يكون الناس متفقين مع أنفسهم، صادقين معها في السر والعلن، يحملون

مسئولية ما يفعلون، ولا يتنصلون من عمل يعملونه، وألا يكونوا أوغادا منافقين يصنعون ما يطلبه إليهم ذلك الشاعر الذي يقول: فالبس لحال جديدا=والبس لآخر رثا!

تلك هي الخطوط الرئيسية جدا، للمذهب الوجودي، قصدنا بها إيضاح حقيقة المذهب وإن كان إيضاحا يسيرا قصيرا. وما أحرانا نحن المصريين أن نستمسك بأهداف هذا المذهب، فالفساد عندنا مستشر، والنفاق عندنا عام مشترك، والحريات عندنا مضيعة مهدرة. وما أحرانا - قبل ذلك كله - ألا نخوض في حديث لم نسير غوره، ونتعرف - بعد - وجه الرأي فيه، كما يفعل أولئك الذين يعيبون المذهب الوجودي. وأغلب الظن انهم لا يعرفون منه إلا أسمه.

علي متولي صلاح