مجلة الرسالة/العدد 939/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 939 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 02 - 07 - 1951 |
دموع صغيرة
للأديب محمد أبو المعاطي أبو النجا
كان (رأفت بك) يغادر المحطة واضعا يديه في جيوب معطفه الصوفي الثمين وقد رفع ياقته حتى تلتف حول عنقه، فقد كان الجو شديد البرودةوالريح سريعة الهبوب. . وكان بين آن يلتفت خلفه يستعجل الحمال الذي يحمل حقيبته بكلمات مقتضبة. وكان الحمال أو بعبارة أدق الصبي الذي يحمل الحقيبة في الثامنة من عمره؛ وكان يعدو خلفه بخطوات سريعة وهو يشعر بنشوة تدفئ جسمه وتسعد خواطره. . فهو يأمل خيرا في ذلك الأفندي الأنيق. . سيعطيه ثلاثة قروش من غير شك؛ فمظاهر الثراء التي تلوح عليه تحمل (حسونة) على أن لا يتنازل عن هذا المبلغ، وهو مبلغ لا بأس به. سيستطيع أن يشتري (سندوتش) بقرش ويذهب بالباقي إلى السينما وهكذا يكون مثل محروس الذي لا يفتأ يفخر عليه بأنه يذهب إلىالسينما، ويشاهد (الشجيع) وهو في إمكانه أن يجمع نقودا كثيرة ويذهب بها إلى السينما كل مساء مثل محروس، لولا أن بقية الحمالين يسبقونه إلى أمتعة الركاب فهم أقدر منه على السير وسط الزحام، وهم أبرع منه في ركوب القطار أثناء سيره فيقومون بتنزيل أمتعة المسافرين، وبذلك يكون لهم حق المساومة فيها وهكذا يبقى هو تحت رحمة الظروف. وقد أوشك اليوم أن يمضي دون أن يحمل شيا لأحد لولا أن ساقت إليه الأقدار ذلك الأفندي الأنيق الذي ينزل من القطار دون أن يساعده أحد في إنزال حقيبته. هو الآن سعيد من غير شك؛ ففي إمكانه شراء (السندوتش) وما دام الوقت عصرا فيمكنه أن يكتفي به عن العشاء، وفي إمكانه أيضا أن يذهب إلى السينما فيرى (الشجيع) ويتعلم منه كيف يقفز إلى القطار أثناء سيره، وكيف يشق طريقه وسط الزحامببراعة وقوة، بل كيف يتغلب على محروس نفسه حين يساومه على حقيبة أحد المسافرين.
أليست هي تلك الأشياء التي تعلمها (محروس) من (الشجيع) والتي يفخر بها دائما على (حسونة)؟. . .
وكفت طيور أحلامه عن التحليق حين وقف (رأفت بك) أمام محل بيع لعب الأطفال؛ فقد نسى لكثرة مشاغله أن يشتري شيئا منها لأبنائه من القاهرة، وهو لا يستطيع أن يدخ عليهم بدون أن يحمل لعبهم المفضلة. . ووقف (حسونة) يتأمل اللعب في سذاجة الأطفال، ويبدو أنها قد أعجبته إلى حد كبير فقد نسى أن يضع الحقيبة عن كتفه أثناء شراء اللعب!
وسار (رأفت بك) من جديد يتبعه (حسونة). . ولكن خواطره في هذه المرة كانت تختلف تماما عن ذي قبل. . إن الطفل الراقد في أعماقه. . الطفل المستتر خلف هذه الثياب الخرقة التي مزقتها أنواء الحياة. . الطفل الذي قست عليه ظروف المجتمع فحرمته لعبه حين حرمته أبويه. . هذا الطفل قد تنبه فجأة ليهتف بحق ضائع، حق ضاع في غمار ذلك المجتمع الذي تضيع قيه حقوق اليتامى والمشردين. . وهتف في صمت: ما اجمل اللعب وما أجمل. . وما أجمل أن تكون له إحداها!
واستقرت نظراته على حصان من المطاط جميل يحمله (رأفت بك) فيما يحمل من لعب. ما أروع أن يكون هذا الحصان له؛ إذن لواصل النفخ في ذيله المثقوب حتى يكبر ويستوي حصانا كاملا؛ ثم يضعه أمامه ويتأمله بعين فرحة هي عين طفل!
ليت ذلك الأفندي يعطيه إياه بدلا من أجرته؟ وهم بأن يسأله ذلك لولا أن تذكر فجأة أن ثمنه أكثر من أجرته. .
واستولت عليه الدهشة حين أعطاه (رأفت بك) جميع اللعب ليحملها بدلا عنه. . لم يخطر بباله مطلقا أنه فعل ذلك ليتسنى له وضع يده في جيب معطفه، وإنما تسائل في حيرة أتراه أدرك رغبته في التفرج على اللعب؟
أتراه فهم تلك الرغبة من نظراته القلقة التي كانت تتردد بين اللعب والطريق منذ غادر المحل؟ مهما يكن من شيء فهو سعيد ما دامت تلك اللعب ملء حضنه الصغير، وما دام ذلك الحصان قد وجد في يده يتحسس جلده الناعم في شغف كبير!
كانت تلك هي المرة الأولى التي تمنى فيها (حسونة) أن يطول الطريق! وكانت تلك هي المرة الأولى أيضا التي مضى فيها الطريق بسرعة!
وكان حسونة يشعر بضيق نفسي غامر حين ضغط (رأفت بك) (زر) الجرس الكهربائي في شقته وانفرج الباب عن وجوه صغيرة غضة كانت تستبق إلى رأفت بك، فهذا الصغير يطوق عنقه في لهفة، وذاك يثب على كتفيه في مرح، وذلك يهتف في غبطة: ماذا أحضرت لنا يا بابا؟ وهنا التفت رأفت بك إلى الحمال الصغير ليأخذ من اللعب، وهنا أيضا كان (حسونة) لمشاعر مختلطة مبهمة بدت حيرة في عينيه واستحالت وجوما عل شفتيه، مشاعر لم يتضح منها في خاطره غير تلك الرغبة الملحة في أن تكون له لعبة كهؤلاء الأطفال أليس هو مثلهم؟ بل إن فيهم من يكبره!
وانحسرت موجة المشاعر المختلطة عن عواطفه حين أعطاه (رأفت بك) قطعة فضية من فئة الخمسة قروش حدق فيها ببلاهة ثم قال له ليس معي (فكة) يا بك. . ولكن ألبك الذي تأثر بوجومه وانقباضه قال له في عطف وهو يربت على كتفيه
- كلها لك يا شاطر. . .!
وضم حسونة يديه معا على القطعة الفضية وجعل يتأمل وجه الأفندي الأنيق بذهول ثم تمتم بعبارات متقطعة. .
- ربنا يخليك يا بك. . .
وسار في الطريق من جديد. كان شيء واحد هو الذي يتمثل في خاطره، الحصان الجميل. . . وكان سؤال واحد هو الذي يلح عليه
- ماذا يمنعه ألان من شراء الحصان. .؟
ومضت لحظات قصيرة كان بعدها يمسك بحصان المطاط ويضع ذيله المثقوب في فمه الصغير وينفخ فيه بملء رغبته. . حتى إذا أستوى حصانا كبيرا جعل يتأمله في مرح طافر. ثم طاف بذهنه خاطر جميل: لماذا لا يذهب إلى المحطة ليتفرج عليه صاحباه (عطوة) و (أمين)؟ ولماذا لا يريه لمحروس؟ ويزهى عليه به!
وجعل يعدو تجاه المحطة وكله فرح سعادة. وبعد حين من العدو تقاربت خطواته وبدأ يتمهل في سيره. كان يشعر بأنفاسه تتلاحق، وبأعصابه توشك أن تتفكك، وبعينيه يكاد أن يختنق فيهما النور. . كان هناك إحساس آخر بدء يشعر به؛ إحساس لم يراوده منذ حين. . مرة مع الأفندي الأنيق ببائع اللعب. . إحساس بالجوع. .!!
ونظر حسونة إلى الحصان في ضيق هائل وانهال عليه بأسنانه يمزقه ثم ألقى به بعيدا في غيظ
وتابع خطواته المتخاذلة تجاه المحطة وهو يذرف فصت حزين دموعا صغيرة! محمد أبو المعاطي أبو النجا