مجلة الرسالة/العدد 938/على هامش السياسة الدولية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 938 على هامش السياسة الدولية [[مؤلف:|]] |
في الحديث المحمدي ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1951 |
3 - على هامش السياسة الدولية
للأستاذ عمر حليق
من الأساليب التي تتبعها بعض الحكومات الكبرى التي لها مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية واسعة مع شعوب الشرق للتعرف على حقائق الخلق القومي لتلك الشعوب هي جمع كل ما ينشر عن الحكومات الأوربية والأمريكية في ألسنة الرأي العام في دول الشرق من افتتاحيات صحفية ودراسات علمية وتعليقات سياسية وفصول من كتب التاريخ والآداب التي تدرس في مدارس دولة من دول الشرق، وغير ذلك من مواد الغذاء الفكري التي تتوفر لشعب من الشعوب.
ويعرف كاتب هذه السطور أن هناك ثلاث جامعات أمريكية كبرى تقوم الآن بتحليل هذه المواد المجموعة من مختلف بلدان الشرق العربي؛ وهي التي تغذي القارئ العربي بالغذاء الفكري عن أبناء السياسة الأمريكية المعاصرة، وعن التاريخ والأدب الأمريكي، وعن الإنتاج الأدبي الفني الذي يصدر إلى الشرق العربي من هوليود في شكل أفلام أو قصص أو صور فوتوغرافية تمتلئ بها صحف الناطقين بالضاد.
والجامعات الأمريكية المذكورة تقوم بهذا العمل بتكليف من المراجع الأمريكية المسؤولة وعلى نفقتها. ويقوم خبراء علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلم الأنتروبولوجيا الثقافية بتحليل هذه المواد ليتيقنوا من الفكرة التي يحملها الشعب العربي عن أمريكا؛ لا في ناحية السياسة والاقتصاد فحسب، بل في شتى أوجه النشاط الفكري التي يلعب فيه الخيال والاستنتاج دوراً كبيراً.
وهذه الدراسة توفر لصناع السياسة وأرباب الأعمال وقواد الجيش أسلحة علمية على غاية من الدقة والمهارة يستطيعون بواسطتها معالجة مشاكل الشرق والغرب.
والناس في أغلب الحالات يعتقدون أن نشاط دولة ما في توثيق علاقاتها مع الدول الأخرى يقتصر فيه على الدعاية (البروبوغاندة) أو المساعدة المالية أو الضغط السياسي أو ما شاكل ذلك من أوجه السياسة الدولية التي تحمل أنباءها كل يوم الصحف السيارة ورسائل المواصلات الفكرية السريعة وقل ما يفطن القارئ إلى أن هناك أساليب أخرى لتوثيق العلاقات - خيراً أم شراً - بين دولة وأخرى سواء أنكافأت مصالحها أم لم تتكافأ.
فالشعب العربي وشعوب الشرق إجمالاً فقراء في وساءل المواصلات الفكرية السريعة؛ وفقراء في المكتبات العلمية الحديثة، وفقراء في التحليلات والتعليقات السياسية العميقة التي تعالج المشاكل الدولية من وجهة النظر العربية البحتة. فمعظم ألسنة الرأي العام في الشرق عالة في معلوماتها واستنتاجاتها على مجرى وتطورات السياسة الدولية - عالة على وكالات الأنباء العالمية (روتر والأسوشيتدبرس وغيرهما) وعلى بحوث الأخصائيين الأجانب، وعلى هذه المجلات العلمية القليلة الانتشار التي لاتصل منها إلى الشرق العربي إلا طائفة ضئيلة. ولذلك فإن تحليل قارئ الصحف السيارة في العالم العربي عن الشؤون السياسية الدولية متأثر حتماً بما يتغذى به من أنباء وتعليقات ترد إليه مباشرة عن طريق المعلقين السياسيين والصحفيين والكتاب الذين يعنون بتوجيه الرأي العام، والذين يتأثرون بدورهم لذلك الاجتهاد الأجنبي. وقل أن تجد في العالم العربي - وفي أكثر الدول الصغيرة الشرقية والغربية كذلك - مؤسسات أهلية تعيش على دخل ثابت تتوفر على تحليل الاتجاهات الدولية من وجهة النظر القومية البحتة (كما تفعل مثلاً مؤسسات كاربنجي وروكوفلر ومعهد العلاقات الخارجية في أمريكأن وشاثام هاوس في بريطانيا) غير متأثرة بالاعتبارات السياسية الداخلية أو الضغط الحكومي أو المصلحة الاقتصادية الخاصة بطبقة من طبقات المجتمع.
وبالإضافة إلى تلك المؤسسات الأهلية فإن الجامعات في أوروبا تتوفر في دوائرها المختلفة على القيام بمثل هذه التحليلات التي همها الدقة العلمية المجردة، والبحث الثقافي الخالص. وتنشر تلك الدراسات في بحوث، وانتشارها محدود، ولكن أثرها بعيد، إذ أنها توفر لصناع السياسة الرسميين ولغيرهم من المسؤولين عن توجيه الرأي العام وللمثقفين وغيرهم من المواطنين - توفر لكل هؤلاء ذخيرة علمية نافعة.
قلنا إن الشرق وغيره من الشعوب التي لم يكتمل بعد نموها على نحو النمو في العالم الغربي - هذا الشرق يستمد استنتاجاته عن مجرى العلاقات الدولية عن طريق غير مباشر - أجنبي في أصوله وهدفه، إذ لا يعالج القضية من وجهة النظر العربية وإنما يعالجها من وجهة النظر الدولية التي صدرت فيها الدراسة.
وهذا التأثير غير المباشر يخلق في انطباعات الناس في الشعوب الفقيرة تأثيراً لا يمكن أن يكون إيجابياً؛ بمعنى أنه مجرد من (الدعاية) حتى لو افترضنا بأن هذه الدعاية جاءت عفواً بدون تصميم أو تعمد.
وهذا الوضع يوفر للدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العالم العربي - وغيره من الشعوب العالم - وسائل على غاية من الدقة والمهارة لتوجيهه توجيهاً يتماشى والمصلحة الجوهرية لتلك الدول. أو لا يفطن كثير منا في بعض الحالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات إلى هذا النوع من التوجيه فيما تحمله إلينا وكالات الأنباء (الأجنبية) من أنباء أو تعليقات المفروض فيها أن تكون صادقة نزيهة، ولكنها في الواقع صادرة من (مصدر رسمي) أو (مصدر وثيق) في وزارة الخارجية لدولة من الدول التي لها مصالح مباشرة في ترويج ذلك الخير في ألسنة الرأي العام العربي؟ فإذا فطن بعضنا إلى هذا النوع من الغش السياسي في بعض الحالات فإن أكثرنا لا يفطن إليه في جميع الحالات، إذ أنه يستند إلى أسلوب في التوجيه يستمد أصوله من الدراسات الاجتماعية والنفسانية العاطفية للمقومات الخلقية للشعب العربي على نحو ما أشرنا إليه في مكان آخر من هذا البحث، ومن التيارات السياسية والاقتصادية العابرة والوسيلة الوحيدة للتغلب على هذا الوضع - وهو وضع خطير إذا دققت فيه - هي أن توفر لصناع السياسة الرسميين في الدول العربية وللمعنيين بتوجيه الرأي العام العربي من صحفيين ومعلقين سياسيين وغيرهم من المواطنين الواعين وسائل تكشف لهم عن تلك الأساليب العلمية والبحوث العميقة التي توفرت لدى أهل الحل والربط في الدول الكبرى ذوات المصالح التي لها صلات مباشرة وعلاقات جوهرية مع العالم العربي - تلك الأساليب التي يبدو أنها قد حققت قسطاً كبيراً من النجاح لتلك الدول ذوات المصالح في علاقاتها مع العرب - وقد يكون هذا النجاح متماشياً مع المصلحة العربية أو قد لا يكون، إنما المهم أن يكون أولو الأمر والمسؤولون عن توجيه الرأي العام مدركين لتلك الأساليب عالمين بدقائقها وخفاياها. وفي الحديث الشريف (من تعلم لغة قوم أمن شرهم) , واللغة هنا يجب أن لا تعني فقط الكتابة والمخاطبة، وإنما يجب أن تشمل الاطلاع على تلك الأساليب العلمية الدقيقة التي ندرس بها وضعية جيراننا في هذا العالم - خصوماً وأصدقاء - الفكرية والعاطفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها على نحو ما سبق استعراضه.
فدوائر الاستخبارات السياسية والحربية للدول الكبرى تعتمد على مصدرين في دراستها لوضعيات الشعوب الأخرى:
الأول يزودها به عملاؤها من (الجواسيس) من رعاياها أو من مخدوميها الغرباء. وهذا النوع من الاستخبارات لا تحتاج إليه الدول الصغرى في علاقاتها مع الدول الكبرى إلا بقدر محدود، لأنه يركز نشاطه في آلة الحرب، والاتصال بالعناصر من نظم الحكم في الدول المتخاصمة وغير ذلك من الأمور التي تهم الدول التي تقع على عاتقها مسؤولية الحرب والسلم العالمي.
والمصدر الثاني: (وهو الذي يعنينا هنا) استنتاج المعلومات الدقيقة عن الوضعية الحقيقية في دولة ما عن طريق ما ينشر فيها من صحف ومجلات وإذاعات وكتب وتقارير وما يعكسه الممثلون الدبلوماسيين من ألوان الاتجاهات المستجدة في الدولة التي انتدبوا لتمثيل حكوماتهم بها.
وتحت هذا النوع من الاستنتاج تأتي دراسات من المستشارين وأهل الاختصاص في الدوائر الحكومية في المؤسسات العلمية الأهلية والجامعات وحلقات النقاش الحديث المنتظم على النحو الذي لفتنا إليه النظر في مكان آخر من هذه الكلمة وكثير من هذه الدراسات ليس له طابع السرية في أكثر الأحيان؛ وإنما يباع ويشتري في مكتبات معينة يعرفها أكثر المعنيين بهذا اللون من ألوان الثقافة.
إذن فالحصول على النوع الثاني من الاستنتاجات شرعي لا قيود عليه. ويجب أن لا يقتصر هذا النوع من النشاط على الملحقين الثقافيين في المفوضات والسفارات، وإنما يجب أن يخصص له فرع خاص في الدوائر المسؤولة في حكومات الوطن، وأن تشجع الجامعات على القيام به، وأن تقوم على الاهتمام به المؤسسات القومية، وأن ينشر في الناس أو على الأقل يوزع على المعنيين والمسؤولين عن توجيه الرأي العام العربي من كتاب صحفيين ومعلقين بالإضافة إلى الرجال الرسميين والنواب والشيوخ وغيرهم.
وهذا بالفعل ما تقوم به مثلا الحكومتان الأمريكية والبريطانية في صلاتهما مع نواب الأمة وشيوخها والصحافة المحلية ووكالات الأنباء والمراسلين الأجانب والمدنيين السياسيين وغيرهم، إذ أنها توفر لهم من الحقائق الأوضاع السياسية في الداخل والخارج ما تسمح المصلحة القومية بنشره ولا يدخل في عداد ذلك طبعاً التقارير السرية وما شابهها من المراسلات الدقيقة الخاصة
ومن أمثلة الحاجة الماسة إلى هذا النوع من توصيات السياسة الخارجية ما اختبره كاتب هذه السطور منذ بضعة أشهر وقد حدثني مؤخراً عربي مسئول يقوم بعمل سياسي هام في منطقة حساسة على حدود إسرائيل بأنه كان منذ عامين أو أكثر يتلهف للحصول على معلومات عن بعض حقائق الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري اليهودي كما يعكسها الرأي العام اليهودي في إسرائيل والخارج مما ينشر في عشرات بل مئات النشرات والدراسات التي تصدر بالعبرية واللغات الأجنبية في إسرائيل وفي أمريكا وبريطانيا؟. قال لي ذلك وهو عالم بأن اليهود يحصلون على جميع الصحف والمجلات والكتب العربية والإنتاج الفكري العربي - بوسائلهم الخاصة وهي وسائل هينة - ويستعملونها في دقة ومهارة لتوجيه مكرهم السياسي في هيئة الأمم وفي لجان الهدنة العسكرية وفي أعمالهم الجاسوسية في صميم البلدان العربية، وفي توجيه إذاعتهم العربية من راديو تل أبيب وفي بنهم للدعاية في دخيلة سواء عن طريق المراسلين الأجانب الذين يتخذون إسرائيل مركزاً لهم؛ أم عن طريق (مكاتب الدعاية اليهودية) في نيويورك وواشنطون ولندن ونيودلهي وكثير من عواصم العالم.
جرى هذا الحديث بيني وبين ذلك العربي المسؤول في نيويورك فما كان منا إلا أن اتفقنا بضعة أيام استطعنا خلالها أن نجمع بصورة شرعية لا غبار عليها مئات من النشرات والكتب والصحف والتقارير عن إسرائيل باللغة العبرية والإنجليزية والفرنسية من بعض المكتبات التجارية في نيويورك وواشنطون ومن مكاتب الدعاية اليهودية نفسها في هذا القسم من العالم
وبعض هذه المواد يباع علنا وبعضها يمكن الحصول عليه عن طريق الاشتراك الخاص، وبعضها يوزع لمن يطلبه إذا اتبع بعض اللباقة وتفادي إثارة شكوك أولى الأمر اليهود، وهم شعب حذر مرهف الحس فيما يتعلق بمصلحته ومراميه. فإذا توفر على دراسة هذه المادة جماعة من أهل الاختصاص استطاعوا أن يستبينوا كثيراً من تطورات الغش السياسي اليهودي في نطاقه المحلي وفي نطاقه العالمي كذلك، وأن يتفادوا كثيراً من الأخطاء التي دفعنا إليها في صراعنا مع اليهود في إسرائيل نفسها وفي خارج إسرائيل.
هذا مثل أحببت أن أورده في معرض الحديث عن هذا اللون من أساليب الاستنتاج المفيد لمجرى السياسة الدولية وطبيعة العلاقات الدولية، كما توفرها الدراسات العلمية الحديثة للمقومات الخلقية والثقافية لمختلف الشعوب التي تؤلف هذه العائلة الإنسانية وهذا اللون كما ترى جزء من حرب الأعصاب التي لا تنقطع حتى في آونة السلم أو في فترة الهدوء التي تسبق العاصفة.
نيويورك
عمر حليق