الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 937/القَصَصُ

مجلة الرسالة/العدد 937/القَصَصُ

مجلة الرسالة - العدد 937 القَصَصُ
المؤلف: أو. هنري
المترجم: رمزي مزيغيت
عندما يسخر القدر أو الشرطي والنشيد The Cop and the Anthem هي قصة قصيرة بقلم أو. هنري نشرت عام 1904. نشرت هذه الترجمة في العدد 937 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 18 يونيو 1951



عندما يسخر القدر

للكاتب الأمريكي أو. هنري

للأستاذ رمزي مزيغيت

تململ سوبي على مقعده في متنزه ماديسون بقلق واضطراب، ولم يلبث أن انتفض من مضجعه فزعاً مهموماً. فقد اهتزت الشجرة التي تظله وسقطت في حجرة أوراق ذاوية صفراء. وقد دلته التجارب والأيام أن الأوراق الصفراء ما هي إلا نذير الطبيعة الرؤوم لأمثاله من منا كيد الدهر تحذرهم بأن قد آن الأوان ليبحثوا لهم عن مأوى يقيهم قر الشتاء وشآبيب السماء.

واعتقد سوبي رأسه بين يديه وغرق في لجة من التفكير. . إلى أين يذهب، وأي مأوى يختار لفصل الشتاء؟ إنه لا يطمع في القصور المنيفة، ولا يبغي وثير الفراش. . إن كل ما يطلبه وتهفو إليه نفسه غرفة ضيقة حقيرة في سجن الجزيرة يقيم فيها وتعصمه من البرد خلال أشهر الشتاء الثلاثة.

وقد كان سجن الجزيرة هذا مشتي سوبي المفضل لعدة سنوات خلت. . فكان إذا ما قرعت ريح الشتاء أبواب إلى سجن الجزيرة، كما يسعى المترفون إلى اتخاذ الترتيبات للاشتاء في الريفييرا وغيرها. . وها هو ذا الفلك قد أتم دورته وحل الشتاء. وفي الليلة السابقة نخر البرد عظامه رغم ما التف به من صحف وأوراق وهو نائم على المقعد في المتنزه. . وكان بوسعه أن يلتجئ إلى أحد الملاجئ الخيرية الكثيرة في المدينة، حيث يقدم له الطعام والمأوى مجاناً. . إلا أنه كان يفضل ضيافة السلطات القانونية على ضيافة الملاجئ الخيرية، وكانت نفسه الأبية ترى في الاستجداء ضعة وهواناً، فهو إن لم يدفع لمأواه في هذه الملاجئ مالا يدفع له من عزة نفسه ضريبة. . كلا ثم كلا. . أنه لن يستجدي لقمته على حساب كرامته. .

وما كاد يقف عند هذا العزم حتى انقلب يفكر في الوسيلة التي توصله إلى السجن. . وكانت الوسائل كثيرة سهلة، ولكن أفضلها أن يدخل مطعماً من المطاعم الراقية ويتزود بأكلة شهية لرحلته الطويلة إلى الجزيرة، وعندما يفرغ من طعامه ويتأكد أن كل زاوية من الزوايا معدته الخاوية قد سدت وامتلأت، يدعو إليه الخادم وينبئه بخلو جيبه، فيستدعي هذا شرطياً من الخارج دون ما ضجة أو جلبة إلى حيث يمثل أمام القاضي العادل. . .

وللحال غادر سوبي مقعده في المتنزه، وانطلق في شارع طويل عريض يغص بالحركة، حتى وصل إلى مطعم فخم تنبعث منه رائحة تفتح لها شهرة المكظوظين. ووقف سوبي لحظة أمام الواجهة، وأرسل نظراته إلى الداخل متأملاً مفكراً. هاهي ذي مائدة لا تبعد كثيراً عن الباب لا يشغلها أحد. فلو قدر له أن يصلها دون أن ينتبه أحد إلى سرواله المهلهل وحذائه الممزق، لهان الأمر وتحققت الآمال. . فهو حليق الذهن نظيف المعطف، ورباط عنقه أنيق جميل أهدته إليه إحدى المبشرات يوم عيد الشكر. . فإن ما جلس إلى المائدة فلن يظهر منه إلا الجزء الأنيق، ولن يداخل الخادم أدنى شك في أنه سيد محترم. . وعندئذ يطلب منه أطيب المأكولات، ولكن باعتدال، حتى لا يثير غضبة المدير وقت الحساب فينزل عقاباً غير الذي يرغب. . وارتاح سوبي لهذا الخاطر واتجه نحو الباب، ولكنه لم يكد يتخطى العتبة حتى اتجهت عينا رئيس الخدم إلى سرواله وحذائه. . وما هي إلا لحظات حتى تلقفته أيد قوية جبارة أخذت تجره دون ما ضجة إلى أحد الشوارع الجانبية.

وقدر سوبي أن الوصول إلى السجن لن يكون سهلاً كما تصور. ثم انطلق في شارع آخر وهو يعمل الفكر في وسيلة أضمن. وما كاد يسير بضعة أمتار حتى لفت نظره واجهة متجر كبير تشع منها تشع منها الأنوار الباهرة، وقد عرضت فيها شتى الملابس الثمينة. . وللحال التقط حجراً، وقذف به زجاج الواجهة فحطمه. . فتراكض السابلة يتساءلون عن الخبر، وقدم شرطي من رأس الشارع يهرول مسرعاً. ولكن سوبي لم يتحرك من مكانه، بل وقف جامداً ويداه في جيبه. . وواجه الشرطي بابتسامة عريضة. . وسأله رجل البوليس: من فعل هذا؟ فرد عليه سوبي برزانة وهدوء: أو لا يخامرك شك بأني قد أكون أنا من تسأل عنه؟

ولكن رجل البوليس لم يفكر في ذلك قط، بل لم يشأ أن يتخذ من سوبي شاهداً على ما حدث. . فسارق الواجهات لا يقف مكانه هادئاً ويداعب رجل القانون. . بل يولى بجلده هارباً. . وتلفت الشرطي حوله، فرأى رجلاً يركض مسرعاً للحاق بسيارة، فقبض على هراوته بشدة وانطلق وراءه مهرولاً. . ولوى سوبي شفتيه ازدراء وتابع سيره يائساً خائباً.

وعلى الرصيف المقابل رأى مطعماً من الرجة المتوسطة، شهي الطعام معتدل الكلفة. فلم يتردد لحظة واتجه إليه ودخله دون أن يلفت إليه الأنظار. ولما جاءه الخادم طلب من أطايب المأكولات أصنافاً وألواناً. وعندما انتهى دعا الخادم إليه وقال مبتسماً: إن جيبي يا صاحبي خال، فهيا أسرع واستدع البوليس، ولا تتركني أنتظر طويلاً. . ولكن الخادم قال مزمجراً - وما حاجتي إلى رجال البوليس؟ ثم التفت إلى زميل له قريب وأشار إليه بطرف عينه، فأقبل هذا عليه وأمسك الاثنان بسوبي من كتفيه وجراه حتى الباب ثم قذفا به إلى عرض الرصيف. . ولملم سوبي نفسه ونهض. . وعلى مقربة منه رأى شرطياً فعاوده الأمل. . ولكن الشرطي قهقه عالياً وانثنى في طريقة يواصل دورته. .

وواصل سوبي سيرة وقد تملك اليأس نفسه وقوض صروح أحلامه. . وقطع مسافة طويلة دون أن يبرق في ذهنه ما يحيى ميت الآمال. . وعلى حين غرة رأى سيدة فتية ممشوقة القد تقف أمام واجهة مخزن كبير تطوف بعينيها في معروضاته وعلى مسافة قريبة منها ينتصب شرطي طويل تبدو على محياه علامات القسوة والصرامة. . فخطر ببال سوبي أن يمثل دور أفاق يعاكس السيدات، وشجعه على ذلك مظهر السيدة الأنيق ووجود رجل البوليس، وقدر أنه لن يلبث أن يحس بقبضة رجل القانون تهوى على كتفه وتسوقه إلى مشتاه المحبب في سجن الجزيرة. . وللحال أصلح سوبي رباط عنقه وأمال قبعته فوق أذنه، واتجه نحو السيدة. . ولما اقترب منها أخذ يحملق فيها ويسعل ويتنحنح ويبتسم. ثم نظر بطرف عينه إلى الشرطي فرأى أنه قد انتبه إليه وراح يصليه بنظراته الحادة. وتململت السيدة في وقفتها ولكنها لم تنتقل من مكانها. . فتقدم سوبي منها بجرأة ثم رفع قبعته عن رأسه وقال لها: أهذ أنت يا باديليا؟ هلا جئت لنلعب معاً في ساحتنا؟ وكان رجل البوليس لا يزال يرقبه، وما كان على السيدة إلا أن تشير بإصبعها إليه حتى يكون سوبي في طريقة إلى الجزيرة. ولكن السيدة لم تفعل شيئاً من ذلك، بل ألقت بيدها على كتف سوبي وصاحب جذلة: كم اشتهي ذلك يا عزيزي ما بك. . ثم تأبطت ذراعه وهمست في أذنه: اعذرني إذ لم ألتفت إليك قبل الآن، فقد كان الشرطي يرقبنا عن كثب. وسار سوبي مرغماً إلى جانب صديقته المزعومة ومرا من أمام الشرطي وقد خابت الآمال وفاته حلم الاعتقال. وعندما وصلا إلى منعطف الشارع تملص سوبي من رفيقته وأطلق ساقيه للريح. . ولم يقف إلا عندما وصل ميدانا يغص بالحركة، فسار في الزحمة متأملا مفكراً. وما كادت عيناه تقعان على قبعة شرطي ثالث حتى لمعت في ذهنه حيلة جديدة. فنطلق في اتجاهه يترنح في مشيته كالسكران يضرب بالمارة يميناً وشمالاً ويغني بأعلى صوته أبذأ الأنعام. . وتأمله الشرطي لحظة ثم أدار له ظهره وقال لأحد المارة - هذا أحد المحتفين بحفلة كلية هارتفورد الخيرة، ولدينا تعليمات بأن لا نعترض أمثاله ما داموا لا يؤذون. وسمع سوبي وينصرفون عنه. .؟! وتابع سيرة بعد أن زره سترته ليدرأ عن نفسه برد الليل. . وفي أحد حوانيت التبغ رأى سيداً أنيق الثياب يشعل سيجاراً وقد ترك مظلته الحريرية الثمينة بالقرب من الباب. . فلم يتردد سوبي ودخل المخزن وأخذ المظلة وعاد إلى الشارع ببطيء وهدوء، ورآه السيد وتبعه مسرعاً وهو يقول - هذه مظلتي. . هذه مظلتي. . فرد عليه سوبي بازدراء - أحقاً؟ إذا كانت فعلاً مظلتك فلم لا تدعو البوليس؟ لقد سرقتها. . أليس كذلك؟ هيا إذن واستدع البوليس. . . وها هو أحدهم يقف هناك عند المنعطف. . وخفف صاحب المظلة من سرعته وكذلك فعل سوبي مخافة أن يتراجع السيد وتفوته الفرصة. وراقب البوليس ما يجري باهتمام. . وقال السيد - عفواً، عفواً، فكثيراً ما يحدث هذا الالتباس، وإني لأعتذر عما بدر مني إذا كانت هذه مظلتك فقد أخذتها اليوم خطأ من أحد المطاعم وأنا أحسبها مظلتي، فإذا عرفت فيها مظلتك فأرجو. . . فقاطعه سوبي بحدة: طبعاً إنها مظلتي. . . وعاد صاحب المظلة أدراجه، وانصرف اهتمام الشرطي إلى مساعدة سيدة تقطع الشارع من رصيف إلى رصيف واتجه سوبي جهة الشرق وطرق شارعاً خرباً. . . ثم قذف بالمظلة إلى إحدى الحفر بغضب وثورة وهو ينزل اللعنات على رؤوس رجال البوليس الأغبياء. ووصل أخيراً إلى شارع يخف فيه الضجيج وتقل الحركة، واتجه دون ما شعور صوب متنزه ماديسون. وعند منعطف انعدمت فيه الحركة وانقطعت السابلة توقف سوبي عن السير وثبت في مكانه وقد عقل منه القدم والقلب معاً. . فعلى بعد خطوات قليلة منه رأى كنيسة عتيقة تآكلت حجارتها وتفتتت ومن زجاج نوافذها الملون ينبعث شبه ضوء أرجواني يحمل على أمواجه أنغام أرغن ناعمة شجية، نفذت إلى أعماق روحه وملكت عليه لبه. . وكان البدر يخطر في كبد السماء باسطا على الكون ستراً من لجين، والطير المستجم على الشجر يزقزق في أمن وهدوء. . . فكان لهذا المشهد الطبيعي وذاك النغم الهادئ في نفس سوبي فعل السحر، فوقف وقفة المتعبد الضارع في هيكل الخشوع. وترك رأسه يسقط على صدره وأرخى لفكرة العنان. . إنه ليذكر هذا اللحن السحري ويعرفه تماماً. . لطالما ترنم به وردده يوم كانت حياته هنيئة رخية يظللها عطف الأب وحنان الأم. ويجملها أنس الصحب والرفاق ولذة الأمل والرجاء. آه ما كان أحلاها من أيام. . لقد صدق من قال: إن الدهر مداج ذميم يستل الشقاء من ضلع الهناء. ولكن لم ألوم الدهر وأنا الملوم أولاً وآخر؟ لقد أبيت الهدى والإرشاد، وركبت رأسي وسرت وفق هواي تاركاً خطاي حرة مسترسلة في دروب المعاصي والآثام، حتى استقر بي المطاف على مقعد في أحد المنتزهات. . ودفن سوبي وجهه بين راحتيه كأنما يحجب عن عينيه صور ماضيه البغيض. . ولم يلبث أن أشرق في ذهنه خاطر جميل، وشعت في ظلمات نفسه بوادر أمل. . لم لا يصلح حاله ويبدأ حياته من جديد. . إنه مازال في ربيع شبابه وكامل قوته. . فليجند قواه الفتية ويشنها حربا عاتية على قوى الشر والخمول. نعم! سينزل إلى الميدان، ويزاحم بمنكبيه، ويقرع أبواب العمل بقبضتيه حتى تستجيب له. إنه يذكر أن مستورداً للغراء كان قد عرض عليه يوماً أن يعمل عنده سائقا، فأبي ترفعاً. . . سيذهب إليه في الغد ويعمل عنده بأي أجر، حتى يجعل من نفسه شخصاً جديراً بالفخر.

وضاء وجه سوبي لهذا الخاطر وافتر ثغره عن ابتسامة مشرقة. . ولكنه سرعان ما انكمش في نفسه وغاض البشر من محياه، عندما هبطت على كتفه قبضة ثقيلة. فالتفت وراءه ليرى شرطياً يتأمله. وسأله الشرطي:

- ماذا تعمل هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

- فقال سوبي: لا شيء

- إذن فهيا معي إلى قسم البوليس. .

وفي اليوم التالي أصدر القاضي حكمه عليه بالسجن ثلاثة أشهر في سجن الجزيرة.

رمزي مزيغيت