الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 936/على هامش السياسة الدولية

مجلة الرسالة/العدد 936/على هامش السياسة الدولية

مجلة الرسالة - العدد 936
على هامش السياسة الدولية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 06 - 1951

2 - على هامش السياسة الدولية

للأستاذ عمر حليق

حددت هيئة اليونسكو موضوع البحث في مسألة الخلق القومي وعلاقته بتوتر العلاقات الدولية على أساس فحواه أن (هناك أوجه تباين جوهري في المقومات الخلقية والعاطفية في الثقافات المختلفة، الأمر الذي لا يزيله مجرد تنسيق التعامل الاقتصادي والتعاهد والتحالف السياسي). فزوال هذا التباين لا يتم إلا بإعادة النظر في كثير من العوامل التربوية والثقافية التي تعيش عليها الشعوب، وتوجيهها بحيث تتلقى على صعيد واحد مع العوامل التي تعيش عليها الشعوب الأخرى، وبحيث يصبح لدى العالم بأسره قاسم مشترك أعظم متين الأصول صادق النية صلب متماسك (لأن جذوره في صميم التكوين النفساني لبني آدم) وهو لذلك قادر على صهر هذه الانفعالات العاطفية التي تثور في نفس شعب ما في حالة من حالات القضية ضد شعب أو شعوب اختلف معها في بعض أوجه الحياة السياسية أو الاقتصادية.

وأول ما يلاحظ المتابع للدراسات التي عنيت بالخلق القومي وتباينه بين الشعوب أن كثيراً من أهل الخبرة يقولون بأن من الممكن التخفيف - من حدة هذا التباين بين الشعوب التي يختلف خلقها القومي عن أخلاق الشعوب الأخرى - من الممكن التخفيف من حدة هذا التباين عن طريق برنامج واسع ينفذ على مستوى عالي ويستهدف تعريف شعوب العالم تعريفاً علمياً صادقاً على طبائع الشعور الأخرى؛ وعلى المؤثرات والعوامل المحلية البحتة التي تعيش عليها تلك الشعوب. وهذه الوسيلة كما ترى تستند إلى مبدأ أولي في علم النفس.

(والتعريف) وسيلة تختلف اختلافاً أساسياً عن (الدعاية) أو (البروبوغاندة)

فالأولى - تؤمن بان المرء عدو لما يجهل، فإذا استطاع التعرف على حقيقة ما يجهله إزاء عداوة حادة لا لذلك العدو (المزعوم) وإنما للجهل الذي كان سبباً للعداوة.

أما الثانية (البروبوغاندة) فهمها الترويج لفكرة معينة كجزء من سياسة مرسومة هدفها إزالة غشاوة الجهل الذي يعمي شعباً ما من حقيقة مقاصد شعب آخر. ولكن إزالة هذه الغشاوة بواسطة البروبوغاندة تكون في أغلب الحالات بطرح غشاوة أخرى على أعين الناس لتعميهم عن حقائق ومقاصد تهتم (البروبوغاندة) بطمس معالمها تعمداً واقتداراً.

وتعريف الشعب بالمقومات الخلقية والثقافية الحقيقية للشعوب التي تشارك هذه المعمورة هدف لا يتم إلا عن طريق التبادل الثقافي الواسع النطاق؛ بحيث لا يقتصر نفوذه على الخاصة؛ وإنما يشمل المجالس العامة. كذلك شرط أن يأتي عن يد هيئات ليس لها طابع (قومي) ولا توجه مراميها وأهدافها أوساط ذوات مصالح سافرة أو مستترة.

وتطمح مثلاً مؤسسة اليونسكو أن تكون النواة لمثل هذه الهيئات (العالية) التي تستطيع تعريف الناس في مختلف الأمصار بالثقافات والمقومات الخلقية لمختلف الشعوب في نزاهة مقصد وتجرد من (البروبوغاندة) وما إليها من أوجه الاتصال المغرض.

وهنا يتساءل المرء عن اختلاف اللغات وما يخلقه من صعوبات جمة في سبيل التعرف الجدي على ثقافات الشعوب الأخرى. فلقد باءت بفشل ذريع محاولات البعض لجعل (الاسبرانتو) لغة عالمية.

فهناك من أهل الخبرة في شؤون المواصلات الفكرية من يؤكد بأن اللغة ليست هي العائق الجوهري الوحيد.

فهناك مثلاً العادات والسلوك التقليدي والتعبيرات المتباينة التي تعبر بها بعض الشعوب عن انفعالاتها الخاصة، والتي توارثتها جيلاً بعد جيل، وأصبحت ملازمة لها ملازمة الطبيعة التي توفر لها الغذاء والمأوى فطابع الناس مزيج من الوراثة والبيئة.

فالعادة في اليابان أو الصين مثلاً أن يبتسم المرء إذا أصابته ملمة أو أهانه شخص. فالابتسام في مثل هذه الحالة يفسر على أنه إشارة مهذبة من الشخص الذي أصابته الملمة أو لحقت به الإهانة، وهذه الإشارة دليل على أنه لا يرد أن يزعج الناس بمصائبه وانفعالاته الشخصية الخاصة.

فإذا كان ابتسام الصيني أو الياباني يفسر على هذا النحو فإن كثيراً من سوء الظن والالتباس الضار يحدث فيما لو وجد أمريكي أو أوربي نفسه أمام ياباني أو صيني لحقت به مصيبة أو أصابته إهانة فظل يبتسمن فأكبر الظن أن الأمريكي أو الأوربي سيقدر في نفسه بأن الياباني أو الصيني يزدرى به في سخرية قاتلة (في حالة قبوله الإهانة بالابتسام) أو أنه لا يتأثر بالانفعالات الإنسانية المؤلمة (في حالة مواجهته المصائب والملمات باسماً).

فإذا نقلت هذا الوضع إلى أعلى مراحل الاتصال في مجال السياسة الدولية بين أمريكا والصين أو اليابان مثلاً فن رد الفعل سيكون ولا شك ذو عواقب وخيمة على تيار العلاقات بين البلدين. وأكبر الظن كذلك بأن مثل هذه الوضعية قد تؤثر تأثيراً سيئاً على ما يطمح إليه المتفاوضون من تنسيق العلاقات الاقتصادية أو السياسية بين البلدين.

وحين يتوفر لأكثرية الشعب الأمريكي مثلاً معرفة حقيقة (الابتسام) أو سواه من التقاليد والعادات عن الصين؛ يسهل على كلا الشعبين أن يتفاهما ويسويا مصالحهما في جو أكثر ملائمة وأدعى إلى تبادل حسن الظن والوداد.

ومن منا نحن العرب من لا ينفعل حين يقرأ أو يسمع ما يفسر به بعض الغربيين انفعالاتنا وتقاليدنا وعاداتنا وسلوكنا تفسيراً خاطئاً وهو لا يستند إلى معرفة حقة بمغازي تلك العادات والتقاليد؛ حتى لو كان التفسير مدفوعاً بروح النزاهة ونيل المقصد؟ الواقع أنك تستطيع أن تفسر كثيراً من أوجه التوتر في علاقاتنا مع الدول الغربية بسوء الفهم الذي يصدر عن صناع السياسة الغربيين في معرض تناولهم لقضايا العرب ومشاكلهم ومصالحهم في شتى أوجه السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية كذلك.

ويقترح المعنيون بهذه الناحية من العلاقات الإنسانية بأن من أفضل الوسائل للتغلب على هذا الجهل بالعادات والتقاليد هو أن تقوم جماعة من أهل الاختصاص في علوم الحياة (الأنترويولوجيا) وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ واللغات وغيرهما بدراسة ثقافة معينة - ولنفرض ثقافة الهند - وأن ينفقوا في هذه الدراسة سنوات في صميم القطر الذي ينوون دراسة ثقافته، على أن يكون هؤلاء العلماء من جنسيات مختلفة يساعدهم عدد من العلماء وأهل الدراية من الهنود أنفسهم.

فالثابت أن الأجنبي أكثر ملاحظة للتعبيرات الخاصة والتقاليد والعادات التي تتمايز بها الشعوب. على أن الباحث الأجنبي لا يستطيع استيعاب مغزى تلك العادات والتقاليد دون الاستعانة بأهل الدراية من الذين يمتثلون لتلك التقاليد ويسيرون على تلك العادات، عندئذ يتحقق أكبر قسط من الفهم لأوجه الثقافة جميعها.

وحين تعم مثل هذه الدراسات على الشعوب الأخرى بصورة واسعة وعلى الأخص بين الدبلوماسيين والصحيين والتجار والزوار من الأجانب الذين تدفعهم الظروف للاتصال المباشر بالشعب الذي درست ثقافته دراسة علمية مسهبة - حين تعم مثل هذه الدراسات يسهل الاتصال الشخصي ويسهل كذلك تفهم ما يصدر عن أهل تلك الثقافة من إشارات وتعبيرات لا تفسرها الأجانب من أصحاب المصالح تفسيراً خاطئاً قد يخلق - في المجال السياسي مثلاً - مشاكل لها ذيولها على صميم العلاقات الجوهرية بين البلدين.

والواقع أن وزارات الخارجية في كثير من الدول الكبرى تقوم الآن بالإنفاق في سخاء على مثل هذه البحوث لتوفر لمبعوثيها الدبلوماسيين ورجال السياسة والحرب مثل هذه الدراسات النافعة التي تسهل لها مهمة اتصالها مع ممثلي الشعوب الأخرى؛ سواء في المجال الرسمي أو شؤون الدعاية أو التبادل التجاري.

فقبل خمس سنوات مثلاً كلفت وزارة الخارجية والحربية في واشنطن الدكتورة روث بنديكت أستاذة علم الأنتروبولوجيا في جامعة كولومبيا بنيويورك بدراسة الثقافة اليابانية على أساس من علم الأنتروبولوجيا لترى ما إذا كان من المناسب لمصلحة الاستقرار السياسي والعسكري في اليابان - من وجهة النظر الأمريكية طبعاً - أن يظل الميكادو عاهلاً لليابان أم أن إبعاده عن العرش هو خير أو أبقى، فأوصت الدكتورة بنديكت بوجوب بقاء الميكادو وبوجوب القيام بإجراءات عديدة كلها تستند إلى الدراسة الاجتماعية. وقد نفذ الجنرال ماك آرثر حاكم اليلبان العسكري آنئذ جميع تلك التوصيات فحاز نجاحاً حفظ للمصلحة الأمريكية في اليابان معظم نواحيها الهامة.

وعلى سبيل المثال أيضاً في أهمية هذه الدراسات الأنتروبولوجية في خدمة سياسات الدول؛ ما حاولت حكومة إسرائيل القيام به منذ بضعة أشهر حين وضعت تحت تصرف أحد كبار أساتذة علم النفس الاجتماعي (وهو يهودي أمريكي) مبلغاً كافياً من المال لتأليف بعثة من الباحثين من اليهود الذين يحملون جنسية أمريكية ومن بعض الأتراك لزيارة شتى بلدان الشرق العربي لدراسة عادات أهله وتقاليدهم دراسة مباشرة لمعرفة مدى العوامل النفسانية التي تؤثر في مشاعرهم. وكان هدف تلك البعثة مراقبة الطريقة التي يربي فيها العرب صغارهم، والوسيلة التي يظهرون بها انفعالاتهم الخاصة إزاء الحوادث المرة أو المحزنة، مع دراسة أمثالهم العامية والطريقة التي يأتون بها ويدفنون بها موتاهم وغير ذلك من أوجه المعيشة التي يمتثل لها الكثرة من سكان الشرق العربي وكان على أعضاء هذه البعثة اليهودية أن ينفرد كل منهم بدراسة وجه من أوجه هذا النشاط الذي أشرنا إليه، ويضع فيه تقرير خاصاً في أسلوب ومنهج علمي معين، ثم تجمع هذه التقارير ويشرف على صياغتها العالم الكبير الآنف الذكر ليستحق منها زبدة تكون بمثابة دليل لصناع السياسة اليهودية (إسرائيل) يستطيعون بواسطته توجيه سياستهم نحو العرب سواء في شؤون الحرب، أو في مسألة الإذاعة العربية في راديو إسرائيل، أوفي أعمال الجاسوسية داخ البلاد العربية، أو في أوجه سياسة اقتصادية أخرى.

ومن حسن الحظ أن حكومة عربية بواسطة سفارتها بواشنطن اكتشفت هذه المؤامرة اليهودية في حينها فأوعزت إلى بقية الحكومات العربية عن طريق الجامعة العربية بوجوب منع هذه البعثة اليهودية من الدخول إلى البلدان العربية. وكان ذلك بعد أن كانت حكومة لبنان قد سمحت عن حسن نية لبعض أفراد هذه البعثة بالدخول إلى أراضيها.

هذه بعض ألوان النشاط الذي حاول بعض المعنيين بالناحية النفسانية في العلاقات الدولية القيام به في مجال التعرف على قضية الخلق القومي وتباينه ووسائل التغلب على ما يخلقه من عقبات في حقل التعاون الدولي.

نيويورك

للبحث صلة

عمر حليق