الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 936/الثنائية والألسنية السامية

مجلة الرسالة/العدد 936/الثنائية والألسنية السامية

مجلة الرسالة - العدد 936
الثنائية والألسنية السامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 06 - 1951


للأستاذ الأب مرمرجي الدومينيكي

بقية ما نشر في العدد الماضي

هذا ومن المألوف ومن المقرر عند علماء العربية الأقدمين والمعاصرين، وعند الأجانب من مستسلمين ومستعربين، أن الزيادة تجري بالتتويج والإفحام والتذييل، وفي كل حال من هذه الأحوال يتم الأمر علي سبيل الأغلبية، أي بالسماع وليس بقياس محكم، وهذه طائفة من الأمثلة على أنواع الزيادة الثلاثة:

أولاً: الزيادة بالتتويج: (يقطين) كل شجرة لا تقوم على ساق. الياء زائدة تتويجاً لأن اللفظة عن قطن أي انحنى، إذ لا ساق فينحني نحو الأرض. (ترفل، تبختر كبرا، بزيادة التاء تتويجاً، لأن الأصل رفل: أرسل إزاره وتبختر.

(نهبل) من هبل بزيادة النون. (هجرع وهبلع) بزيادة الهاء تتويجاً، لأن الأصل جرع وبلع

ثانياً: الزيادة بالإقحام: (زنبيل) من زبيل، بإقحام النون. (بلطح) من بطح، بإقحام اللام. (شربك) من شبك، بإقحام الراء. (جلمح) من جلح، بإقحام الميم، (دربل) من دبل، بإقحام الراء. (طرمح) من طمح، بإقحام الراء. (عنصل) من عصل بإقحام النون.

ثالثاً: الزيادة بالتذييل: (بلسن) من بلس، بإلحاق النون. (حلكم) من حلك، بإلحاق الميم. (عبدل) من عبد بإلحاق اللام. ومن هذا الشيء كثار في العربية وبقية الساميات فما قد سلم به وقرره الأقدمون من الزيادة بالحروف وطريقة إجرائها في الرباعيات والثلاثيات يسوغ بكل حق وصواب تطبيقه على الثنائيات. وهذا ما قد حاولنا بيانه في تأليفنا الثلاثة الموضوعة لهذه الغاية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، مع العلم اليقين بوعورة المسلك.

مع ذلك بعد التقصي والاختيار يمكن أن نضيف الحروف القابلة الزيادة على الرساس الثنائية من باب الأغلبية كما يلي:

أولاً: كل حرف من الحروف النابعة يصلح أن يكون تارة وتارة مقحمة مذيلة هي: أت ع ل م ب هـ وى

ثانياً: الحاء والشين تصلحان للتويج والتذ ثالثاً: هذه الحروف التالية تستخدم للتذييل، وهي: س ب ك ق ولمعرفة الأمثلة تفصيلاً على طريقة زيادة كل حرف من هذه الحروف، يمكن الرجوع إلى كتبنا، ففيها من الشواهد المؤيدة غالب ما أبديناه. فأكتفي بإيراد نماذج على الطريقة المتنوعة الجارية بضرب من الاعتباط، أي لدواع غير داعي الدلالة على معنى خاص أو دور معين.

فهناك الزيادة من باب الإلحاق، والإلحاق يحد: بكونه زيادة لا لإضافة معنى جديد، بل لمحص الموافقة بين وزن ووزن آخر ليعامل معاملته.

ولا يكتفي لحروف الإلحاق بأن تكون من حروف سألتمونيها، بل يستعمل غيرها أيضاً. هو ذا الإلحاق من جهة اللام، نحو (ضريب) من ضرب، (جليب) من جلب، (قعدد) من قعد، رعدد، رعشن، كرمم، حرجج، دخلل، شملل، صعرر

هناك الإلحاق من غير جهة اللام، نحو (حنظل) من حظل، (جندل) من جدل، (فلحص) من فحص، (تلعس) من لعس

هناك الزيادة من باب الغنة، نحو (رنز) من رز، (حنظ) من حظ، (أنجار) من أجار، (انجاص) من أجاص

هناك الزيادة لتقوية الحركة دون قصد معني معين، نحو (برا) يقال منه: يرع والنسبة يرعى، أن يراني، كما يقال توقع من توقى، وجزأ وجزع من جزا، وبدأ وبدع من بدا.

هناك الزيادة لعذوبة اللفظ، نحو (يا أبت) عوض يا أبي، (عصاتي) عوض عصاي، قدني قطني بإقحام النون، لعلت ثمت وربت، بإلحاق التاء.

هناك الزيادة لإقامة الوزن، نحو تبيضضي بدل تبيضي هذا، ومن نتائج نظرية الثنائية، أولاً أن المثال والأجوف والناقص ما هي سوى مزيدات أو توسعات في الرس الثنائي الذي يجيء فيه التوسع بتكرار الثاني منه، أو بتشديده، أي بتكراره لفظاً ووضع الشدة عليه.

ثم من جملة أنواع التوسع في الأصول مثلاً: أن الفعل (وثب) مزيد في الثنائي (ثب) وأن (قام) هو الثنائي (قم) أشبعت حركة حرفه الأول، مما يظهر في السريانية في كلمة (قم) إذ لا ألف مقحمة فيها، ومن الكتابة العربية القديمة المتجلية في رسم المصحف المحافظ عليه حتى اليوم. إذ لا نجد فيه قام بل (قم)، كذلك الفتحات المشبعة لا يرسم عليها ألف. ويبين ذلك أيضاً في مجرى التصريف الذي إن هو إلا رس الكلمة ملحقاً به الضمائر، فيقال: (قم) ت (قم) تم، (قم) نا، مما جاء دليلاً واضحاً على أن الأصل هو الثنائي، وأن هذا الثنائي يدل على معنى تام في حالته الثنائية، وكذا الشأن في الناقص، فإن لامه ليست حرفاً، بل إطالة أو إشباع الفتحة السابقة، مثلاً: (رمى) هو الثنائي (رم) حرك حرفه الثاني بفتحة مشبعة علامتها في الرسم ألف، كذلك (رم) ت هي (رم) نا هما، مما يظهر فيه الأصل الثنائي ملحقاً به ضمير متصل.

أما المضاعف فهو بالحقيقة مركب من حرفين كما يتجلى ذلك في معاجم الأقدمين (ككتاب المقاييس) لابن فارس، فانه يسميه (الثنائي) ويذكر في المادة حرفين لا غير، ويرى ذلك في المضاعف الرباعي أو المطابق كما يدعوه ابن فارس، وما هو سوى ثنائيين مكررين، مثلاً: (قرقر)، (خرخر)، (دبدب)، (مرمر)، (لعلع)، (لألأ. . . إلخ).

ومن هذه المادة شيء كثير في اللغات السامية ولهجاتها، وقد جمعنا منها 350 في العربية الفصحى، ويوجد أكثر منها في اللهجات. وما هذه الأفعال وأسماؤها إلا حكاية أصوات الطبيعة والحيوانات المندفعة إلى تكرار مقاطع لا حروف، وكل مقطع مركب عادة من حرفين متحرك فساكن، مما هو وارد على هذا النمط في اللغات السامية الباقية، كالسريانية مثلاً نجد فيها (بلبل) (زلزل). وكذا الحال في اللهجات، أما الفصحى، فالفتحة الواقعة في آخر الثنائي، وفي آخر الأفعال السالمة، إنما كان داعي وجودها هو الوصل. فعوض القول: خرخر الماء، قيل في الوصل: خرخر الماء.

وبدل مثل الرجل قيل في الوصل، قبل الرجل وبعد ذلك بقيت الفتحة في غير حال الوصل.

وأنت ترى أن الطبيعة عينها ميالة إلى الثنائية، لا إلى الأحادية، كما يمكن بعضهم التوهم أن الإنسان الأول بدأ يتكلم بحروف منفصلة، لأن الحروف المنفصلة لا وجود لها إلا في جدول الأبجدية، أي في الكتابة ولا في اللفظ، والسبب أن أعضاء النطق عينها لا تخرج للتكلم حروفاً صامتة متفرقة، بل مقاطع مركبة من الصامتات تحركها الصائنات.

ومن الأدلة علو وجود الثنائي في أصل اللغات ولا سيما السامية منها، هو أن المضاعف العربي الذي يقال إنه مركب من ثلاثة حروف أصلية لا تجد مقابله في السريانية إلا بحرفين اثنين لا أكثر، مثلاً مقابل (مص) مص، وبحذاء (حم) حم، وبازاء (مس) مس وهكذا كل المضاعفات التي هي بالحقيقة ثنائيات. الثنائي وارد في كل الساميات متصفاً بمعنى حقيقي وتام ولنا برهان حسي جلي على وجود الثنائي في أصل اللغة يستخرج من العناصر الأولية للغة العربية، وهي أسماء الأصوات ودعاء الحيوانات وزجرها، وبعض أسماء الأفعال، فهي ثنائية. ومنها كان بدء صوغ الفعل المضاعف ومكرره. مثلاً (أف) كلمة تكره (آه) للتوجع (به) بخ لاستعظام الشيء (غس) لزجر الهر (ضع) اسم صوت يزجر به الجمل عند ترويضه (بس) دعاء، وزجر للغنم، (صه) أمر بالسكوت، (مه) أمر بالكف.

فمن هذه الثنائيات صيغ أفعال إما بتحريك الساكن وتشديده؛ وإما بتكرار الثنائي ذاته وتحريك الآخر في العربية. فقيل: أف، أه، به، بخ، غس، ضع، بس، صهصه، مهمه.

وكذا القول في: (تب)، فإنه مشتق من ثب، ومنه المكرر (ثب ثب).

أما (وثب) فهو ثب زيدت فيه الواو تتويجاً، فحصل من ذلك ما يدعى في الصرف مثالاً، وجدير بالملاحظة كيفية وقوع الزيادة في (ثب)، (ووثب) أي بإضافة حرف مع بقاء اللحمة المعنوية بين المجرد والمزيد، وهي بالحقيقة مستمرة بينهما، إذ أن (ثب) يراد به الجلوس بتمكن، و (وثب) يعني القعود في لغة حمير، ويدل على النهوض وعلى الظفر، على أن هذا التضاد يزول إذا عرفنا أن الثنائي (ثب) متضمن معنى عاماً، هو فحوى الحركة التي هي أساس هذه المداليل المختلفة، لا بل المتنافرة ظاهرياً. فعند فريق أو قبيلة من القبائل دل الفعل على القعود، لأن في القعود حركة، وعند قبيلة أخرى أطلق الفعل على القيام والقفز، لأن في ذلك كامن المدلول، وهو الحركة

أما القول - وهو قول أحد الغربيين - بأن (من وثب) هو بمنزلة من جلس في الهواء، فهو من المعاني التي لم تخطر على بال العرب حين تداولوا كلمة (وثب) لحسبان مثل هذا الحادث عصر ذاك من خوارق الأنبياء، بيد أنه يفهم في عصرنا الذي تمكن فيه الإنسان من أن يجلس نوعاً من الجلوس في الهواء أي بركوبه الطائرة

ومما يجدر بالذكر أن مقابل (ثب) العربية وارد في ومعناخ وثب، جلس، قعد. مما ينجم عنه بوضوح أن الرس الثنائي هو (ثب)، فتوسع في الزيادة بطرق مختلفة مع استمرار الصلة المعنوية بينه وبين مزايداته، أي فحوى الحركة أولاً في العربية بتضعيف حرفه الثاني، فجاء (ثب) ثم بإضافة واو تتويجاً في العربية ذاتها، فصدر عن ذلك فعل (وثب)، بزيادة ياء التوويج أيضاً في السريانية، وكذلك زيدت الياء بعين الطريقة في العبرية. . . الأرمية ونجد في الحبشية. . . في العربية، بالواو أما الأكدية فوارد فيها بإضافة واو كالعربية والحبشية.

من مفترضات الثنائية أن أصل المفردات حرفان، فيجري التطور بزيادة حرف ثالث عليهما إما تتويجاً وإما إقحاماً، وإما تذييلاً، مع بقاء اللحمة المعنوية بين الثنائي والثلاثي، كما هي مستمرة بين الثلاثي والرباعي، وما فوقه من المزيدات.

على أني بفضل تقصيات خاصة توصلت إلى الوقوف على أن الثلاثي غير ناشي عن ثنائي واحد ليس إلا، بل عن ثنائيين أو ثلاثة، حسب اختلاف مداليله. وقد أوردت في تأليفي شواهد تثبت هذا القول. فأجتزئ هنا بسرد واحد من الأمثلة هناك فعل (هلب) المختلف، لا بل المتنافر، لكن يمكن القول بأن (هلب) مشتق أولاً من (لب) بزيادة الهاء تتويجاً. ثانياً: من (هب) بإنزال اللام إقحاماً. ثالثاً: من (هل) بإضافة الباء تذييلاً.

هلب: كثر شعره، من (لب)، ومنه اللب أي القلب، لتراكم الشحم عليه، واللبة: اللحم المجتمع في أعلى الصدر، وفيه معنى الوفرة والكثرة.

هلب: نتف وجز، من (هب) المراد به القطع، والنتف ضرب من القطع.

هلب: السماء القوم: بلتهم بالندى، ومنه ليلة هالبة أي ماطرة. والهلابة: الريح الباردة، من (هل) الدال على هطول المطر وشدة انصبابه.

الأهلب: المنتوف الشعر، من (هب) ومنه هب السيف: قطعه.

الأهلب: كثير الشعر، من (لب) المراد به: التراكب والتجمع والتلبد. وبهذا تنسق المعاني وتزول الضدية.

أخنم بالقول أن الثنائية ليست كما يتبادر إلى الوهم، هدامة للثلاثية والرباعية، ولا هي مقوضة أركان المعاجم، إنما هي وسيلة للتأصيل السابق طور التصريف. فالقائل بالثنائية يدع التصريف على ما هو للثلاثي والرباعي، ويحصر عمله في المعجمية. وفي هذا الحقل عينه لا يتوخى محق الثلاثية والرباعية، لكنه يرتئي بأنه كما أن الرباعي يسوغ رده إلى الثلاثي، وكذلك يمكن رد الثلاثي إلى الثنائي. مما ينجم عنه أن ليس الثلاثي بدء الاشتقاق، بل الثنائي.

ويرى عملياً أن في هذه النظرية فوائد جمة للمعجمية، منها تجلي الانسجام والتساوق في تشعب الألفاظ بعضها من بعض، وتوسع المعاني وتطورها مما هو واضح القصدان في الحالة الثلاثية الحاضرة.

فمن ثم، لا خشية على المعاجم من الثنائية، لأنها بالعكس تتمشى فيها تنظيماً معقولاً، كما أن ترتيب المعاجم الحديثة، مثل محيط المحيط، وأقرب الموارد، والبستاني لم يضر المعجمية بل نفعها، وإن خالف في الواقع تنظيم المعاجم القديمة، أو بالأحرى عدم التنسيق فيها.

والآن أكرر للمجمع الموقر آيات الشكران، متمنياً لجميعكم التوفيق والنجاح في خدمة اللغة العربية الجليلة والسلام

الأب مرمرجي الدومنبكي.