الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 934/عاصمة السودان الوطنية

مجلة الرسالة/العدد 934/عاصمة السودان الوطنية

بتاريخ: 28 - 05 - 1951


أم درمان

الأستاذ علي العماري

لعل الشرقيين أزهد الشعوب في معرفة بلادهم، فالحديث عنهاليس

بالعذب المستساغ عند أكثرهم، وربما بقي الواحد من مثقفيهم الدهر

الطويل في مدينة من المدن دون أن يعرف كثيراً أو قليلاً عن تاريخها

ومعالمهما. وقد يقرأ في كل كتب إلا الكتاب الذي يتحدث عن البلدان

وتاريخها، وعما فيها من آثار قديمة أو منشآت حديثة. ولا أنس أبداً

أني كنت مسافراً مرة في القطار الذي يبرح القاهرة إلى أسوان، وكان

في جانبي رجلاً في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، ويبدو من هيئة

حديثه أنه من ذويالثراء وتشعب بنا الحديث فنونا حتى وصل القطار

إلى مدينة المينا عروس الصعيد، فأطل الرجل من النافذة ثم عاد وفي

وجهه آثار الدهشة والاستغراب وقال بلهجة المأخوذ: غريبة! إن في

هذا البلد شوارع منظمة وأبنية جميلة، قلت له: أمصري أنت؟ قال:

نعم. قلت أين تعيش؟ قال: في الإسكندرية، قلت: أظنك تعرف روما

وباريس ولندن معرفة دقيقة. قال نعم، قلت: أما سافرت أبداً إلى

الصعيد؟ قال: لا، والفكرة التي في ذهني عنها تختلف كل الاختلاف

عما أراه الآن. قلت: ما هذا، لست مصرياً وإن اسمك رمسيس الأول!!

كما لا أنس أني لقيت رجلاً مثقفاً في مدينة أم درمان أكثر من أربع سنوات، وهو يسكن في الجانب الغربي منها جد قريب من ار المعهد العلمين وقد جرى مرة بيننا حديث في شؤون المعهد فسألني أين تقع دار هذا المعهد؟ وفي يقيني أن هذا الجهل يرجع إلى ضعف الشعور القومي في النفوس، فإنه كلما قوي هذا الشعور أحس صاحبه أن كل شبر من أرض الوطن إنما هو ملكه، حتم عليه أن يعرفه، وأن يعرف تاريخه، وطبعي أني لا أقصد أن كل المثقفين يجهلون معالم أوطانهم، وإننا أعني أن الجمهرة الغالبة تعني بهذه الناحية العناية الواجبة، وقد حملني على كتابة هذا المقال ما لمسته في كثير من المتعلمين عندنا من جهل بشؤون المدن السودانية.

ينساب النيل الأبيض منحدراُ من المنطقة الاستزائية، ويجري النيل الأزرق هابطاً من مرتفعات الحبشة، ويمران بمدينة الخرطوم، أحدهما على جانبها الغربي، والآخر على جانبها الشرقي، وما يكادان يصلان إلى نهايتها الغربية البحرية حتى يلتقيا، ثم يسيران متناكرين مسافة قصيرة، ويستطيع النظر السطحي ان يميز بينهما حيث يفصلهما خيط دقيقي، ولكن هذا التناكر لا يستمر طويلاً فيختلطان، ويسيران على جانب النيل الأزرق الشرقي، أما أم درمان فتقع على الضفة الغربية للنيل الكبير، وقبيل التقاء النيلين تقوم حدائق جميلة تسمى حدائق (المقرن) وهي من أحسن الأمكنة وأطيبها هواء، وفيها يقول الأستاذ العقاد:

تفسير حلمي بالجزي ... رة وقفتني بالمقرن

حلمان حظهما خيالاً ... دون حظ الأعين

ما دامت بينهما فما ... أنا سائل عن مسكني

ويعجبني قول الكتاب السودانيين يصف التقاء النيلين عند المقرن، إذ يقول: (هل استمتعت بذياك المرأى الطبيعي البديع الساحر، مرأى ملتقى النيلين الحبيبين، لقد أتى أحدهما ينساب من أقصى االجنوب، والآخر من اقصى الشرق، فأصبح هذا المكان مكان التقائهما علما مقروناً باسميهما، أنهما قد التقيا عند هذا المكان، واقترنا في شوق، بل تصافحا بجسميهما، أنهما لم يفكرا في الفكاك من هذا الاقتران ولم يفكرا

ولما التقيا قرب الشوق جهده ... حبيبين فاضا لوعة وعتابا

كأن حبيباً في خلال حبيبه=تسرب أثناء العناق وغابا

ولشد ما أعجبني تمثل الكاتب بهذين البيتين في هذا الموضع ويصل بين الخرطوم وأم درمان جسر جميل، أقيم سنة 1928. أما مدينة أم درمان فهي مدينة كبيرة مبانيها فسيحة، وشوارعها متسعة. وأول من عمر أم الشمالية حكومة المهدية، أما جنوبها فكان حلة صغيرة قائمة في سهل فسيح رملي لا شجر فيه، وكان يسكن هذه الحلة الأهلون من (الفتيحاب) وهم سكان الخرطوم الأصليون كذلك، وكانت لهم منازل متفرقة على شاطئ النيل الأبيض الغربي، والفتيحاب من قبائل الجموعية، وهم وإخوانهم من الجيعاب، والسروراب، والجعليين والميرفاب، والرباطاب، والشايقية، ينتسبون إلى العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه. وقد استولى المهدي على أم درمان سنة 1885م ولما جاء الخليفة التعايشي حبب الى الناس السكنى فيها، فبنيت الدور، واتسع عمرانها. وكل منازلها طبقة واحدة إلا النادر القليل، وفيها مبان كثيرة بالحجر على النظام الحديث، وقد كان سكان المدينة قبل المهدية 400 ألف نسمة، ثم تناقص هذا العدد إلى 25 ألف سنة 1903، أما عدد السكان - الآن آخر إحصاء - فهو نحو 137 ألف نسمة.

ويخترق أم درمان شارع طويل يسير فيه الترام يبتدئ من الجسر الفاصل بينها وبين الخرطوم، وينتهي في الجانب الشرقي منها حيث يسير قليلاً على النيل. أما غربها وشمالها فصحراء لا نبت فيها ولاماء. ويقع جبل كرري المشهور في التاريخ شمالها، والهابط منه إلى المدينة يأخذ في شارع يسمى بهذا الاسم أيضاً.

وفي أم درمان مدارس حكومية وأهلية، وسطى، وثانوية، وأولية، فيها مدارس الأحفاد، وهي مدارس ذات فضل لا ينكر على السودان، والمدرسة الأهلية، وفيها مدارس الراهبات للبنات وهي روضة وابتدائي وثانوي. وبهذه المناسبة أذكر أن السودانيين غير متحمسين كثيراً لتعليم البنت. وفي ظاهر أم درمان من الناحية الغربية يقوم بناء المعهد العلمي، وهو معهد منذ أربعين سنة تقريباً، وكانت الدراسة في مسجد أم درمان الكبير وانتقلت قريباً إلى الدار الجديدة، وفي المعهد الآن نظامان: نظام قديم، ونظام جديد تشرف عليه الحكومة أشرافاُ كلياً، تضع له المناهج، وتعي المدرسين، والمعهد ابتدائي وثانوي وعالي، ومنه يتخرج حاملو الشهادة العالمية على نظام الأزهر القديم، وهم يؤدون الآن مهمتهم في السودان بجدارة وإخلاص، ويراد أن يكون في المعهد - بعد الثانوي - كليات، على نظام كليات الأزهر، ولا تزال المعاهد في الأقاليم ترتبط بهذا المعهد ارتباطاً، وفي هذا المعهد يقول الشاعر التيجاني يوسف بشير: السحر فيك وفيك من أسبابه ... دعة المدل بعبقري شبابه

قسم البقاء إليك في أقداره ... من شاد مجدك في قديم كتابه

وأفاض فيك من الهدى آياته ... ومن الهوى والسحر ملء نصابه

اليوم يدفعني الحنين فأنثني ... ولهان مضطرباً إلى اعتابه

سبق الهوى عيني في مضماره ... وجرى وأجفل خاطري من بابه

ودفنت غض صباي تحت ظلاله ... ودفنت بيض سني في محرابه

ألقيتمن عنت (الزيود) مشاكلاً ... وبكيت من (عمرو) ومن أعرابه

وطلاب المعهد يبلغون - الان - نحو ستمائة طالب، أما مدرسوه فنحو الأربعين، ومنهم منتدبون من الأزهر الشريف وهم خمسة، ومنهم سودانيون متخرجون في الأزهر، وبعضهم من خريجي كلية غردون أو المدارس الثانوية، وأكثرهم متخرجون في المعهد ذاته، وشيخ المعهد الآن مفتى السودان السابق الشيخ أبو شامة عبد المحمود، وهو سوداني، وكل من سبقه في مشيخة المعهد كان من السودانيين أيضاً.

وفي أم درمان أكثر دور الاحزاب السياسية، وهي من هذه الناحية تمتاز عن الخرطوم. كما تفد إليها السلع من كل أنحاء السودان، وفيها يمنويون كثيرون، وهنود، وشوام، ويونان، ومصريون، وكثير من التجارة في أيدي هؤلاء. وأهل أم درمان، كأهل السودان جميعاً، متدينون، يؤدون الصلوات في أوقاتها، ويخرجون الزكاة، والأمن والأمانة متوافران عندهم.

وفي أم درمان تقوم قبة المهدي، وفيها بعض آثاره ومخلفاته، وأمامها ساحة كبيرة محوطة بسور مرتفع مستطيل طوله 460 ياردة، وعرضه 350 ياردة، وفيها محطة الإذاعة السودانية. ومحطة الارسال وقد لفت نظري وأنا أطالعفي دواوينالشعراء السودانيين أني لم أجد لأم درمان موضعاً في أشعارهم، مع إني وجدت قصائد في مدن كثيرة من مدن السودان، في الابيض عروس الرمال، وفي النهود وفي كسلى، وفي سنار حيث يقول شاعرهم:

زرت سنار والجوانح أسرى ... زفرات هدت قوى الصبر هدى

اسعدتنا فيها الغداة دموع ... لم تخنا بالأمس في دار سعدى

أن محا الدهر حسنها فلقد كا ... نت مرادا للمتقين وخلدا كم لها في الرقاب منا ديوان ... وعزيز على إلا تؤدى

وجميل أهلها عند أهلى ... ويد بالصنائع الغر تندى

وهي قصيدة تذكرني بقصيدة البحتري في إيوان كسرى، وسناركانت عاصمة مملكة الفونج، وهي مملكة شهيرة فيالتاريخ، وبعضهم ينسب هؤلاء إلى الغمر بن يزيد بن عبد الملك، هربوا إلى السودان حين أساء العباسيون معاملة الأمويين.

والوقت الذي لا نجد فيه قصيدة واحدة في دواوين الشعراء عن أم درمان، نجد قصيدة لأحد شعرائهم المشهورين في باريس مع أنه لم يبرح السودان!

وقد أهدي إلي بعض الأصدقاء قصيدة في ام درمان مخطوطة لأحد الشعراء، كما قرأت أغنية تذاع من محطة الإذاعة عن أم درمان وهي اغنية جميلة.

(وبعد) فهذه لمحة تعرف، وفيها بعض الغناء

علي العماري