1 - في الحديث المحمدي مجلة الرسالة/العدد 928/(في الحديث المحمدي) للأستاذ محمود أبو رية نستخير الله اليوم في أن نفي بما وعدنا به قراء الرسالة الغراء فننشر فصولا مختصرة من بحث مستفيض قصرناه على الكلام (في الحديث المحمدي) والله نسأل أن يعصمنا من الزلل ويلهمنا التوفيق في القول والعمل محمود أبو رية مما لا يكاد يختلف فيه اثنان، أو يحتاج في إثباته إلى برهان، أن للحديث المحمدي من جلال الشأن وعلو القدر، ما يدعو إلى العناية به، والبحث عنه، حتى يدرس ما فيه من دين وأدب، ويعلم ما يحمله من أخلاق وحكم. وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة، والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون برجال الحديث يتداولونه بينهم ويدرسونه على طريقتهم. وطريقة هذه الفئة التي اتخذتها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل. فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث - على قدر الوسع - في تاريخهم، ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحا أو غير صحيح، معقولا أو غير معقول، أي أنهم وقفوا عند البحث فيما يتصل بالسند فقط، أما المتن فلا يعنيهم من أمره شيء ثم جاء المتأخرين فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من قبلهم، لا يتجاوزونها ولا يحيدون عنها، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الأولى لا يتحرك ولا يتغير، ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها آخذين من غير بحث ولا تمحيص بها. وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث روايته حتى قيل: (أن علم الحديث قد أنطبخ حتى احترق) فإنهم قد أهملوا جميعا أمرا عظيما يجب أن يعرف قبل النظر في كتب هذا العلم ودرس ما فيها، وذلك هو البحث عن النص الصحيح لما تحدث به النبي (ص)، وهل كتبه عند إلقائه كما فعل بالقرآن؟ أو أهمله ونهى عن كتابته! وهل دونه الصحابة ومن بعدهم أو أمسكوا عن تدوينه؟ وماذا كان أمرهم في روايته؟ وهل ما روي منه قد جاء مطابقا لحقيقة ما نطق النبي به - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له؟ وما هي العوامل التي تدسست إليه من أعدائه، والمؤثرات التي أصابته من أهواء أوليائه، حتى رشيت بما ليس منه، وتسرب إليه ما هو غريب عنه! ثم في أي زمن أبتدأ تدوينه؟ وهل اتخذ ما دونوه - في أول الأمر - طورا واحدا لم يتغير على مر العصور، أو تقلب في أطوار متعددة! وفي أية صورة خرج أخيرا للناس في كتبه المعتمدة، وماذا كان موقف علماء الأمة منه، وما مبلغ ثقتهم به، ومدى اختلافهم فيه! بعد أن عراه ما عراه، وتأثر بما تأثر به؟ وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي يجب أن يعرفها كل مسلم أو باحث قبل النظر فيه، والأخذ بما تؤدي إليه ألفاظه ومعانيه أما هذا كله وغيره مما يتصل بحياة الحديث وتاريخه فقد انصرف عنه العلماء والباحثون، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة، وأقوالا بين ضمائر الأسفار مستنسرة، لا يضم نشرها كتاب، ولا يعنى بتصنيفها باحث. نهي النبي عن كتابة حديثه وعمل الصحابة بذلك: كان رسول الله صلوات الله عليه مبينا ومفسرا للقرآن بفعله وقوله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تحفظ بالتدوين كما حفظ القرآن، وقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الصحيح على أن أحاديث الرسول (ص) لم تكتب في عهده كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها والتلفظ بها كما كان للقرآن كتاب معروفون يقيدون آياته عند نزولها، بل جاءت أحاديث صحيحة وأثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلوات الله عليه إذا أوردناها كلها طال بنا القول فلنجتزئ يذكر ذرو قليل منها: روى مسلم وأحمد وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه) وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي (ص) في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا. وعن أبي وهب قال: سمعت مالكا يحدث أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب الأحاديث أو كتبها ثم قال: (لا كتاب مع كتاب الله) وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي - فاستشار فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله - (وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا) ورواية البيهقي (لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا) وروى الحاكم عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلب - قالت فغمني كثيرا فقلت لشكوى أو لشيء بلغه! فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها حديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني فاكون قد تقلدت ذلك. زاد الأحوص بن الفضل بن عنان في رواية: أو يكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله والأخبار في ذلك كثيرة جدا لا نستزيد بإيرادها كلها رغبة الصحابة عن رواية الحديث ونهيهم عنها: إذا كانت الآثار الصحيحة قد جاءت في نهي النبي (ص) عن كتابة حديثه، والأخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابته رضوان الله عليهم قد استمعوا إلى نهيه، ولم يكتبوا حديثه بعد موته، - كما علمت مما مر بك - فإنا نجد هؤلاء الصحابة كانوا يرغبون عن رواية الحديث بل كانوا ينهون عنها! وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدا قويا. روى الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال ومن مراسيل ابن أبي مليكة أن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه. وروى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال: ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم ونريد منكم، فما فارقوه حتى مات. وروى السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة (لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أي (إلى بلاده) وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. ونهاهما كذلك عن الرواية عثمان بن عفان وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به. ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر النبي (أي حضرته الوفاة) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: (هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) فقال عمر إن النبي غلبه الوجع وعندكم كتاب الله فحسبنا كتاب الله. وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدثنا عن النبي حديثا حتى رجع، وسئل عن شيء فاستعجم وقال: (إني أخاف أن أحدثكم واحدا فتزيدوا عليه المائة). وسعد هذا من العشرة المبشرين بالجنة ومن كبار الصحابة. وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله، ولا يقول قال رسول الله؛ إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه، قال رسول الله! فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك) وأخرج أحمد وأبو يعلي عن دجين قال: قدمت المدينة فلقيت أسلم مولى عمر بن الخطاب فقلت حدثني عن عمر فقال: لا أستطيع، أخاف أن أزيد أو أنقص! كنا إذا قلنا لعمر، حدثنا عن رسول الله قال أخاف أن أزيد أو أنقص. وأخرج الدارقطني عن عبد الله بن عامر، قال: سمعت معاوية على منبر دمشق قال: (إياكم وأحاديث رسول الله إلا حديثا ذكر على عهد عمر. إن عمر كان يخيف الناس الله - ورواية الدارمي - اتقوا الروايات عن رسول الله إلا ما كان يذكر منها في زمن عمر، إن عمر كان يخوف الناس في الله تعالى) المنصورة للكلام صلة محمود أبو رية