الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 927/المهلب بن أبي صفرة

مجلة الرسالة/العدد 927/المهلب بن أبي صفرة

بتاريخ: 09 - 04 - 1951


للأستاذ حمدي الحسيني

ولد المهلب لأبى صفرة سيد الأزد في اليمن قبيل وفاة النبي (ص) ببضع سنين ففتحت عيناه في نور الإسلام وأشرقت نفسه بإشراقة الهدى ودين الحق، فنشأ سيداً ماجداً وحراً مستقلا في أمة حرة مستقلة ومؤمناً مجاهداً في صفوف المؤمنين المجاهدين، وبطلا عظيما منتصراً في ميادين المجد والشرف.

هبط أبو صفوة البصرة على اثر حرب من حروب الردة اليمن، فعاش المهلب هناك ولم يلبث حتى أصبح سيد العراق بما آتاه الله من صفات السيادة والتفوق على الأقران بالفضائل قدم المهلب على عبد الله بن الزبير الخليفة البطل أثناء خلافته في الحجاز والعراق وهو يومئذ في مكة، فخلا به عبد الله يشاوره فدخل عليه عبدا لله صفوان فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال. أما تعرفه؟ قال (لا) قال هذا سيد العراق، قال فهو المهلب بن أبي صفرة؟ قال نعم.

أجل هذا هو سيد الأزد وبطل العراق المهلب بن أبي صفرة يخلو به الخليفة عبد الله بن الزبير ويشاوره في اشد أزماته وأعقد مشكلاته وأدق مواقفه وأخطر حوادثه. أليس الزمن عصيباً والموقف حرجاً؟ أليس صولجان الحكم الإسلامي مضطرباً بين يدي عبد الله بن الزبير في الحجاز وعبد الملك ابن مروان في الشام؟ كل منها يجذبه من صاحبه بما عنده من قوة. أليس العراق وما يجاور العراق من الأقطار الإسلامية كرة تتقاذفها قوات الحجاز والشام تصبح لهذا وتمسى لذلك؟ أليس هؤلاء الخوارج ينكرون على عبد الله بن الزبير وعبد الملك ابن مروان خلافتيهما كما أنكروا على علي بن أبي طالب ومعاوية ابن سفيان خلافتيهما من قبل فيتقبلون في أنحاء البلاد من البصرة إلى الموصل إلى الأهواز إلى كرمان يقتلون العباد ويهدمون البلاد ويقيمون على الأشلاء والأطلال ممالك وحكومات أجل إن الأمر لخطير، ولابد فيه لعبد الله بن الزبير من المشورة، وهل أرجح من المهلب عقلا وأعلى همة وأوسع معرفة وأعظم نفوذاً حتى يستشيره عبد الله بن الزبير دون المهلب؟ إذا لابد لابن الزبير من استشارة المهلب، ولا بد له من أن يوليه على خراسان حمل المهلب عهد ابن الزبير له على خراسان وتوجه به نحوها عن طريق العراق وو فرأى البصرة تلهب بنيران الحرب القائمة بين قوات ابن الزبير والخوارج، ورأى أن الخوارج قد تفوقوا على قوات الخلافة تفوقا ألقى الرعب في قلوب أهل البلاد.

ولكن ما شأن المهلب في هذا الأمر وهو سائر في طريقه إلى خراسان ليكون والياً؟ إذاً عليه أن يترك هذه النار المشتعلة تلتهم أكباد المسلمين ويمضي إلى عمله.

هذه خطة صحيحة لو كان صاحب هذه الخطة غير المهلب أما وهو المهلب صاحب البصرة وسيد العراق فلابد له من البقاء بجانب بلده وقرب أهله ليحمي حماهم من الخوارج فنقضهم من فتك أولئك الشجعان الذين لعبت العقيدة في نفوسهم فخلقت منهم أبطالا في الحروب لا يهابون الموت ولا يخشون الردى.

أليس البطل في نظر قومه مدخرة يستعينون بها على الشدائد في الأيام الحالكة؟ وأية شدة أدعي لاستنجاد قوات المسلمين بالمهلب من هذه الشدة المدمرة التي تكاد تطبق على المسلمين بسيوف الخوارج؟ إذا لا والله ما لهذا إلا المهلب فخرج أشراف الناس فكلموه ليتولى قتال الخوارج فقال لا أفعل.

هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان فلم أكن أدع عهده وأمره. رفض المهلب أن يجيب الناس إلى طلبهم في قتال الخوارج لأن المهلب رجل نظام وطاعة، فلم يشأ أن يخرج عن قاعدته في النظام وعن عادته في الطاعة، وهو رجل عسكري والنظام والطاعة قوام الحياة العسكرية. إذا لابد من أمر يصدره الخليفة للمهلب يلغي عهد خراسان ويثبت قيادة الجيوش لمحاربة الخوارج. ولكن أين أبن الزبيب الآن من المهلب وكيف يحتمل الصبر تدور المخابرات الرسمية دورتها وهؤلاء الخوارج على الأبواب لا يبلعون الناس ريقهم ولا يدعوهم يهدأ روعهم من الفزع. إذا لابد من الحيلة والحيلة في مثل هذه المأزق مستحبة. . فرأى قائد قوات ابن الزبير مع أهل البصرة أن يكتبوا على لسان ابن الزبير كتابا يأمره فيه بمقاتلة الخوارج ويعده بعد النصر بالولاية على خراسان فأخذ المهلب الكتاب بنفس راضية مطمئنة ونهض للأمر العظيم. والغريب في أمر هذا البطل أنه كان فوق الأحزاب في ذلك الزمن القائم على الحزبية العنيفة مما يدل دلالة واضحة على أنه كان جندياً مسلماً قد وقف حياته على المصلحة الإسلامية العامة ورصد بطولته على مجد الإسلام وعزته وكرامته. لا يعنيه من يكون الخليفة ولا يكون سواء عنده أكان الخليفة علي بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان أم عبد الله بن الزبير أم عبد الملك بن مروان. وسواء لديه أكان مقر الخلافة الحجاز أم الشام ولهذا فقد رأيناه جندياً غازيا لسمرقند في جيش معاوية بن أبي سفيان ثم رأيناه موضع ثقة أبن الزبير يعهد له بالولاية على خراسان ثم يوليه القيادة لحرب الخوارج ثم رأيناه موضع ثقة عبد الملك بن مروان فيعهد له بجباية الأهواز ثم رأيناه موضع ثقة الحجاج بن يوسف الثقفي فيوليه على خراسان

ونعتقد أن وصيته لأبنائه الغر الميامين قبيل وفاته صورة واضحة لنفسيته الكبيرة التقية وأخلاقه الطاهرة الرضية وعقيدته الإسلامية القوية. لنسمع الآن المهلب يوصي أبناءه وقد جمعهم إليه وهو على فراش الموت يودعهم ويوصيهم ويفرغ نفسه في نفوسهم ويضع عقله في عقولهم ويصب همته في همهم: دعا المهلب بسهام فحزمت وقال (أفترونكم كاسريها مجتمعتاً؟ قالوا (لا) قال أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا (نعم) قال فهكذا الجماعة أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإن صلة الرحم تنشئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنها كم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الزلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم، وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعلكم أفضل من قولكم فأني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته ويزل لسانه فيهلك.

اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكره له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرب فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف الصنيعة عنده؟ عليكم في الحرب بالأناة والكيد فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قبل أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فحمد، وأن لم يظفر بعد الأناة قيل ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم)

حمدي الحسيني