الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 924/الأزهر جريح فأدركوه

مجلة الرسالة/العدد 924/الأزهر جريح فأدركوه

بتاريخ: 19 - 03 - 1951


إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير

للأستاذ محمود النواوي

حقا والله لقد هان على الأملس ما لاقي الدبر. ولكن. . . ولكن كان الظن أن دبر الأزهر دبر للشرق كله. وأن علته علة للإسلام على بكرة أبيه. وأنه إذا اشتكى تداعي له سائر المسلمين بالسهر والحمى، ذلك أن الأزهر صاحب الفضل الأكبر؛ والمحل الذي لا يجهل، فمن المكرر أن نقول إن العالم كله مدين في مدنيته وتثقيفه للإسلام. وإن الإسلام مدين في نشر ثقافته في أرجاء الأرض للأزهر منذ ألف سنة أو تزيد.

ومن المكرر أن نقول إن الأزهر ثبت ثبات الطود الشامخ هذه المدة يعلم ويخرج ويبث وينشر ويذيع من معارف الإسلام واللغة العربية والفلسفة الإسلامية وغير الإسلامية وشتى صنوف المعارف البشرية ما طرق أعناق الخليقة؛ لا يبالي ما يصيب العلم أحيانا من عسف واضطهاد، بل يخرج من كل عارض خروج البدر من تحت غيمه، والشمس من بين الضباب. لقد فزع العلم والعلماء أيام التتار في سائر الأقطار وروعوا حتى كان بعض الجبارين يتخذ من رؤوسهم قلاعا إلا من أوى إلى مصر كنانة الله في أرضه، وإلى الأزهر كنانة الله في مصر. لقد حفظه الله من كل يد ظالمة فلا تصل إليه، وقال يا نار كوني برداً وسلاما عليه يوم طورد العلم والأدب في الشرق أيام التتار، وفي الغرب أيام طورد العلماء والأدباء في بلاد الأندلس. ثم كانت يده الطولى التي سجل الله له يوم حكم العثمانيون مصر نفسها فحاولوا القضاء على العلم والأدب بما شغل الناس في عسفهم واستبدادهم ومحاولتهم تأخير البلاد في جميع نواحيها حتى كانوا ينقلون إلى بلادهم كل نفيس كريم وكل شخص عظيم. ولكن الأزهر يومها كان كعبة القصاد وموئل الرواد ملحوظا بعناية الله تؤمنه المخاوف، ومصنوعا على عين الله تنجيه من المتالف، حتى كان عهد الأسرة العلوية الكريمة فكان ما حفظ التاريخ للأزهر من إنه نواة الثقافة في جميع نواحيها. والذي اعتمد عليه جد هذه الأسرة العظيمة محمد علي باشا فكون البعوث وأنشأ المدارس وبث العلم والمدنية من جميع نواحيها وأنحائها. ذلك قول معاد مكرر؛ ولكنها الذكرى العطرة تثيرها مثيراتها وتجددها مجدداتها.

أعزز علي بأن أراك يا معقل العلم والثقافة ويا منيع المدنية طريحا مجندلا تحت احتكام الأهواء. واختلاف النزعات والآراء وأنت أسوأ حالا مما قيل فيه:

لقد هزات حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس

أعزز علي بأن أرى أعداء الدين وخصوم الإسلام من المستعمرين الذين ما فتئوا يحاربونك بكل وسيلة في السر والعلن لأنه لا طيب لحياتهم وأنت في مصر تبث تعاليم الإسلام وكلها حرية وإباء، وعزيمة ومضاء، وجهاد للأعداء، وقوة وفتاء، يأبى القليل منها أن يمكن لجبار في الأرض أو يفتح لمستعمر قيد فتر. فالآن إذ أرى هؤلاء يشمتون ويفرحون ويرتقبون ما كنوا يأملون بأيدينا لا بأيديهم. لقد أفلحت سياستهم بعد أن مكنوا المدنية، الخلاعة والدعارة والخنوثة وفككوا قيود الدين حتى هان فهان معه منبعه ومستقاه وهو الأزهر الكريم.

لقد جاء الوقت الذي تغلق فيه أبواب الأزهر باليوم واليومين والأسبوع والأسبوعين والشهر والشهرين فما يحس أحد ولا يحرك ساكنا

إن أخوف ما أخاف أن تكون فتنة محبوكة ومؤامرة مقصودة يراد بها هدم الدين ونقض دعائم المسلمين فتتفرق كلمتهم وتتمكن الأيدي الغاصبة منهم في جو صفاء كما ضاعت خلافة الإسلام من قبل فكانت مبدأ ضعف في الجملة. وإذن يضحي الشرق والمسلمون بأشمط عنوان السجود به، ويفقدوا حمامة السلام وعنوان الوئام، ومبلغ رسالات الله إلى جميع الأنام، ويهون الشرق والمسلمون على الله فما يبالي في أي واد أهلكهم

أخوف ما أخاف أن تكون مؤامرة مدبرة يفعلها عدو مختبئ ويسلك إليها سبله، وأولها إيقاع البأس بيننا بأيدينا. فسياسة التفريق هي السياسة التي يعتمد عليها مهرة الساسة؛ والعدو الكاشح فينا ما أوجف عليها من خيل ولا ركاب. ولما بلغ معاوية أن الأشتر النخعي مات في شربة عسل وكان من شيعة علي قال معاوية إن لله جنودا منها العسل، فسيقول خصمنا (إن دامت الحال) إن لنا جنودا منها الفشل. لقد عرف العدو كيف يحقن خصمه بالمصل المخدر الذي يسهل به ارتكاب أكبر جريمة على الله والدين والوطن فما يفيق الناس إلا وقد وقعت الجريمة ونفذ السهم وإلا فما بال هذا الأزهر الكريم الذي كان ملاذ اللائذ ومعاذ العائذ ومفزع الملهوف ونصفة المظلوم، والذي كان قوام كل مائل وقصد كل جائز. والذي كان أعز على كل نفس مؤمنة من كل عزيز عندها قد أصبح يئن ويستغيث ولا مغيث. هذا الأزهر الذي كان يقضي بالحق في خصومات الدنيا ومشاكلها قد جاءت عليه قضية لا حكم فيها إلا الله (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم). أما والذي نفسي بيده لئن تكن نوايا خبثت بمنبع الدين فإن الله خير الماكرين. (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) إن قضية الأزهر معلومة مفهومة، وكل مسلم مطالب بالنظر فيها وعلى رأس الجميع ملوك الإسلام. فقد بدت ظاهره استهانة واستهتار؛ تنذر بسوء المصير وعندئذ فستغل كل عنق في الأرض ربقة إثم لا قبل له باحتمالها ولا سيما ولاة الأمور جميعا يوم يقوم الناس لرب العالمين:

فلا تحمل ذنبي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل

محمود النواوي

المفتش بالأزهر