مجلة الرسالة/العدد 924/الأدب والفنّ في أسبوع
→ رسالة الشعر | مجلة الرسالة - العدد 924 الأدب والفنّ في أسبوع [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 19 - 03 - 1951 |
للأستاذ عباس خضر
الرقاعات الفرنسية:
للرقاعات الفرنسية في هذا الباب (حساب مفتوح) وأذكر أن آخر (دفعة) منها كانت في العالم الماضي حينما حضر إلى مصر وفد من الصحفيين الفرنسيين وكانت فيهم عجوز تدعى (مدام تابوي)، قالت هذه العجوز فيما قالت لإحدى الصحف المصرية - وكانت حينذاك مناسبة من المناسبات التي يرتفع فيها صوت مصر لنصرة إخواننا أهل المغرب - قالت: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال إفريقية؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . . كنت أعددت مقالا عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني غيرت رأيي واستبدلت به مقالا آخر! ووصفت هذا القول إذ ذاك بصفته وهي الرقاعة، والرقاعة فن يحذقه الفرنسيون
وقد كنا نعرض تلك الرقاعات واحدة واحدة، أما اليوم فنراها تسقط علينا بالجملة. . في هذه المحنة التي تعانيها مراكش من جراء الوحشية الفرنسية التي نكأت الجراح القديمة وأثارت المواجع في أقطار العروبة والإسلام. ولندع القضية نفسها فهي معروضة في أصحف مبسوطة الجوانب، ولندع مسائل الاعتداء على الشعوب الصغيرة وكتم أنفاس الحريات والتنكيل بالوطنيين الأحرار، فهي مسائل معروفة معهودة في المستعمرين على الإطلاق وإن كان الفرنسيون (دعاة الحرية والإخاء والمساواة) يبزون فيها سائر المستعمرين. لندع كل ذلك، فالذي يعنينا الآن هو (الرقاعات) التي تنفرد بها أهل باريس الرقاق اللطاف. .
الرقاعة الأولى من (النوع الدبلوماسي) الذي يسيل أدبا وظرفا. . فقد استدعى وزير خارجية فرنسا سفير مصر وتحدث إليه بحديث قال فيه إن ما ينشر في الصحف المصرية يستدعي اشمئزاز الشعب الفرنسي! أرأيت إلى هذا (الاشمئزاز الفرنساوي) العجيب الذي لا يشعر بما يأتيه أهله من الفظائع التي تشمئز منها الفضائل كلها وعلى رأسها الحياء؟ كأن مطالبة سلطان مراكش بإقرار الاستعمار في بلاده، والبراءة من أبنائها الوطنيين، وضرب المواطنين بعضهم ببعض، وحصار السلطان وتقييد حريته؛ وضرب المدن بالقنابل، وغير ذلك مما يتحدث به العالم ويكذبه الفرنسيون كأن كل ذلك أمور لطيفة جدا تستعدي الإعج في عرف الشعب الفرنسي الذي (يشمئز) مما تكتبه الصحف المصرية!! إذن فاشمئزوا حتى تنفلقوا. .
وذلك التكذيب نفسه رقاعة. . فماضيهم يؤيد الأنباء، وليس ما يفعلونه الآن جديدا ولا غريبا منهم في شمال إفريقية، وليس هذا الصدى في مصر إلا جراحا قديمة تنكأ. ولو كانت هذه الأخبار كاذبة كما يدعون ما قطعوا أسلاك البرق بين مراكش والخارج وضربوا الستار الحديدي الدائم هناك لمنع وسائل الثقافة المصرية والعربية على العموم من النفوذ إلى أهل المغرب الواقعين تحت النفوذ الفرنسي. على أنني لا أدري لماذا نصدق الفرنسيين ونكذب المراكشيين؟
ومن الرقاعات ما قاله المقيم الفرنسي في مراكش: (أن الثورة ليست في مراكش ولكنها القاهرة، وسيدفع المصريون ثمنها!) وهو تهديد رخيص أشبه بتهديد (مربع) الذي يبشر بطول السلامة، وهو لهذا يدعو إلى الابتسام، وإن كانت فيه وقاحة تدعو إلى الاشمئزاز الحقيقي
على أن رقاعة الرقاعات هي في موقف الصحافة الفرنسية من الصحف المصرية. . . تنكر الأولى على الثانية إنها اشتدت في التعليق على أنباء مراكش وتتحدث عن شرف المهنة! ثم تأخذ في الحملة على الصحافة المصرية. . ولست أدري أي الصحافتين أولى بأن يستنكر صنيعها وأيها حاد عن شرف المهنة. . أهي الصحافة التي تنتصر للمظلومين أم التي تدافع عن الظلم؟ والصحافة الفرنسية تتحدث عن علاقات المودة التي تزعم أن الصحف المصرية أخلت بها. . فهل كان من علاقات المودة والصداقة ما كتبته عن مصر وخرجت فيه عن الذوق والحياء؟ وما زلنا نذكر أن حكومة فرنسا عندما سئلت في ذلك أجابت بأن الصحافة حرة؛ وهي الآن تطلب إلى الحكومة المصرية أن تسكت صحف مصر!
والرقاعة الأخيرة - ولسنا ندري ما بعدها - ما تواتر على ألسنة الهيئات الفرنسية المختلفة المحتجة على مصر وحكومتها وبرلمانها وصحفها لموقفها من المسألة المراكشية، من تساؤلهم: لم يتدخل المصريون في هذه الأمور التي تخص الفرنسيين والمراكشيين؟ وقولهم: إن ذلك لا يتفق مع الصداقة التقليدية بين مصر وفرنسا! ووجه الترقع هنا أنهم يعلمون جواب ما يقولون ولكنهم يسألون! ألا فليعلموا - إن لم يكونوا يعلمون - أن أقطار العروبة والإسلام كلها بلاد واحدة، لا يفرق بينها ولا يمنعها من التوحد المنشود إلا وسائل الاستعمار ودسائسه، وأنه لا يمكن الجمع بين الاعتداء على أي منها وبين صداقة غيره من سائرها، فإن ظلوا على إيثار الأول فإنا نرد إليهم صداقتهم التي بلونها كثيرا فلم نجد فيها نفعا.
مسرحية (في إحدى الضواحي):
نحن الآن أمام لون جديد من الفن على المسرح المصري الذي اعتاد الهزات الانفعالية التي تعتمد على المفاجآت المفتعلة لإحداث التأثير في الجمهور؛ وقد اعتاد هذا الجمهور أن يشاهد ويتأثر بحواسه دون أن يجشم فكره أي مجهود. نحن الآن أمام مسرحية (في إحدى الضواحي) التي قدمتها في الأسبوع الماضي فرقة المسرح المصري الحديث على مسرح حديقة الأزبكية، وهي مسرحية إنجليزية من تأليف ج. ب. بريستلي وترجمة الأستاذ حسن وهبي، وإخراج الأستاذ زكي طليمات. هي قطعة من الحياة تبدو هادئة هدوء الضواحي، ولكن هذا الهدوء لا يلبث أن يتبين انه يستقر على بركان. . ويتبين ذلك في هدوء أيضاً برغام البركان. .
تعيش الأسرة في إحدى الضواحي عيشة ريفية هادئة في سعة من العيش، ورب الأسرة (جورج رادفورن) يبدو راضيا بهذه الحياة، متلهيا بزراعة الخضر في حديقته، يقضي أوقات فراغه بالاستماع إلى الراديون ويقطع بعضها بقراءة الروايات البوليسية، ويسافر أحيانا إلى بعض البلاد لأعمال تتعلق بتجارته في الورق؛ والزوجة (مسز رادفورن) امرأة بيت لا تشغل نفسها بغير شؤون المنزل؛ ولكن هذه الحياة لا تعجب ابنتهما (إلسي) التي تصف أباها بالغباء وتسقط على حياة الريف وتتطلع إلى الاتصال بالحياة في خارج هذه الضاحية، ويوافقها على ذلك زوج خالتها (برنارد بكسلي) وهو رجل لا عمل له يدعي أنه رحالة مغامر، وقد نزل هو وزوجته على هذه الأسرة ضيفين ثقيلين همهما الاحتيال على أخذ المال من (رادفورن) بصفة قرون. ويتقدم لخطبة إلسي الشاب (هارولد) الذي يخدع الفتاة بالحب وإنما هو يطمع في مال أبيها إذ يطلب منه بعض المال ليؤسس به عملا، ويضيق (رادفورن) بهؤلاء الطامعين ويؤخر الحديث في مطالبهم إلى ما بعد العشاء، ويجلس الجميع إلى المائدة، ولا يمهلهم الرجل (رادفورن) إلى أن يتموا عشاءهم فيفاجئهم بحديث هادئ يفضي فيه إليهم بأنه مجرم. . يعمل في تزييف السندات والأوراق المالية، وإن المال الذي يأكلون منه مال حرام. . وأنه عرضة للقبض عليه إذا كشف أمره (بوليس اسكتلنديار)! فيدهشون ويفزعون أشد الفزع، ويفر الشاب، ويهرع الضيفان إلى حزم أمتعتهما للرحيل. وهنا يتغير شعور الفتاة (إلسي) فتزهد في المغامرة وتصير كل أمانيها منحصرة في الأمن ثم يقبل مفتش من (اسكتلنديارد) ويخفي مقصده في أول الأمر قائلا إنه يريد أن يسأل المستر رادفورن عن أشياء تتعلق بإحدى القضايا. ثم يستقبله رادفورن؛ وينفردان ويدور بينهما حديث هادئ عنيف في آن. . يبدأ بالتلميح ثم يندفع المفتش إلى مصارحة الرجل بأن البوليس يعرف عمله المريب ويطلب منه أن يساعده بالكشف عن الشركة التي يعمل معها على ألا يصيبه مكروه. ولكن رادفورن يقابله مقابلة هادئة قوية بحيث لا يستطيع المفتش أن يظفر منه بغير السخرية وعدم المبالاة، فليس لدى البوليس أدلة مادية على إدانته، وأخيرا ينادي رادفورن زوجته وابنته ويقول لهما أمام المفتش إنهم سيقومون برحلة بعيدة يمران فيها ببلاد المشرق؛ ويكون ذلك بمثابة اتفاق غير مباشر بينه وبين المفتش على أن يقطع عمله المريب، وتنتهي المسرحية باعتزام الأسرة وتأهبها للرحيل
والرواية من الأدب المسرحي الذي يحمل المشاهد على متابعتها بذهنه وإعمال فكره، وهي تعتمد في المفاجآت والحركة على الانتقالات الشعورية لأشخاصها، وتبرز خلالها أفكار يعرضها المؤلف بلسان الاحداث؛ فالإنسان يزهد في الهدوء والاستقرار ولكنه يتمناهما عندما يتعرض للأخطار، والحياة لا أمن فيها ولا استقرار مع الانحراف، والهدوء لا يلبث أن ينقلب إلى قلق واضطراب إذا لم تحرسه الاستقامة. ويعني المؤلف برسم الشخصيات ويقدم من الناس أنماطا مختلفة يظهر كلا منها في وضوح، وأهم هذه الشخصيات هي شخصية (رادفورن) الذي يمثل برود الرجل الإنجليزي على أتم ما يكون، تحيط به المخاوف الروائع فيضبط أعصابه ضبطا عجيبا ويبدو كأنه لا يشعر ولا يبالي بشيء
وقد أبرز الأستاذ زكي طليمات - بإخراجه - كل تلك المعاني وكأنه يستمع إلى همسات المؤلف الدقيقة ويتجاوب معها ويرتب لها، ومما يستلفت النظر مشهد الجماعة وقد تحلقت حول مأدبة العشاء، فقد طال هذا المشهد ولكن لم يمض جزء من زمنه إلا مشغولا بحركة أو لفتة أو طرفة إلى ما ساده من المباغتة المرهبة
وقد أجاد الممثلون جميعا في هذه المسرحية، وخاصة الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني قام بدور (رادفورن) فكان موفقا كل التوفيق في التعبير بالمواقف المختلفة، وقد أظهر مقدرة فائقة في تمثيل البرود الإنجليزي، حتى ليصعب علي أن أراه بعد ذلك رجلا مصريا. . وأعتقد أن هذا هو دوره الذي يعرف هب في حياته التمثيلية. وكذلك كانت نعيمةوصفي موفقة في دور (مسز بكسلي) وهو دور فكاهي قامت به على أكمل وجه، وأجاد محمد السبع في دور المفتش وهذا الممثل يستطيع أن يقف المواقف الطويلة وهو يجدد شوق المشاهدين بحركاته وانتقالاته البارعة، وكان كمال يس (في دور برنارد بكسلي) مثال الرجل (الهجاص) الذي لا يحسن غير الأكل والتظاهر بالمظاهر الفارغة
وأرى أن هذه المسرحية تعتبر تجربة للجمهور من حيث تذوقه للمسرحيات العالية، وألاحظ أنها تجربة ناجحة، وإن كنت لا أدري أذلك لأن هذا الجمهور من طبقة خاصة أم أن الجمهور المصري يظلمه المهرجون. .؟
حول مؤلفات العميد
تلقيت الرسالة الآتية من الأديب الذي يصر على أن يوقع (أسامة) وهو يعقب بها على ما كتبته بعنوان (طه حسين الوزير يتحكم في طه حسين المؤلف):
(خاطر غريب، لست أدري مبعثه، دفعني لأن ألقي بالكتاب الذي في يدي جانبا، وأتناول (الرسالة) فأقرأ مرة أخرى (كان شعاري منذ وليت وزارة المعارف ألا تشتري الوزارة كتبي حتى أخرج منها. . . ومع ذلك فما أظن وجود هذه الكتب في المكتبات في متناول المدرسين والطلاب يضر أولئك أو هؤلاء أو لا ينفعهم)
وأنا وإن كنت مثلك - يا سيدي - لا أحب أن أخوض في الحديث الملوث بالحزبية إلا أني في حيرة من أمري. . . وأسأل نفسي: أيوجد هناك من يعترض على مد الناشئة بكتب طه حسين؟!. . . وما الدافع على ذلك؟!. . . أهو الجحود بالعبقرية أم الكفر بالأدب والعلم الخالد؟!. . . أم هي الحزبية السياسية الحمقاء التي يجب ألا تنفذ إلى ميدان العلم؟!. . .
إننا لو تركنا جانبا ذلك الغذاء الأدبي والفني الذي يعود على الناشئة من كتب طه حسين، ونفذنا من زاوية واحدة. . . زاوية التربية الصحيحة والاتجاه إلى الأخلاق الفاضلة، وخلق الطموح فيهم - وهو ما تحتاجه ناشئة مصر الذين ران على قلوبهم في السنين الأخيرة نوع من الخمول والرضا - لألفينا مؤلفات عميد الأدباء تؤدي رسالتها كاملة من هذه الناحية. . .
ونستطيع أن ندرك ذلك حين نتصور تلك الكليمات تنفذ إلى قلب الطالب الصغير نم بين القصة الخالدة - الأيام - (وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه). . . وفي غمرة هذا التأثير الذي يسيطر على الصبي الصغير تنفذ هذه النصائح الغالية إلى النفس، فتعمل عملها
وهذا الطموح الذي يخلق في الناشئة، وحب العلم الذي يستولي على نفسهم حين ينظرون إلى وزيرهم وإلى عبقريته الخالدة ثم يقرؤون في أيامه (أنه كان ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ حظه منه في الصباح والمساء، لا شاكيا ولا متبرما) ثم يسألون كيف انتهى إلى حيث هو. . . فيعلمون أنه كان صبي جد وعمل. .، وأن المجد لا ينال إلا بالجد والعمل. .
صوتي إلى صوتك نرفعه إلى معالي وزير المعارف: بأي حق يحول بين الناشئة وبين ارتشاف العلم من كتب طه حسين؟!. . .)
عباس خضر