الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 923/عبد العزيز فهمي باشا

مجلة الرسالة/العدد 923/عبد العزيز فهمي باشا

مجلة الرسالة - العدد 923
عبد العزيز فهمي باشا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 03 - 1951


حم قضاء الله ومضى الرجل العظيم مستقبلاً وجه الخلود! والرجولة والعظمة صفتان تجمعان ما أوتي عبد العزيز فهمي باشا من مناقب مصدرها خلقه، ومواهب مظهرها عمله. كان رجلاً بالمعنى الرفيع الذي يفهمه المهذب من لفظ الرجل، وكان عظيماً بالمعنى الجميع الذي يدركه المثقف من كلمة العظيم. ولو ذهبت تحلل حياة أول القضاة في سجل القضاء، وثاني الزعماء في سجل السياسة إلى عواملها الأولية، لوجدتها في الخلال الصدق والصراحة والإباء والشجاعة وهذه هي الرجولة، وفي الأعمال العمق والشمول والإتقان والتفرد وهذه هي العظمة. وفقد رجل كهذا الرجل حياته تأريخ، وعمله رسالة، وخلقه قدوة، وكفايته ثروة، خسارة إنسانية لا خسارة قومية، ومصاب آمة لا مصاب أسرة، وفجيعة منفعة لا فجيعة عاطفة. فإذا جزع الشعب لموته هذا الجزع فإنما يجزع لركن هوى لا لغصن ذوى، ولهاد مضى لا لصديق قضى. والجزع على العظماء لا يكون بالعبرات التي تطفىء، وإنما يكون بالحسرات التي تحرق، والخطب الذي يبكي العيون، أهون من الخطب الذي يدمي القلوب. ومن يقف أمام الحصن الذي ينسف، أو الكنز الذي يخسف، يجد في نفسه الروع الذي يذهل، لا الحزن الذي يعول.

كان عبد العزيز فهمي جزءاً ضخماً من ثروة مصر العلمية. وهذه الثروة لا تزال من حيث الكيف ضئيلة. فإن العباقرة الذين هيأتهم إلى العلم الصحيح طبائعهم الحرة وملكاتهم الأصيلة لا يزالون بيننا آحاداً. وقل من هؤلاء الآحاد من جمع إلى العلم سمو العالم ونزاهة المصلح كما جمعهما الفقيد. واجتماع هذه المزايا فيه لا يعلله معلل من نشأته وبيئته ودراسته. فإن هذه العوامل نفسها أو شبهها أثرت في غيره من أهل جيله، ولكن مصر لم تظفر من بينهم بمثيله. هناك أمر قد يكون مفتاح السر وطريق المجهول: ذلك أنه تلقى دراسته الأولى في الأزهر كما تلقاها فيه محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي. وهؤلاء جميعاً قد تشابهوا في قوة الشخصية ونفوذ العقلية، فدرسوا الفقه بعمق، وعالجوا البيان بحدق، وزاولوا المحاماة ببراعة، وتولوا القضاء بجدارة، ومارسوا السياسة بخبرة. ولكنه أنفرد من دونهم جميعاً بخصائص خلقية جعلت ذلك التشابه تغايراً في بعض نواحي الرجولة. كان رحمه الله لا ينافق ولا يمالق، ولا يداهي ولا يداحي، ولا يدلس ولا يلبّس، ولا يقول إلى ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه. وهذه الصفات قد تج المصلح عظيما، ولكنها لا تجعله زعيما. وأريد بالزعامة هنا زعامة العامة لا زعامة الخاصة، فقد كان الفقيد زعيما في المحاماة، وزعيما في التشريع، وزعيما في الشورى؛ وفي كل هذه الأمور كان هو وسعد يتعاوران الأولية، فلما دخلا معا ميدان السياسة، دخلها هو بعقل القاضي ولسان المحامي. والقاضي أداته قانونه ونزاهته، والمحامي آلته دليله وبلاغته. وإذا تجهزت للزعامة السياسية في أمم الشرق بالقانون والضمير والنطق والصراحة والصدق، هاجمك خصمك بالأباطيل الغاشية فيظهر عليك، ووقف منك جمهورك على الحقائق العارية فينفر منك. لذلك كان حظ عبد العزيز من القضية المصرية على فصاحته في الخطابة وبلاغته في الكتابة، حظ القائد الحكيم الذي توضع الخطط على رسمه، لا حظ القائد الزعيم الذي نتوج (الأوامر) باسمه. وظل طول عمره السياسي راضيا بهذا الحظ حتى عجز آخر الأمر عن التوفيق بين هواه والعامة، وبين خلقه والسياسة، وبين ضميره والحكم، فارتد إلى القضاء وقد آتاه الله فيه الحكمة وفصل الخطاب، فوضع المبادئ، وقرر الأحكام، وأضاف إلى الفقه المصري مادة ضخمة من علمه وحكمه زادت في ثروته ورفعت من قيمته.

ثم اختير بعد اعتزاله القضاء عضواً في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، فأخلى ذرعه للنظر في علوم اللغة والأدب بعين الفقيه المجتهد والأديب الناقد، حتى بلغ منها مبلغ الأعلام الذين وقفوا على تحصيلها العمر والجهد. وتقدم إلى المجمع بمشروع اقتباس الحروف اللاتينية للكتابة العربية، مقرونا بالأسباب، معززا بالمزايا، مؤيدا بالأسانيد ثم أعقبه بكتاب ألفه في الرد على معارضيه ومنتقديه، جمع إلى بلاغة الأسلوب قوة العرض ومتانة الحجة، فكان آية على سمو طبقته في الكتابة وبعد غيته في الأدب. فلما أقعدته العلة رضوان الله عليه كانت غرفة مرضه ملتقى أقطاب الفقه والأدب والسياسة، يستفيدون من علمه، ويستزيدون من أدبه، ويستضيئون بفكره؛ وهو في كل ما يعرض عليه أو يتعرض له طلق البديهة، محكم الرأي، جيد الأستنباط، حاضر الدليل.

كنت فيمن يزورونه الحين بعد الحين، فكان في كل زوره يكشف لي غير عامد عن سر من أسرار عبقريته. دفع إلي مرة بضع مقالات في نقد شرح وضعه أستاذان جليلان لكاتب البخلاء، وشرط علي أن أنشره غفلا من الإمضاء. فلما ظهر النقد في الرسالة كان حديث الأندية ومثار الظنون، لأن الناس عجبوا أن يستتر الناقد وهو على هذه الكلمة من ثقوب النظر، وقوة التوجيه، وصحة الأستدلال، وعفة اللفظ. وأفضى إلي مرة أخرى بأنه يقرض الشعر منذ الحداثة، إما مناقله بينه وبين نفسه؛ وإما مساجلة بينه وبين إخوانه. ثم أنشدني مطارحة من جيد النظم جرت بينه وبين الأستاذ المفتي الجزائري، وقصيدة دالية من المطولات وصف فيها فساد الطباع في الناس، وسقوط الأخلاق في المجتمع. فلما طلبت إليه أن يهديها إلى قراء الرسالة سوَّف هربا من سقوط الأضواء ثانية عليه وهو مضطجع على أعراف المجد يسترفه من مكارة الواجب وتكاليف النبوغ. وما زال الناس يرددون هذه الأرجوزة القصيرة التي نظمها وكتبها على قبر زوجته وقد نعم بالعيش معها سنة واحدة ثم توفاها الله بحمى النفاس فلم يتصل بامرأة بعدها حتى لقيها:

يا وردة عاشت حياة الورد ... عمراً قصيراً وثوت في اللحد

لولا بريء غافل في المهد ... يرضيك أن أحيا ليحيا بعدي

لعجًّلت بي زفرات الوجد

أما بعد فماذا ينشر الكاتب الموجز وماذا يطوي من حياة أقل مفاخرها موضوع كتاب، وجملة مآثرها تاريخ عصر؟

رحم الله المحامي المدرة، والقاضي المجتهد، والوزير النزيه، والدستوري الحر، والفقيه الحجة، والخطيب المفوه، والكاتب البليغ، والشاعر المجيد، والناقد البصير، والأديب المطلع، وألهمنا على فقده جميل الصبر، وعوضنا من بعده خير العوض!

أحمد حسن الزيات