مجلة الرسالة/العدد 923/إرهاصات في الجزيرة قبيل البعثة المحمدية
→ الوطنية في المهجر | مجلة الرسالة - العدد 923 إرهاصات في الجزيرة قبيل البعثة المحمدية [[مؤلف:|]] |
خواطر مرسلة: ← |
بتاريخ: 12 - 03 - 1951 |
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
- 1 -
كان الاعتقاد السائد حتى القرن الثامن عشر، أن الحركات الإصلاحية وليدة العبقرية الفردية، فهي مدينة بوجودها لهم، ومتوقفة في بقائها عليهم، وعلى مقدار ما يوجد من عباقرة، يتوقف سير الحياة أو يندفع، وتبطئ عجلة الزمن أو تسرع، ويشغر مكان القيادة أو يملأ، حتى إذا جاء دور كايم، حطم هذه النظرية، وأقام على أنقاضها صرحا سامقا لنظرية أخرى، وصنع من أشلائها مذهباً عاليا لرأي أقوى، يرد كل ظاهرة في المجتمع إليه، وينسب كل رقي إلى تفاعله، ويجرد الفرد من سلاح الخلق والابتكار!. . .
وهو مذهب حري بأن يقف الإنسان عنده طويلا، وان يتملى حقائقه مليا، فسيقوده في رفق إلى مواطن الخفاء فيما نجح من دعوات فبقي، وما فشل من مذاهب فتلاشى، وما صلح من أديان فخلد، ويرد كل نتيجة إلى أسبابها، وكل ظاهرة إلى عللها، وما الفرد إلا أثر لمكانه وما اتصل به، ولزمانه وما استتبعه، ولبيئته وما اعتمل فيها!. . .
فعلم الاجتماع الحديث يقرر أن الظواهر أيا كان نوعها، من خلق المجتمع وأليست من صنع الفرد، وحقيقة أي مجتمع لا وجود له بدون أفراده، ولكن من تجمع هؤلاء واحتكاكهم، ينشأ شيء يختلف كل الاختلاف عن خواطرهم الفردية، وقد يبدو غريبا إن ينشأ من اجتماع عناصر ما، حقيقة خارجة عنها في عالم المعاني، ولكنها في عالم الطبيعة أمر ظاهر ومألوف، (فكما أن الخلية الحية لا تحتوي على شيء آخر غير الجزيئات المعدنية، كذلك لا يضم المجتمع شيئاً غير الأفراد، ومع ذلك فإنه من المستحيل بداهة أن تحتوي ذرات الإيدروجين أو الأكسوجين أو الأزوت أو الكربون على الظواهر المميزة للحياة، وبناء على ذلك فلا يمكن إلا أن نتخذ الحياة المادية بأسرها مستقرا لها، فهي توجد في الكل ولا توجد في الأجزاء. . . وحينئذ فليس لنا أن نطبق هذا المبدأ على علم الاجتماع) لأن ما هو ممكن في عالم المادة، فهو في عالم الأناسي أمكن، حيث الأفكار تتفاعل، والنظرات تمتزج. . .
وما أناقش مذهباً رست دعائمه، وتوطدت أركانه، أو أن أشرح طرائفه ومناهجه، أو أصوغ قوانينه وقواعده، وإنما أعرض لموقفه من الدين، فهو عندهم ظاهرة اجتماعية وأن جاء به الوحي، وأثر أرضي وإن نزل من السماء، وخلق جمعي وإن نهض به رسول، ما دام المجتمع قد أخذ به ورضيه، وأخلد إلى أوامره وسكن إلى نظمه. ولن يستقر دينفي مجتمع ما، إلا إذا انسجم مع طبيعته، وواءم فكره رقيه الفكري وتطوره الاجتماعي، وكان معدا لسماعه، متطلعا لأحداثه، فالرسل مترجمون عن حالة، المجتمع مهيأ لقبولها، يفهم مظهرها، ويستسيغ حقائقها، ويرنو إلى مثلها العليا. ولأمر ما، كان الرسول بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!
(إن الدين لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والميول والمثل العليا، وإن هذا اللون من ألوان التعبير متصل أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والأمم، ممثل لها تمثيلا صادقا قويا. . . وهو طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل العليا) ومن ثم تعددت الأديان، لا بتعدد العصور وحدها، وإنما بتعدد الأمكنة أيضا، لأن كينا ما، قد ينهض في موطن ويكبو في غيره، وقد يثمر في مجتمع ويجدب في سواه، فالدين الإسلامي مثلا، وقف عند حدود معروفة ودول معلومة، ورغم الجهود الجبارة التي بذلها المسلمونفي اجتياز هذه الحدود، لم يكتب لهم النجاح، ولم يقدر لهم التوفيق، على حين أن هناك أماكن انتشر فيها بطبيعته، ولم يجد صعوبة ما في أن يثبت فيها وأن يقوى!. . .
وأنا وأنت وغيرنا، هل كان لنا فضل في اتخاذ الإسلام دينا والإيمان به عقيدة، أم ترانا خرجنا إلى الحياة، فوجدنا آباءنا كذلك، فتابعناهم وسايرناهم وسلكنا نفس الطريق الذي يسلكون؟ هل استطاع أحد ما، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو حتى بلا دين، أن يصطنع الجدة ساعة، فرأى المتابعة كسلا، والتقليد خمولا، والإذعان ضعفا، فنقب وبحث ودرس وقارن، وانتهى إلى عقيدة نيرة، يؤمن بها لأنها حق، ويخضع لها لأنها صواب؟
إنما نحن أسارى المجتمع (فالطفل حين يدخل العالم لا يحمل معه سوى طبيعة بيولوجية، غير خلقية أو اجتماعية، تستطيع أن تتكيف بجميع الهيئات والأشكال، فهو لا يختار لنفسه لغة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها، بل هو المجتمع الذي يضطره إلى اتباع الديانة التي يشب عليها، أو اللغة التي يتكلم بها، والواحد من ساعة نشأته يؤلف جزءاً من مجتمع له تعاليمه وأخلاقه ولغته وديانته وفنه وعاداته وتقاليده وتاريخه وأنظمته وخرافاته ومثله الأعلى، ولا بد من التقيد بهذا الميراث والعمل به)
هذا هو رأي علم الاجتماع في الأديان، وقد اهتدى إليه قوم يدرسون المجتمع كما هو، لا يطيرون مع الملائكة، ولا يمتطون أجنحة الخيال، ولا يركبون متن الفرض، ولا يجنبون إزاء الحق، ولا تعميهم المثل العليا عن واقع الحياة. . .
وفي ضوء العلم، وعلى هدي منه، نريد أن نستشف حال الجزيرة العربية قبيل البعثة المحمدية، لنتفهم حالها. . . أجاء الإسلام فصار بها غير ما أحبت، وساقها إلى غير ما هويت، ونقلها من حال كانت فيها، إلى حال لم تكن تريدها، أم أن تيار الحوادث؛ كان ينبئ بما سيتمخض عنه الغد، وما سيحمله المستقبل، وما ستأتي به الليالي في قابلها القريب أو البعيد؟. . .
(للكلام صلة)
الطاهر أحمد مكي
كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول