مجلة الرسالة/العدد 920/صور من الحياة
→ خطرات وذكريات | مجلة الرسالة - العدد 920 صور من الحياة [[مؤلف:|]] |
يزيد بن المهلب ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1951 |
سماوية. . . و. . . أرضية
(كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى)
قرآن كريم
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا أيها الجبار، خفف الوطء فما أنت سوى ثرى يمشي فوق ثرى، وما هذا اللقب الذي تفخر به سوى سيما الذل والضعة اتسمت بها لأنك تعبدت - في غير رجولة - لرجل من الناس، وما هذا المال الذي تعتز به سوى لعنات الفقير تنصب عليك أبداً لأنك استلبته في غير شفقة - من مساك الروح!
يا أيها الجبار، لقد عميت فجذبك الثرى الأرضي إليه لتكون أرضياً في نوازعك ترتدغ في الوحل، ولتطردك روحانية السماء من نورها ومن رحمتها في وقت معاً!
هذا صاحبي رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرامة والترفع، وفيه الإباء والإيمان؛ فهو قد شب ونما واشد غرسه في ظلام القرية، وترعرع واتد رأيه في كنف الدين. وهو من بيت فيه القناعة والرضا، يسمو عن النوازع الوضيعة بالقناعة ويتنسم روح الجنة في الرضا، لا تشغله حاجات العيش عن معاني المسجد، ولا تصرفه صوارف الحياة عن نور اليقين. والحياة في أعماق القرية لا تندفع إلى الطمع ولا تغري بجشع؛ فاطمأن صاحبي إلى روق ضيق وإيمان واسع، وهدأ إلى بيت خاو وقلب عامر؛ وانطوت الأيام. . .
وأحس صاحبي بدوم الشباب الحار يتدفق في عروقه ويفور، فانطلق إلى فتاة من ذوي قرابته يخطبها لنفسه فما رفض أبوها ولا تمنعت أمها، فإذا هو زوج إلى جانب زوجة رفيقة طيعة. وراح الرجل - كدا ًبه أبداً - يتسلل من الدار كل صباح - لدى الفجر - إلى الجامع يبتغي أن يتجرد ساعة من أرضيته الثقيلة لتحلق روحه الطاهرة - حيناً - في صفاء السماء تطلب الهدوء والسكينة، وتسأل العطف الإلهي الذي يتراءى لها في صورة طفل يملأ الدار مرحاً وبهجة ويفعم القلب فرحاً وسروراً. وانتظر الرجل الهبة الإلهية طويلاً. . . انتظر طويلاً في غير جدوى. ولم يستطع الشيطان أن يتسرب غلى قلب الرجل الورع فينفث فيه الأسى واليأس، أو يوسوس له بالشر لأنه لم يرزق طفلاً، فصبر. . . صبر والزوجة البائسة تحس خواطر قلب زوجها فتتقلب. . . في صمت. . . على جمرات من الضيق أنها تخشى ثورة الرجل الذي أكرمها عاقراً سبع سنوات عجاف. وبدأت نفسها تتفلسف لسفه الفلاح حين يمسك بالفأس ليجتث أصول الشجرة التي لا تفئ ولا تأتي الأكل، فاضطربت وطار عنها القرار لأنها تضن الحياة النيعمة التي تسعد بها أن تنكفئ فتستحيل جحيماً أو تنفصم عروقها؛ وتضن بهذه الشمس المشرقة في أرجاء الدار أن تغيب في غمرات اليأس، وتضن بهذا الرجل الطيب أن يحور وحشاً يفترس. . . يفترسها هي في غير ذنب ولا جريرة؛ فانضمت على أسى وضيق، ولكنها توجهت بقلبها إلى السماء.
وعلى حين فجأة أثمرت الشجرة التي أقفرت عمراً طويلاً فأضاء وجه الرجل لمقدم الطفلة وأشرق النور في جنبات قلبه، وأضاء وجه المرأة وهدأت جائشتها؛ واستحالت حال الدار فأفعمها البشر وفاض بها السرور. وترقرق الأمل في عصب الرجل ونبضت الهمة في قوته، فانطلق إلى الحقل يحدوه الرجاء ويدفعه الأمل فأصاب مالاً على حين لم يغفل نزعات روحه السماوية.
ودرجت الطفلة وشبت، وإلى جانبها قلب أبيها يفيض بالحنان والرقة، ويده تفيض بالكرم والسخاء؛ وهو في عمله يستنفد وسع الطاقة في جد، ويبذل غاية الجهد في رضا، ومرت الأيام في هدوء رتيب يدفع الصبية غلى الصحة والنشاط إلى أن بلغت سن الشباب والأنوثة.
وفي ذات صباح - وعلى حين غفلة من أهلها - هبت الفتاة لترى الداء يتسرب إلى رقبتها فتتورم، ورأت الأم ورأى الأب، فأصابها الفزع. وطار الأب في - في ذعر - إلى حلاق الصحة. . وحلاق الصحة في القرية رجل فرض نفسه ليكون طبيباً يصف الداء ويسرف على العلاج، فهو يعبث بالمرضى كيف يشاء والحكومة في عمى عن أمره، ويستنزف الصحة والمال، لا يجد رادعاً من نفسه ولا يحس غلظة من قانون.
وجاء حلاق الصحة يداوي علة الفتاة على طريقته التي تتخبط في متاهات الجهل، ولكن الداء تأبى عليه فما أجدت حيلته ولا أصاب رأيه.
وأصاب الأب السهوم والضيق مما تلقى فتاته؛ فهو لا يرى إلا كاسف البال. مقطب الجبين. مضطرب الخاطر.
ونفد صبر الرجل من طول ما عانت ابنته فجلس إلى الحلاق يستوضحه خبر المرض الذي عز دواؤه، ويسأل النصيحة الخاصة بعد أن أجزل له العطاء، فقال الحلاق (إن في القاهرة طبيباً كبيراً هو سعادة فلان يستطيع أن يحتال للأمر بحيلته وبراعته وعلمه، فاذهب إليه علك تجد عنده شفاء ابنتك).
فقال الرجل (وماذا عسى أن يطلب مني أجر هذا العلاج)
قال الحلاق (أظنه لا يقنع بأقل من عشرة جنيهات)
وانطلق الأب من فوره يهيئ الجنيهات التي يطمع أن يشتري بها صحة وحيدته فما أسفر الصبح حتى كان يصحب ابنته في طريقهما إلى القاهرة يريد أن يمسح عن الفتاة قسوة الداء، وأن ينفض عن قلبه لفحه الحيرة.
وطرق الرجل باب صاحب السعادة الطبيب الكبير فانفتح له، ووقف الرجل المسكين أمام الطبيب الثري يشرح له عمر الداء ويتحدث عن لوعته وفزعه، في صوت يبكي بكاء الأب الملتاع يترجى وحيدته وفي خياله أنه يوشك أن يفقدها وهي بسمة الأمل في ظلمات الحياة. ونور القلب في مضلات العمر. وسمع الطبيب خفقات قلب الرجل وهو ينفض ذات نفسه في ذله وانكسار فما اهتز له ولا راق؛ ثم شمخ بأنفه في صلف وكبرياء وهو يقول (هذه العملية لا أرضى فيها بأقل من خمسين جنيهاً)
ودوت الكلمات في أذني الرجل الريفي الساذج فارتعدت لها نفسه ومادت به الأرض من هول ما سمع. وذهب يحدث نفسه (خمسين جنيهاً؟ خمسين جنيهاً كاملة ينالها رجل من الناس أجر ما يضع المشرط ثم يرفعه؟ هذا ظلم وتعسف وجور. . .) ثم صحا الرجل من ذهوله ونظر إلى الطبيب يحدثه في تضرع وخضوع (يا سيدي، إن ابنتي هذه هي وحيدتي التي أترجاها، وهي أمنية العمر وأمل الحياة، ولقد جاءت في جدب السنين وقفرها لتبذر في غراس الأمل والنشاط، ولتدفع عني عنت اليأس والضيق، وأنا رجل فقير ى أملك سوى عشرة جنيهات هي لك كلها) فابتسم الطبيب الكبير في سخرية وهو يقول (كلها؟ كلها؟) وفهم الرجل الطيب من الكلمات ما يبطن الطبيب، فقال (نعم، يا سيدي، كلها) وسخر الطبيب من عقل الرجل الريفي مرة ومرة ثم سخر مرة أخرى من المبلغ التافه الضئيل الذي يقدمه الرجل، سخر من هذا المبلغ وهو في نظر الفلاح شيء كبير لأنه يسد الخلة شهوراً وشهوراً. . . سخر الطبيب من الجرل ومن المبلغ ثم قال في جد (لا أقل من خمسين جنيهاً) والح الرجل يتوسل في أسلوبه الريفي على حين قد أوصد الطبيب قلبه عن لوهة الأب، ثم اندفع يهر في الرجل هريراً منكراً وهو يقول (نحن هنا لا نتصدق! نحن هنا لا نتصدق أيها الجلف! أخرج، أخرج فقد أضعت وقتي وجهدي سدي) وخرج الرجل من لدن الطبيب العظيم وقد انكسر خاطره وذوى أمله وتحطم قلبه. وخرج وما في مسمعيه سوى صرخات الطبيب العظيم وهو يعوي عواء منكراً (نحن هنا لا نتصدق. . . نحن هنا لا نتصدق)
وعجب الرجل أن يكون في الدنيا رجل لأرضي يتحدى بأرضيته الوضيعة. روحانية السماء السامية. فرفع بصره صوب السماء يدعو (إنك أنت، يا إلهي، الذي تتصدق علينا جميعاً)
وضاقت الأرض في عيني الرجل فلم يجد سعة إلا في المسجد، في المكان الذي يمسح عن نفس المرء خبث الأرض. وجلس هناك يستجدي ندى السماء حين أغلقت في ناظريه أبواب الأرض. جلس وإلى جانبه ابنته تعاني شدة الضنى نهكة المرض ووعثاء السفر فأخذتها سنة من النوم، واندفع هو في تضرعه حتى أرهقته النصب فاستسلم هو أيضاً للكرى.
ورفت عليهما الرحمة الإلهية تهدهد من أشجانهما ومن آلامهما وفزعت الفتاة من أحلامها - بعد لحظة - تتلمس موضع الورم من رقبتها فإذا هو ينفض ما فيه من دم وقيح، وأسرعت إلى أبيها توقظه ليمسح عن الجرح ما سال منه وقد سكن الورم.
يا عجباً! لقد انفتحت أبواب السماء لدعاء الأب المسكين فجاء المشرط الإلهي يبرئ سقم الفتاة التي ضن عليها الطبيب الأرضي بمشرطه إلا أن يرهق الأب بالمال الذي لا يجد إليه سبيلاً. وسمت سماوية الرجل الصالح على أرضية الطبيب الشره تمحقها، فارتدت الفتاة - في لمحة واحدة - تحس الراحة والهدوء والصحة.
فيا لسماوية السماء. . . يا لسماوية السماء! كامل محمود حبيب