مجلة الرسالة/العدد 920/رأي في تحديد العصر الجاهلي
→ الأمانة العامة. .! | مجلة الرسالة - العدد 920 رأي في تحديد العصر الجاهلي [[مؤلف:|]] |
خطرات وذكريات ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1951 |
بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي
صاحب العزة إبراهيم مصطفى بك عضو مجمع فؤاد الأول
للغة العربية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولا نذكر التجاء اليمن إلى الفرس أعداء الروم ولا استعادتهم لنصيب من حكم بلادهم ولا سعي الفرس لبسط سلطانهم عليهم، وإنما نذكر أن بلاد العرب خلت من دولة تحكمها وتؤمن سبلها وتحمي تجارتها ووقعت في فوضى نرى بعض صورها في شعر كشعر الحارث بن حلزة إذ يقول:
هل علمتم أيام ينتهب النا ... س من غواراً لكل حي عواء
لا يقيم العزيز بالبلد السه ... ل ولا ينفع الذليل النجاء
ليس ينجي موائلاً من حذار ... رأس طود وحرة رجلاء
فهذا عندنا حد العصر الجاهلي العربي وتلك سماته التي أوحت إلى الشاعر القديم أن يقول:
لا يصلح الناس فوضى لا سراه لهم ... ولا سراه إذا تجاهلهم سادوا
وإذا نظرنا إلى الجزيرة العربية في هذا القرن وجدنا آثار المعسكرات اليمنية ومعاقلها مبعثرة في أنحاء الجزيرة.
بنو الحارث بن كعب في جنوب الحجاز وكانوا يلقبونهم ملوكاً، والأوس والخزرج في شماله، وفي نجد طي وكلب وملوك كنده - وفي عمان الأزد وفي تخوم العراق المناذرة، وفي مشارق الشام الغساسنة، وكلهم ينتسبون إلى اليمن. وقد نشبت الحروب بينهم كل يريد الملك لنفسه كما فعل قواد الاسكندر في ملكه الواسع من بعده. وثار العرب ون غير اليمن وهم العدنانيون وتطلعوا إلى الاستقلال والتفرد بالسلطان، واشتعلت الحرب بين العدنانيين واليمنيين وبين العدنانيين والعدنانيين - ونهض كل مغامر طموح، وطمعت كل قبيلة ذات قوة أن تستبد بالسلطان وغلبت عليهم حمية العداوة والثأر ومضى شعرائهم يتغنون بفظائع الحرب: وحليل غانية تركت مجدلا ... تحكو فريصته كشدق الأعلم
فشككت بالرمح الأصم جنانه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
فتركته جزر السباع ينشنه ... ينحضن حسن بنانه والمعصم
كأن جماجم الأبطال فيها ... وسوق بالأماعز يرتمينا
نجز رؤوسهم في غير بر ... فما يدرون ماذا ينفرونا
ولكن حياة العرب - كما قدمنا - تعتمد على التجارة ورزقهم منها ولابد أن يتجروا ليعيشوا - والأثر الوارد: تسعة أعشار الرزق من التجارة. والرسول كان منذ الصبا تاجراً وأبوه وعمه وجده تجار، وزوجه خديجة ترسل في التجارة أموالها وبسبب من التجارة كان زواجها - وأبو بكر وعمر وعثمان تجار، وما شئت من وجوه الصحابة وأشراف العرب كانوا يعملون في التجارة.
واللغة نفسها تحمل أثر التجارة وغلبتها على أعمالهم؛ فالإيمان تجارة لن تبور، وتجارة تنجيكم من عذاب أليم، والله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. والمؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وعهد الخلافة بيعة.
فلا بد لهم من تجارة ليعيشوا ويرتزقوا. ولا مناص لهم من الحرب ليثأروا ويتسلطوا، ونا عظمت شعائر الأشهر الأربع الحرم. وشاعت البيوت المحرمة الآتية وكان أمجدها بيت قريش بمكة، وحرم الله الذي امنن به القرآن على قريش (أو لم يروا أنا جعلنا لهم حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).
وبدت عادة التحالف وتضام بعض القبائل إلى بعض والحرص على العهد والوفاء بالعقد.
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه - العهود والكفلاء
حذر الطيش والتعدي وهل ... ينقض ما في المهرق الأهواء
وبدت نغمة التحذير من الحرب والثناء على السلم وتمجيد مساعيه:
يميناً لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما أن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على الخير منها موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومأثم وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضربتموها فتضرم
والشعر لزهير في معلقته. وولداه كعب وبجير قد لقيا المصطفى وآمنا به.
فهذا تحديد العصر الجاهلي وتلك ملمحه ومعالم حوادثه، يبتدئ بفقد حكومة البلاد وضياع أمنها واضطراب نظامها في سنة 525 وينتهي بقيام الحكومة التي تقر السلام وتنشر الأمن في سنة 622 وما بينهما عصر الجاهلية والفوضى والتناحر على السلطان ومنذ بدا لي هذا الرأي جعلت أختبره فيما أقرأ من أخبار فأرى حوادث الجاهلية تمضي في حدوده منسجمة منسقة متضامة يوضح بعضها بعضاً.
وأجد من الشواهد في تاريخ الأمم المجاورة ما يؤيده.
فالغساسنة كانوا يتخمون الروم في الشام قبيل الإسلام ولهم مع الدولة البيزنطية صلاة مدمنة نرى أنها مرت بحالتين: صلة الجار المجاور الذي يسالم ويحارب، وصلة التابع الذي يستمد ولايته الشرعية توليته غيره.
وللمستشرق العظيم نلدكه بحث تاريخ أمراء غسان كتبه وهو شاب لينال به الدكتوراه ثم رجع إليه بالتحقيق بعد النضج وبعدما ظهرت مستندات من تأليف المعاصرين من السجلات الرسمية في الكنائس وغيرها - وقرر أن أقدم اتصال للغساسنة ببيزنطة اتصال التابع المستعين كان في زمن الحارث الأكبر من سنة 529 إلى سنة569 إذ أنعموا عليه ثم على ولده من بعده بلقب بطرق وهو لقب حكام الأقاليم عندهم. وتفسير ذلك عندي أن الغساسنة وهم يمنيون كانوا يستمدون سلطانهم من دولتهم اليمنية ويجاورون الروم مجاورة الجار قد يسالم وقد يحارب؛ فلما زالت دولة اليمن وجاءهم الحرب من حيث كانوا يلتمسون العون اضطروا إلى الاستعانة بالروم واستمداد السلطان منهم. ونعلم أن العربي لا يقبل هذا إلا بعد القهر والقسر.
وفي بلاد تخوم العراق كان المناذرة ملوك الحيرة وكانلهم اتصال بملوك الفرس من آل ساسان.
ونقرأ من أخبارهم أن (يزدجرد) أرسل ولده (بهرام) ليتربى في بلاط المنذر بالحيرة.
وأن (يزدجرد) لما مات ثار الفرس رافضين أن يتولى أحد من أولاده لما كانوا يكرهون من حكمه؛ وأن بهرام استعان بالمنذر وولده النعمان في جيش قدروه بثلاثين ألفاً وبهم تمكن من الجلوس على عرش أبيه، ولا أرى هذا صورة التابع الخاضع، وقد كان ذلك سنة 420.
ولكن في زمن كسرى أنوشروان نرى المنذر الثالث يتولى السلطان من يد كسرى، وحكم كسرى من سنة 531 إلى سنة 578 والمنذر قتل في واقعة محددة التاريخ سنة 554 واستمر الأمر على ذلك يولي الفرس حاكم الحيرة من المناذرة - وربما ولوه من غيرهم كما ولوا عليها إياس بن قبيصة الطائي.
فهذه أسرة يمنية أخرى تبدلت طبيعة اتصالها بجارتها بعد أن سقطت دولة اليمن سنة 525.
وفي داخل الجزيرة كان امرؤ القيس آخر ملوك كنده وقد حاربه المنذر الثالث وحارب أسرته نزاعاً على الملك وقتل كثيراً من أمراء كنده صبراً ويبكيهم امرؤ القيس فيقول:
ملوك من بني حجر بن عمرو ... يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا
فلم يغسل جماجم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم ... وتنتزع الحواجب والعيونا
وإذا كان المنذر يستند إلى سلطان الفرس فإن سبيل امرئ القيس أن يستعين بمنافسيهم الذين ينازعونهم الرغبة في التسلط على البلاد العربية وهم الروم ويقصد في ذلك إلى الحارث بن جبلة والحارث كما علمنا ولي من سنة 529 إلى سنة 569.
وهكذا نرى أن ما نكشف من تاريخ الحوادث يؤيد ما بدا لنا من التحديد.
فإذا تقرر تحديد العصر الجاهلي على هذا الوجه فتح باب لدرسه دراسة قوية؛ وكان ما بأيدينا من الشعر المروي مدداً كافياً لتنوير هذا العصر وتوضيحه.
فإذا أخذنا قبيلة واحدة مثل قبيلة بكر وهي أخت تغلب وكلتاهما من وائل - ووائل فرع من فروع ربيعه.
إذا أخذنا هذه القبيلة وجدنا أنا نروي لأكثر من خمسين شاعراً من شعرائها بينهم نحو عشرين يمكن أن يكون شعر الواحد منهم ديواناً؛ وخمسة لهم دواوين مطبوعة متداولة بأيدينا وهم عمرو بن قميئة وطرفة بن العبد والخرنق أخته والمتلمس والأعشى.
وهو قدر كفيل أن يهدينا إلى معرفة واضحة لأحوال تلك القبيلة.
فإذا درست على هذا النمط كل قبيلة وتضامت أخبار القبائل ووضح بعضها بعضاً أمكن أن يكون بأيدينا تاريخ لهذا العصر أوضح وأصح وأثبت من هذه الروايات المبعثرة المشوبة بكثير من الخيال والمبالغة.
إبراهيم مصطفى