مجلة الرسالة/العدد 92/قصة المكروب
→ هل تدين الإغريق | مجلة الرسالة - العدد 92 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
محاورات أفلاطون ← |
بتاريخ: 08 - 04 - 1935 |
8 - قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
اسبلنزاني
ختام حديثه
هدم اسبلنزاني نظرية نيدم التي تقول بأن الأحياء قد تخرج من لا شيء، قد تخرج من غير آباء وأمهات واحتال على السلطات فمنحته إجازة ونفقة ليسوح في الشرق، فكرمه الشرق وأكرمه، وعاد فتلقاه إمبراطوره، إمبراطور النمسا، فبلغ بذلك ذروة مجده، فأسكرته خمرة الساعة وقال: (ما أحلى تحقق الأحلام)
- 6 -
ولكن بينما كان اسبلنزاني في سياحته المجيدة، يتنقل بين البلدان تنقل الفاتح، وتستقبله العواصم استقبالها القائد المنتصر، كانت تتجمع في جامعة بافيا حول اسمه سحابة سوداء. نعم في جامعة بافيا نفسها، تلك الجامعة التي صنع لها ما صنع ليعيد إليها الحياة. فأن أساتذتها الإجلاء ظلوا زمانا ينظرون إلى طلبتهم تعزف عن دروسهم إلى دروسه، وتتفرق عنهم لتتجمع حوله، فنال الحقد منهم، فسنوا سكاكينهم، وشحذوا خناجرهم، واصطبروا يرقبون الفرصة حتى أمكنت.
جاء اسبلنزاني إلى متحف بافيا فوجده خاليا، فقام يجمع له التحف وينتقي له من أحضان الطبيعة كل نادر معجب، فاحتمل المتاعب، ولقي المصاعب، وواجه الأخطار، حتى جعل المتحف حديث أوربا كلها. ولكنه كذلك جمع لنفسه بعض الشيء، وحفظ ما جمع في بيته العتيق باسكنديانو. فذات يوم ذهب القسيس فولتا إلى اسكانديانون وكان من أعدائه وحساده، فاحتال حتى دخل منزله وتسلل منه إلى متحفه الخاص، وأخذ يشمشم في أركانه، وإذا بابتسامة للشر سوداء تعلو شفتيه، فانه وجد بهذا الركن وعاء، وبهذا طائرا، وبذ سمكة، وقد حملت جميعها البطاقة الحمراء لجامعة بافيا. وخرج فولتا يتخبأ في طيات عباءته السوداء، وفي طريقه إلى داره أخذ يدبر المكيدة لاسبلنزاني، واجتمع بالأستاذين إسكاربا وأسكوبولي وما كاد اسبلنزاني يعود من سياحته فيخطوا عتبة داره، حتى كان هؤلاء الثلاثة الأشراف قد فتحوا كوة من جهنم فاندلعت ألسنتها في أروبا تعلن فضيحة صاحبنا للأمم، فما تركوا رجلا نابها من رجالاتها، ولا جماعة من جماعاتها إلا بعثوا إليها بكتاب يتهمونه فيه بسرقة متحف بافيا، ويقولون إنه خبأ ما سرقه في متحفه الخاص باسكنيانو
وفي لحظة أحس صاحبنا دنياه العظيمة تتقوض حوله، حتى ليسمع تصدع حيطانها وانهيار بنيانها. وفي دقيقة وجد جنته البهيجة تتصوح، حتى ليرى زهرها الجميل يذبل، وريح ريحانها تحول؛ وأخذ يحلم يقظان، فخال أنه يسمع اليوم ضحكات رجال مجدوه بالأمس، وشماتة خصومه قهرهم شر قهرة بحقائقه وتجاربه، حتى خال أن (القوة النباتية) التي قضى عليها قضاء مبرم تنبعث من قبرها وتخرج من كفنها
ولكن لم تمض عليه أيام حتى تماسك، وأحس أن الأرض لا تزال جامدة تحت قدميه. بالطبع كانت الفضيحة لا تزال قائمة، وألسنة الأعداء لا تزال صاخبة، ورحى الحرب لا تزال دائرة، ولكنه تجمع بعد تشتت، وتبوأر بعد تشعع، فألضق ظهره إلى الحائط، وامتشق سيفه، وصاح في القوم بالنزال. ذهب عنه الصبر الذي صحبه في صيد المكروب، وغابت عنه اللطافة والظرافة اللتان زانتا كتبه إلى فلتير، وأصبح كالنمر الغاضب، وأخذ يدفع النار بالنار! وجاءه دهاء الساسة فطلب تعيين لجنة للتحقيق فأجيب طلبه
وعاد إلى بافيا، ولعله وهو في الطريق إليها كان يتهيب دخولها، ويدبر أمره لينسل فيها انسلالا، حتى لا يرى عيون أحبابه الأقدمين تزور عنه، وحتى لا يسمع شفاههم تهمس فيه بالشر، ولكنه ما كاد يصل إلى أبواب بافيا حتى وقعت أعجوبة نعم أعجوبة، فقد تلقاه فعلا على أبوابها جم غفير من تلاميذه مهللين مكبرين فرحين مرحبين بقدومه، وقالوا أنهم له لناصرون، والتفوا حوله في صراخ وزئاط حتى بلغوا به كرسيه القديم الذي كان يحاضر عليه بالجامعة. وقام هذا الرجل القوي، الذي اعتمد دائما على نفسه، واعتز دائما وأعجب بنفسه، قام في هذا الجمع الكبير يخطب شاكرا ويعترف لهم بالجميل، فإذا بصوته يخذله، وإذا به يرفع منديله إلى أنفه، وإذا به يجتزئ بأن يقول لهم في كلمات قليلة وصوت أبح إنه يقدر هذا الإخلاص تقديرا عظيما
وانعقدت لجنة التحقيق، واستدعته هو وخصماؤه إليها. والآن بعد أن عرفت من هو اسبلنزاني تستطيع أن تصور لنفسك العراك الذي تلا هذا اللقاء، بل المذابح والمجازر. وأثبت للقضاة أن الطيور التي زعموا أنها سرقت لم تكن إلا طيورا خسيسة، ساء حشوها واتسخ ريشها، فقذفوا بها في الكناسة قذف النعال البالية. وهي طيور لا تليق بمتحف في مدرسة بقرية فضلا عن جامعة. وأما الثعابين التي زعموا أنها ضاعت من متحف بافيا فلم تضع، وإنما استبدل بها أشياء أخرى من متاحف أخرى، وكانت بافيا الرابحة في هذا الاستبدال. وأما السارق الذي تبحثون عنه فهو فولتا، كبير المتهمين هذا، فانه سرق من المتحف أحجارا كريمة وأهداها أصدقاءه. . . .
وبرأه القضاة من تلك الوصمة، ولو أن تاريخ اليوم لا يستطيع أن يؤكد كل التأكيد أنه لا يستحق ولو قليلا من الملام. وعزلت الجامعة فولتا والمؤتمرين معه شر عزلة. وبعث الإمبراطور أمره إلى المتخاصمين وأشياعهم أن يقلعوا عن خصامهم ويعقدوا ألسنتهم؛ فإن الأمر كان استحال إلى فضيحة عامة شاع خبرها في أوروبا؛ وبلغ جدال الطلاب فيها حد العنف والاستهتار بالنظم فحطموا الأثاث بقاعات الدرس، وجامعات أوروبا أخذت تتسارق الضحك من هذه الجرسة التي لم يسبقها مثيل. وأراد اسبلنزاني أن يطلق آخر طلقة على أعدائه المنهزمين فسب فولتا بأنه مزمار ذو فوهة كبيرة جوفاء لا يملؤها غير الهواء، أما الأستاذان اسكاربا وإسكوبولي فأسماهما أسماء غاية في البذاءة يمنع التجمل من كتابتها. وبعد هذا عاد مطمئنا إلى صيد مكروبه
وعاوده سؤال كان يجيئه مرارا في السنوات الماضية العديدة التي قضاها في التحديق إلى حيواناته الصغيرة، وهو: كيف تتكاثر تلك الحيوانات؟ أنه كثيرا ما رأى الفردين منها متلاصقين، فكتب إلى بونيت يقول: (إنك إذا رأيت فردين من أي نوع متزاوجين، استنتجت بطبعك أنهما يتناسلان). ولكن هل هذا التزاوج الذي أراه بين هذه الحيوانات الضئيلة تناسل؟ لم يحر لسؤال نفسه جوابا، فانه على رعونته في أمور أخرى، كان شديد الأناة في العلم، حذرا في استنتاجاته حذر (لوفن هوك). لهذا اكتفى بأن سجل هذا السؤال على الورق من غير جواب، ورسم صورة هذه الأحياء أزواجا كما رآها
وكان لـ (بونيت) صديق يدعى صوصير وكان رجلا ذكيا أضاع اسمه الزمان. فلما علم بالذي كتبه اسبلنزاني إلى صديقه قام يدرس كيف تتناسل تلك الأحياء. ولم يمض غير قليل حتى نشر بحثا مذكورا إلى اليوم، يقول فيه إنك إذا رأيت اثنين من هذه الحيوانات متلاصقين فلا تظنن أنهما التصقا ليتناسلا. إذ الواقع الغريب أنهما حيوان واحد، انشق انشقاقا فصار حيوانين. وهذه هي الطريقة التي تتكاثر بها هذه الأحياء، أما الزواج فهي لا تعرف للذائذه طعما
قرأ اسبلنزاني هذا البحث فطار إلى مجهره، وهو لا يكاد يصدق ما قرأ، ولكنه نظر، وداوم النظر، فأثبت صدق صوصير. وقام الطلياني إلى دواته يهنئ السويسري تهنئة حارة على ما كشف. كان اسبلنزاني يميل للحرب والخصام، وكان يميل للكيد بعض الميل، وكان أمالا شديد الأمل، وكثيرا ما كان يغار من اشتهار غيره من الرجال، ولكن إعجابه بتلك الملاحظة الدقيقة التي أتاها صوصير، واستغراقه في جمال تلك الحقيقة التي وجد، أنساه أمله، وأنساه غيرته، فكتب يهنئه بالذي كتب فانعقدت بين اسبلنزاني وصوصير والعلماء الطبيعيين في جنيفا روابط مبهمة، ولكنها على إنبهامها متينة، هي نتيجة استشعارهم بأن الجماعة تستطيع أن تتعاون فتكشف من الحقائق الكونية ما لا يكشف عنه الأفراد متفرقين، ونتيجة اقتناعهم بأن صرح اعلم لابد لإقامته من بنائين عديدين متفقين على رسمه ورفع حجره وانسجام أوضاعه. وكره هؤلاء العلماء الحرب أول من كره، فهم أول من صدق الدعوة لائتلاف الأمم لتكون أمة واحدة هم أبر رعاياها
وقام اسبلنزاني بعدئذ ببحث من أمجد الأبحاث التي قام بها في حياته، دفعه إليه حبه لأصدقائه السويسريين وإخلاصه لهم، وكذلك كرهه لشقشقة علمية جديدة شر من تلك الأكذوبة القديمة الشهيرة (بالقوة النباتية). وحديث هذه الشقشقة أن إنجليزيا يدعى (أليس) كتب يقول: إن صوصير كان مخطئا، ويقول إن هذه الحيوانات قد تنقسم أحيانا، ولكن ليس معنى هذا أنه سبيلها في التولد والتكاثر، فإن هذا الانقسام إنما يحدث من أن حيوانا من تلك الحيوانات يسبح في الماء بسرعة كبيرة فيختبط متعامدا في بطن حيوان مثله فيشقه نصفين. وزاد (أليس) على هذا أن هذه الحيوانات تولد من أمهاتها كما يولد الناس، وقال إنه كلما حقق النظر في تلك المخلوقات، في بطون تلك الأمهات، رأى فيها بناتها لم تصب بعد ميلادا، وكلما حقق النظر في بطون البنات رأى فيها أحفادا
فصاح اسبلنزاني لنفسه يقول: (أضغاث حالم، وتخريف معتوه) ولكن كيف يثبت أنها أحلام؟ كيف يثبت أنها تخريف؟ كيف يثبت أن هذه الأحياء تتكاثر بالتناصف؟ لقد كان عالما متشبعا بروح العلم، يعرف الفرق بين السب والشتم واتهام خصيمه (أليس) بعمى البصر وخرف العقل، وبين أن ينقض بالحجة الدامغة ما يقوله من أختباط تلك الأحياء فانقسامها أشطارا
وفكر قليلا فواتته الحجة. قال لنفسه: (كل الذي علي لأثبت خطأ هذا الجاهل الفدم هو أن آتي في ماء بحي واحد من تلك الأحياء لا ثاني له فيختبط بهن ثم أجلس أرقبه في المجهر حتى ينقسم نصفين، وبذلك أقطع لسان الثرثار الغبي). وفي الحق هذه طريقة بسيطة للبت في أحد الرأيين، بل هي الطريقة الوحيدة لأبطال إحدى النظريتين، ولكن الصعوبة الكبرى في استخراج حي واحد من هذه الكثرة من الحيوانات. أنك تستطيع أن تفصل الجرو الواحد من مجموعة الجراء، وتستطيع أن تعزل السمكة الصغيرة من بين أخواتها الكثيرات، ولكن قل بربك كيف تستطيع بيدك أن تمسك بذيل حي من تلك الأحياء المجهرية، وهي أصغر مليون مرة من تلك السمكة الصغيرة
فاعتزل اسبلنزاني دنياه الزائطة بحفلاتها ومحاضراتها وجماهيرها المعجبة به، وأخذ يبحث عن طريقة يفصل بها واحدا من تلك المخلوقات، مخلوقا لا يعدو طوله بضع أجزاء من ألف من المليمتر، ويفصله وحده لا ثاني له
ذهب إلى معمله وأسقط قطرة من ماء تعتلج تلك المخلوقات فيه على قطعة منبسطة من الزجاج الرائق النظيف، وأسقط إلى جانبها بأنبوبة شعرية نظيفة قطرة أخرى من الماء النقي الخالي من تلك الخلائق. ونظر إلى القطرتين من خلال عدسته، وجاء بإبرة رفيعة فغمسها بالقطرة الأولى، ثم خرج بها في خط مستقيم حتى وصلها بالقطرة الثانية النقية، وبغاية السرعة صوب نظره إلى قناة الماء الرفيعة التي وصل بها بين القطرتين، وابتسم اغتباطا لما رأى حيا من هذه الأحياء يدخل القناة في تخطر والتواء. فما كاد يصل القطرة النقية من الماء حتى اختطف اسيلنزاني ريشة نظيفة فقطع بها البرزخ الذي يصل القطرتين. وصاح فرحان جذلا. (إنه حي واحد، واحد فحسب، في هذه القطرة! يا للنجاح، ما أحلاه! نعم مخلوق واحد لا ثاني له يتخبط به على حد قول المأفون المغفل (أليس) فيقسمه نصفين! وإذن فلأرقبه لأرى كيف ينقسم!). وصوب عدسته إلى هذا المخلوق الوحيد الصغير في هذه القطرة العظيمة، (إنه كالسمكة الفريدة تسكن وحدها الأقيانوس الواسع)
وعندئذ رأى عجبا أي عجب. فإن هذا المخلوق، وشكله كالقضيب، أخذ يدق وسطه ثم يدق، ويرهف خصره ثم يرهف، حتى لم يصل مقدمه بمؤخره غير خيط كنسيج العنكبوت، وإذا بالنصفين يضطربان ويختلجان ويتلويان حتى انفصلا، فكانا مخلوقين حيين جديدين انزلقا برشاقة في الماء انزلاق المخلوق الأول الذي عنه نشآ. نعم كانا أقصر منه، ولكن عدا هذا فلم يكن بينهما وبينه ما يميزه عنهما. واستتمت الغبطة واكتمل العجب بعد دقائق، فإن هذين المخلوقين انقسما من جديد على النحو الفائت فكانا أربعة
وأعاد اسبلنزاني هذه الألعوبة البديعة عشرات المرات، وفي كل مرة يجد الذي وجده أولا. وعندئذ سقط على (أليس) المسكين بكل ثقله سقوط طن من الحجر، ففرطحه، وسواه بالأرض حتى خفى، وخفى اسمه من الوجود، وخفيت خزعبلته الجميلة، وخفى ما كان حكاه من وجود أحفاد في بطون بنات في بطون أمهات من تلك المخلوقات. وكان اسبلنزاني لذاع اللسان، فقال له: (أنا يا بني ناصح لك أن تعود إلى المدرسة من جديد فتتعلم ألف باء المكروب) وأشار بعد ذلك إلى (أليس) فقال إنه أخطأ لأنه لم يقرأ بحث صوصير القيم الرائع باعتناء، إذ لو فعل لما قام يخترع نظريات فاسدة لا يكون من ورائها إلا القيام العلماء بتكذيبها، فينفقون الجهد الكثير في استخراج حقائق من طبيعة معروفة ببخلها وكزازة كفها
إن الباحث العلمي، الباحث الحق في الطبيعة، يشبه الكاتب والرسام والموسيقي، بعضه فنان وبعضه نقاب جامد الشعور بارد النفس. لذلك نجد اسبلنزاني يتخيل الخيالات، ويتصور أنه بطل مغوار لعهد من الكشف جديد، ويكتب فيشبه نفسه بـ (كريستوف كولمب)، وينظر إلى عالم المكروب فيخاله عالما جديدا قائما بذاته كبعض العوالم، ويخال نفسه كشافة جريئا مغامرا قام ببعوث لم تكشف من تلك المجاهل إلا حوافيها. ومع كل هذا لا نجده يذكر مرة أن هذه المكروبات قتالة. لم يرد أن يعمل في هذا خياله، ولو أن عبقريته كانت دائما توسوس له أن هذه الحيوانات العجيبة في هذه الدنيا الجديدة الغريبة لابد من علاقة بينها وبين أخواتها الحيوانات الكبيرة من بني الإنسان
وفي أوائل عام 1799، بينما نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينما بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سمفونياته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك بمدافعه المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صاحبنا الكبير صياد المكروب
- 7 -
وفي أوائل عام 1799، بينا نابليون يقوم لتحطيم الدنيا العتيقة البالية، وبينا بيتهوفن يقرع باب القرن التاسع عشر بأولى سنفوناته الهائلة - روحان كبيران ثائران يصدران عن روح العصر الثائر الذي أولده اسبلنزاني وأقرانه، وينطقان عن هذا الزمان بلسانه، ذاك من مدافع المتجاوبة، وهذا بموسيقاه الصاخبة - أقول في أوائل عام 1799 أصاب الصرع صحبنا الكبير صياد المكروب
ولم تمض على أصابته ثلاثة أيام حتى كنت ترى هذا الرجل العجيب الهازئ بالموت يخرج رأسه الذي لا يهدأ من بين أغطية سريره ينشد قصائد (هومير) ويغني بشعر (تاسو) ليضحك أصدقاءه الذين جاءوا ليشهدوا احتضاره. وما كان هذا منه رغم إنكاره إلا صياح الديك الذبيح. وما كانت تلك الأناشيد إلا للموت، وتلك الأغاني إلا للفناء، فأنه مات بعدها بأيام قلائل
مات العظماء من ملوك مصر فحفظوا أسماءهم لذراريهم بما خلفوا من مومياء فخمة حفظها رجال الجنائز بكل نادر غال من الحنوط. وذهب الإغريق والرومان ولكنهم خلدوا سحنهم، وسجلوا أشباههم في الحجر، في تماثيل يحفها المجد، ويلفها الوقار. وقضى كثير من عظماء القرون نحبهم، وبليت أجسامهم، ولكن بقي منها صور مرقومة بالزيت على القماش تكاد تجري فيها الحياة. ومات اسبلنزاني فماذا خلف للناس؟
إن أردت أن تعرف ماذا خلف فاذهب إلى (بافيا)، فستجد له بها تمثالا نصفيا متواضعا.
وإن أنت أردت أن ترى المزيد منه فسر قليلا حتى تجيء المتحف، فادخله، وإذن سترى فيه - مثانته. . .
أي إرث يتركه اسبلنزاني للدهور خير من هذا؟ أي أثر أحق من هذا بالتعبير في إيجاز عن حبه المدله للحقيقة، هذا الحب الذي لم يقف به عند شيء، هذا الحب الذي اقتحم التقاليد وضحك للصعاب وهزئ بالأذواق الموضوعة، وبمراسيم اللياقة المصنوعة
علم أن مثانته مريضة، فكنت تسمعه يقول في خفوت لأصحابه وهو يحتضر: (إذن أخرجوها من جسمي عند موتي، فلعلكم تكشفون فيها عن حقيقة جديدة غريبة في أمراض المثانات). هذا روح اسبلنزاني وهذا هو روح قرنه، القرن الثامن عشر. روح استخفاف واستهتار. روح تشوق وتشوف لكل مجهول. روح المنطق البارد القاسي في برودته، قرن لم يفض على الخلائق بكثير من الكشوفات العملية النافعة، ولكنه القرن الذي مهد لفرداي وبستور وأرانيوس وأميل فيشر وأرنست رذرفورد لينجبوا ويمجدوا ويعملوا في جو حر طليق
أحمد زكي