مجلة الرسالة/العدد 92/عصر الخفاء في مصر الإسلامية
→ اليمامتان | مجلة الرسالة - العدد 92 عصر الخفاء في مصر الإسلامية [[مؤلف:|]] |
صورة في المرآة ← |
بتاريخ: 08 - 04 - 1935 |
الحاكم بأمر الله
- 2 -
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 3 -
ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة؛ وكان مولده بالقصر الفاطمي بالقاهرة المعزية في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 375 (13 أغسطس سنة 985)، وأمه نصرانية من الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ كبير في الدولة، حتى أنه عين أخويها بطريقين للملكية، أحدهما بالإسكندرية، والآخر لبيت المقدس، مخالفا بذلك الرسوم الكنسية المقررة؛ وكان من أثر نفوذها أن سياسة التسامح الديني التي اتبعت في عهد المعز، قويت أيام العزيز، وتمتع النصارى واليهود بكثير من الحريات والنفوذ. وقد كان لهذا المنبت أثره بلا ريب في نفس الحاكم، وتكوين عقيلته الدينية كما سنرى. ولم يترك العزيز من البنين سوى الحاكم، ولكنه ترك - من زوجة النصرانية أيضا - ابنة تدعى سيدة الملك، كانت أكبر من أخيها ببضعة أعوام؛ وكانت حازمة عاقلة ذات نفوذ. ومنح العزيز ولاية عهده لابنه الحاكم مذ كان طفلا في الثامنة (شعبان سنة 383) وبويع بالخلافة يوم وفاة أبيه. وقد انتهى إلينا وصف لبعض المناظر التي أحاطت بتولية الخليفة الصبي، وهي مناظر شائقة مؤسية معا، نقلها إلينا المسبحي، وهو مؤرخ معاصر ووزير الحاكم وصديقه، نقلا عن الحاكم ذاته؛ قال: (قال لي الحاكم، وقد جرى ذكر ولده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، فاستدناني إليه وقبلني وضمني إليه، وقال: وا غمي عليك يا حبيب قلبي؛ ودمعت عيناه. ثم قال: امض يا سيدي والعب، فأنا في عافية، قال: فمضيت، والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله سبحانه وتعالى العزيز إليه. قال: فبادر إلي برجوان، وأنا في أعلى جميزة كانت في الدار، فقال: انزل ويحك، الله الله فينا وفيك؛ قال فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي وقبل لي الأرض، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: وأخرجني حينئذ إلى الناس على تلك الهيئة، فقبل جميعهم لي الأرض وسلموا علي بالخلافة)
وقع هذا المنظر في مدينة بلبيس حيث أدرك العزيز مرض موته كما قدمنا؛ وفي صباح اليوم التالي - وهو يوم الأربعاء 29 رمضان - سار الحاكم إلى عاصمة ملكه في موكب فخم تظلله أبهة الخلافة، رهيب يظلله جلال الموت؛ وأمامه جثة أبيه، وقد وضعت في عمارية برزت قدماه؛ وعلى رأسه المظلة يحملها ريدان الصقلبي، وبين يديه البنود والرايات؛ وقد ارتدى دراعة مصمت وعمامة يكللها الجوهر، وتقلد السيف، وبيده رمح. فدخل القاهرة عند مغيب الشمس في هذا الحقل الرهيب الفخم؛ وفي الحال أخذ في تجهيز أبيه؛ فتولى غسله قاضي القضاة محمد بن النعمان، ودفن عشاء إلى جانب أبيه المعز في حجرة القصر. وفي صباح اليوم التالي، أعني يوم الخميس، بكر سائر رجال الدولة إلى القصر، وقد نصب للخليفة الصبي في الإيوان الكبير، سرير من الذهب، عليه مرتبة مذهبة؛ وخرج من القصر إلى الإيوان راكبا وعلى رأسه معممة الجوهر، والناس وقوف في صحن الإيوان فقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على عرشه، وسلم عليه الجميع بالإمامة وباللقب الذي اختير له وهو: (الحاكم بأمر الله) ونودي في القاهرة والبلدان، أن الأمن موطد والنظام مستتب، فلا مؤونة ولا كلفة، ولا خوف على النفس أو المال
وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة هم برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه؛ والحسن بن عمار الكتامي زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها؛ ومحمد بن النعمان قاضي القضاة. وعهد بالوصاية الفعلية إلى الأول والثاني. وكان برجوان، ويسمى أبا الفتوح، خصيا صقلبيا، ربي في القصر، واصطفاه العزيز بالله وولاه أمير القصر، وخلع عليه لقب (الأستاذ) وهو من ألقاب الوزارة في الدولة الفاطمية، وعهد إليه بمهام الأمور، وأولاه ثقة عظيمة. وكان ابن عمار رجلا قوي الشكيمة، وافر العصبة؛ ولكن برجوان كان بظروفه وطبيعة منصبه أوثق اتصالا بالخليفة الصبي، وأشد تأثيرا فيه ومقدرة على توجيهه؛ فلم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما، وقام ابن عمار بتدبير الشئون بادئ بدء، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول لقب من نوعه في الدولة الفاطمية؛ واقتسم الكتاميون من صحبة وشيعته السلطات والمناصب، وعاثوا في شئون الدولة ومرافقها؛ وحرضه بعضهم على قتل الحاكم والتخلص منه فأبى استصغارا لشأنه أو رهبة من العواقب؛ ولكن برجوان كان ساهرا يرقبه ويتلمس الفرص لمناوأته وإسقاطه، ويدس له الدسائس، ويؤلب عليه زعماء الجند الناقمين عليه؛ فلم يمض عام حتى تفاقمت الصعاب والأحقاد من حوله؛ ووثب جماعة من الزعماء والجند بتحريض برجوان بالكتامين وأثخنوا فيهم، فتوارى ابن عمار، واضطر أن يترك الميدان حرا لمنافسه، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور، واستأثر بكل سلطة حقيقة داخل البلاط وخارجه، واختار لمعاونته كاتبا نصرانيا يدعى فهد ابن إبراهيم ولقبه بالرئيس، وفوض إليه النظر والتوقيع والمراجعة. ولزم برجوان الحاكم، يقيم معه بالقصر، ويسهر على توجيهه، ويستأثر لديه بكل صلة ونفوذ؛ واستبد بكل أمر في الدولة؛ واستقرت الأمور حينا
واستمر برجوان يتبوأ ذروة القوة والنفوذ زهاء عامين ونصف؛ وفي عهده وقعت عدة ثورات وقلاقل في الشام والمغرب، وحاول بعض الحكام والزعماء المحليين الخروج على حكومة القاهرة؛ فسير برجوان جيشا إلى الشام بقيادة جيش بن الصمصامة، فقاتل الثوار في عدة مواقع، وأخضعهم تباعا، واستعاد دمشق؛ واشتبك مع الروم (البيزنطيين) في عدة معارك في شمال الشام، وكانوا قد انتهزوا فرصة الاضطراب للإغارة على الثغور وتأييد الخوارج؛ فهزمهم وردهم إلى الشمال. وسير برجوان جيشا آخر إلى برقة حيث اضطرمت الثورة، فرد النظام إليها، واستعمل عليها يانسا الصقلبي. وكانت الدولة الفاطمية منذ نشأتها تعتمد على تأييد القبائل المغربية ذات البأس والعصبية؛ ويستأثر زعماؤها بمعظم مناصب القيادة والحكم والأدارة حتى عهد المعز لدين الله؛ ولكن ولده العزيز مال إلى اصطناع الموالي من الترك والصقالبة فقدمهم في القصر وفي الجيش، وبدأت المنافسة من ذلك الحين بينهم وبين الزعماء والمغاربة وكانت سياسة برجوان ترمي إلى تحطيم نفوذ الزعماء المغاربة، ونزعهم عن الولايات والثغور؛ وتوزيع السلطة على نفر من أصدقائه الصقلبيين يستطيع أن يعتمد على ولائهم وأن يسيرهم طبق أهوائه؛ فعين إلى جانب يانس، طائفة منهم لحكم الولايات والثغور، مثل ميسور الخادم والي طرابلس، ويمن الخادم والي غزة وعسقلان، وعين بالقصر عددا كبيرا منهم وجنح الروم بعد هزيمتهم إلى السلم، وعقدت بين بلاط القاهرة والإمبراطور بزيل الثاني قيصر قسطنطينية أواصر الصداقة والمهادنة مدى حين
ماذا كان الموقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من خلافته؟ لقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وبشئونها، ويدفع به ما استطاع إلى مجالي اللهو واللعب؛ وكانت أم الحاكم وهي نصرانية كما قدمنا، تشهد ولدها ينمو ويترعرع في ظل هذه الوصاية الخطرة عاجزة عن التدخل لحمايته أو توجيهه، لأن برجوان لم يفسح لها أي مجال للتدخل في شئون الدولة. غير أن الحاكم كان يشعر رغم حداثته بخطورة المنصب الذي يتبوأه؛ ولم يلبث أن استرعى سير الأمور اهتمامه، ولم يلبث أن فطن إلى موقف برجوان، واستئثاره بالسلطة واستبداده بالشئون. ولما بلغ برجوان ذروة السلطان والنفوذ، كان الحاكم قد أشرف على الخامسة، وأضحى الطفل فتى يافعا شديد اليقظة والطموح. وكان برجوان يذهب في طغيانه وعسفه إلى حدود بعيدة، ويثير حوله ضراما من البغضاء والحقد، ويحفز بذلك خصومه داخل البلاط وخارجه إلى العمل على تقويض سلطانه ومكانته. واعتقد برجوان أن الجو قد خلا له، فانكب على ملاهيه وملاذه، يقضي معظم أوقاته في مجالس الأنس والغناء والطرب، ولم يفطن برجوان من جهة أخرى إلى ما وقع في نفس الأمير الفتى ومشاعره من التبدل والتطور، فاستمر يعامله معاملة الطفل المحجور عليه؛ وذهب في استهتاره إلى مدى شعر الحاكم أنه لا يتفق مع مقامه ومكانته، وربما يذهب برجوان إلى حد الإساءة إلى الحاكم ونقض أوامره، بل إلى حد إهانته والتنكر له، ويقص علينا المقريزي منظرا من هذه المناظر التي اجترأ فيها برجوان على إهانة سيده خلاصته: (أن الحاكم استدعاه ذات يوم وهو راكب معه، فسار إليه وقد ثنى رجله على عنق فرسه، وصار باطن قدمه وفيه الخف قبالة وجه الحاكم)، ونحو ذلك من المناظر والإهانات المثيرة
أحفظت نفس الحاكم لهذا الضغط وهذا الاجتراء، فأضمر التخلص من ذلك الوصي الطاغية، وربما تأثر في هذا العزم بتحريض بعض خصوم برجوان ولا سيما ريدان الصقلبي حامل المظلة وخصمه القوي داخل البلاط؛ ولكن لا ريب أن الحاكم كان قد بدأ يومئذ يثور لسلطته المسلوبة، وأخذت تتفتح في نفسه الوثابة تلك الأهواء العنيفة المضطرمة التي بلغت ذروتها فيما بعد. وعلى أي حال فقد حكم على برجوان بالموت؛ وفي ذات مساء بعث إليه الحاكم للركوب معه، وانتظره في إحدى حدائق القصر ومعه ريدان حامل المظلة، فوافاه برجوان هنالك؛ وبعد أن سلم سار الحاكم حتى خرج من باب الحديقة، فوثب ريدان عندئذ على برجوان فطعنه في عنقه بسكين، وانقضت عليه جماعة كانت قد أعدت للفتك به، فأثخنوه طعنا بالخنجر، واحترزوا رأسه، ودفنوه حيث قتل (ربيع الثاني سنة 360 - 1000م) ولما عاد الحاكم إلى القصر كان خبر مقتل برجوان قد ذاع على لسان خادمة عقيق، فاضطربت البطانة، وأشرف الحاكم عليهم ليرى الخبر؛ وصاح فيهم ريدان: (من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور) فانصرف الناس منزعجين، وفي نفس المساء اتخذ الحاكم عدته لتوطيد الأمور، واستدعى الرئيس فهدا، وهدأ روعه وأقره في منصبه؛ وصودرت أموال برجوان وكانت عظيمة طائلة، واختفى أصدقاؤه من الميدان
وهكذا ظفر الحاكم لنحو أربعة أعوام فقط من ولايته بأن يطوي مرحلة الحداثة، وأن يستخلص السلطة لنفسه، وأن يبدأ عهد الحكم الحقيقي. وكان الحاكم يومئذ في نحو الخامسة عشرة من عمره، مضطرم النفس والأهواء، ولكن وافر الذكاء والجرأة والعزم. فبدأ بتعيين مدبر للدولة مكان برجوان، ووقع اختياره على الحسين بن جوهر الصقلي. وكان العزيز قد ولاه القيادة بعد وفاة أبيه جوهر، واصطفاه وأولاه ثقته وعطفه، فلما توفي العزيز قلد الحسين ديوان البريد والإنشاء؛ ولما قتل برجوان لم يكن بين رجال الدولة من هو أرفع منه مقاما وأجدر بتولي الشئون العامة؛ فاستدعاه الحاكم وخلع عليه، وقلده النظر في أمور الدولة والتوقيعات، ولقبه في سجل التعيين (بقائد القواد) وعكف الحسين على تدبير الشئون بمعاونة خليفته الرئيس فهد، وأمر أن تبلغ إليه المهام والظلامات في مكانه بالقصر وألا يقصد أحد داره، وألا يخاطب بغير لقبه الرسمي (القائد) دون تعظيم أو تفخيم، وألا يمنع أحد من مقابلة الحاكم أو الاتصال به؛ وغدا الحسين بن جوهر وصهره عبد العزيز بن محمد بن النعمان، الذي خلف أباه في منصب القضاء، أعظم رجلين في الدولة؛ واستمر الحسين يدبر الأمور مدى أعوام حتى تغير عليه الحاكم كما سيأتي
وتناول الحاكم إدارة الدولة العليا بيديه؛ ونظم له مجلسا ليليا يحضره أكابر الخاصة ورجال الدولة، وتبحث فيه الشئون العامة؛ وكانت هذه أول ظاهرة لهيام الحاكم بالليل والتجوال في ظلماته. بيد أنه أبطل مجلسه الليلي بعد حين. وتوفي جيش ابن الصمصامة وإلي الشأم، فعين الحاكم مكانه فحل بن تميم، ولما توفي لأشهر من ولايته عين مكانه علي ابن فلاح؛ وكان اتجاه الحاكم يومئذ نحو إقصاء الأتراك والصقالبة وتمكين المغاربة، كما كان الشأن أيام جده المعز، ولعله كان يقصد في ذلك أيضا إلى هدم سياسة برجوان في اصطفاه الصقالبة. ووفد عليه ولد جيش بن الصمصامة يحمل وصية أبيه التي يوصي فيها بجميع أمواله للحاكم، ويحمل إليه الأموال الموصى بها، وكانت تبلغ نحو مائتي ألف دينار بين نقد متاع، فقرأ الحاكم الوصية ورد المال إلى أهله؛ ودلل بذلك على صفة من أخص صفاته، هي العفة عن مال الرعية، والزهد في المال بصفة عامة؛ وسنرى أنه يدلل على هذه الخلة في مواطن كثيرة
للبحث بقية
النقل ممنوع
محمد عبد الله عنان
المحامي