الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 92/الدرر الكامنة

مجلة الرسالة/العدد 92/الدرر الكامنة

بتاريخ: 08 - 04 - 1935


للأستاذ محمد كرد علي

عضو مجمع اللغة العربية الملكي

طبعت عدة كتب في الطبقات والتراجم لأهل القرون الماضية في الإسلام، وإلى الآن لم تطبع تراجم أهل القرن الثامن والتاسع عشر، مع أن تراجمهم عني بها في القرن الثامن ابن حجر العسقلاني المصري المتوفى سنة 852، ووضع تراجم أهل القرن التاسع السخاوي المصري المتوفى سنة 902، وتراجم أهل القرن العاشر قام بتدوينها الغزي الدمشقي المتوفى سنة 1061 وسمى الأول كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، والثاني (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)، والثالث (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة)

ومن لطف المولى أن هذه الكتب الثلاثة بقيت في الأرض وظفر بعدة نسخ منها في خزائن الشرق والغرب، لا كأكثر تركة أسلافنا بعثرت وأحرقت وأغرقت وأصابها كل خطب عظيم

ترجم صاحب الدرر الكامنة لألف وثلثمائة وثلاثة وأربعين رجلا وامرأة، تراجم اعتمد في وضعها على من سبقوه في هذا الشأن من رجال التاريخ، أو كانوا ممن عاصرهم وسمع عنهم وأخذ منهم الحديث، أو أخذ مشايخه عنهم. ويغلب على ابن حجر الحديث والعناية برجاله ونسائه، ولذلك ذكر عشرات من المحدثات ممن كن يروين الأحاديث النبوية ويروينها. وترجم لبعض المشهورين تراجم لا بأس بها. ترجم لابن تيمية، ولسان الدين بن الخطيب، والصلاح الصفدي، وابن فضل الله العمري، وابن كثير، والبرزالي، والذهبي، وشيخ الربوة، وأبي الفداء، وابن المطهر الشيعي، وغازان، وابن دقيق العيد، والبدر البلقيني، وابن الوكيل، وابن سيد الناس، وابن نباتة، وابن الحاج، وابن المكرم، والشمس القونوي، وابن الوردي، وابن جماعة، والتاج السبكي، والتقي السبكي، والأردبيلي، وابن الأكفاني، والخطيب القزويني، وابن الزملكاني، وأبي حيان الأندلسي، والقطب الشيرازي، والبازري، والمزي، وغيرهم

وإلى جانب هؤلاء تجد تراجم أناس من الخاملين كبعض المجاذيب والموظفين والطلبة، كأن لسان حال ابن حجر يقول: يجب ألا يحتقر أحد، وأن يدون كل شيء. ولكن هذه الطبقة شغلت فراغا من الكتاب على غير جدوى ومثلهم كثير في كل عصر ومصر، لو تطلعت نفوسنا إلى التعرض لذكرهم لملأنا منها قماطر ودفاتر، والمقصود تدوين سير العظماء ممن كان لهم أثر محمود في علم وعمل. وفي نظرنا أن من أهم من دون المؤلف حياتهم بعد علماء الدين ورجال الأدب أناسا من أرباب الغناء والموسيقى والهندسة والطب، وبهم في الجملة عرفنا روح ذاك القرن، قرن المماليك في مصر والشأم، بل مبدأ قرون الانحطاط ومنتهى قرون الارتقاء في الإسلام

يقع القارئ في هذا السفر على الروح الذي سرى في ذاك العصر إلى النفوس فلوثها بلوثات التعصب الذميم. وقد ذكرها المؤلف على الأكثر غير متعرض لجرح أو تعديل فيها. بيد أن القارئ لعهدنا، قد وضع المؤلف أمامه هذه الوثيقة أو الوثائق التاريخية الكافية، تهيئ له أسباب الحكم على ذاك المجتمع الذي فاض بالجور السياسي والجور الفكري. فالجور السياسي غزوات الططر (التتر) من الشرق على الديار الشامية، أي الجزء المتمم للملكة المصرية إذ ذاك، وغزوة بعض شعوب الإفرنج بعض السواحل المصرية حتى افترضها أحد الجورة من المماليك فرصة ليصادر النصارى في مصر ويستصفي ما في بعض كنائسهم من الجواهر والمعادن الكريمة أو يخربها حبا في التخريب وإبلاغا في النكاية على زعمه. هذا هو الجور السياسي. أما الجور الفكري فتحامل الموسومين بالدين على من بيت منهم بعض نزعات قيل إنها مخالفة للشريعة فكان جزاؤهم القتل. وما نظن أكثر تلك التهم مما يصح أن يتهم به صاحبه من أنه جنى بما قال على الدين إذا تدبرنا ما لاقاه شيخ الإسلام ابن تيمية من متعصبة العلماء في عصره في مصر والشام، وهو النابغة الذي عقمت القرون عن أن تلد أمثاله بعلمه وعقله وإخلاصه على ما دون ذلك ابن حجر في هذا الكتاب. فكانت ترجمته له أحسن ترجمة فيه لأول عالم نابغ في أول القرن

ثم إن من نظر في كتب المتأخرين وكتب المتقدمين يجد فروقا كثيرة بين الأولى والثانية: فروقا في الأسلوب وفي المكتوب؛ وهل التاريخ إلا مرآة العصر الذي يكتب فيه، وروح صاحبه الذي يمليه؟ وما كان لأبن حجر أن يكتب في التراجم ويجود إجادة ابن خلكان في وفيات الأعيان مثلا، ولا للسيوطي في مؤلفاته التاريخية أن يجود تجويد الكندي صاحب كتاب ولاة مصر وقضاتها؛ وهكذا قل في الزمن الذي بدأت فيه الشروح والحواشي في الكتب الدينية، وصار من يسلخ من كلام غيره أو يمسخه وينسخه يعد مؤلفا فيزيد عدد الأسفار المحفوظة في الخزائن على غير فائدة جليلة

تمنيت في سنة 1328هـ (1910م) في مجلة المقتبس، وقد درست هذا الكتاب في نسخة خطتها أنامل إبراهيم البقاعي أحد أعلام عصره - الذي قال في نسخته: وكان فراغي من هذه في 17 شوال سنة 859 بمنزلي بحارة بهاء الدين في القاهرة - تمنيت لو يقدم رجل منا فيطبع هذا الكتاب، وقلت يومئذ لو لم يكن في هذا الكتاب سوى ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، لكان كافيا في طبعه؛ ولكن قومي شغلتهم الشواغل، وأصيبوا بالإهمال، فتهيأ لطبعه صديقي العلامة كرينكو أحد علماء المشرقيات من الألمان، فطبعه في أربعة مجلدات في أكثر من ألفي صفحة معارضا له على نسخ مهمة، وذلك على يد مجلس يد دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن من ممالك الهند. وقد اعتادت هذه الدار أن تطبع من كتب العرب كل مفيد، فأحيت كتبا في الحديث والفقه والأصول واللغة والأدب والتاريخ والفنون، ونشرت حتى الآن نحو ثمانين كتابا منها ما دخل في بضعة مجلدات ضخمة، ومما طبعت لأبن حجر مؤلفنا الذي نحن بصدد الكلام على كتابه (لسان الميزان) و (تهذيب التهذيب) و (تعجيل المنفعة في رجال الأئمة الأربعة) الخ

هذا ولا يسعنا إلا أن ننوه بالناشر الغيور على العلم، وقد رأيناه جود معارضة النسخ وإثبات الصحيح من النصوص على عادة علماء المشرقيات في تدقيقهم إذا أرادوا طبع كتب العرب؛ وكم لهم من أياد بيضاء علينا لا ينكرها إلا منكر الجميل وغامط العارفة. وحبذا لو شفع الناشر هذا الكتاب الجليل بالفهارس المنوعة التي تسهل على العلماء الأخذ منه، فإن كتابا بلا فهرس تقل فائدته إذا كان من كتب المراجع؛ وعلمت أن الناشر وضع الفهارس والطابع تأخر في طبعها، وما أدري ما اعتذاره

وقد نشر السيد سالم الكرينكوي - كما دعا نفسه - كتاب التيجان لوهب بن منبه، وأخبار اليمن لعبيد بن شزية، وحماسة ابن الشجري، أتكلم عليهما في فرصة أخرى وأكتفي هنا بشكره، وأن أوجه نظره إلى كتاب آخر لأبن حجر لا يقل عن الدرر الكامنة في الفائدة، وهو (إنباء الغمر في أبناء العمر) وفي الخزانة الظاهرية بدمشق مسودة هذا المخطوط بخط مؤلفه، وهو تعليق كما قال فيه جميع حوادث الزمان منذ مولده سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وهلم جرا مفصلا في كل سنة أحوال الدول ووفيات الأعيان، مستوعبا لرواة الحديث خصوصا من لقيه أو أجاز له. وقد امتد هذا الكتاب إلى سنة خمسين وثمنمائة، وجاء من ذيل عليه، كما جاء من اختصر له الدرر مثل ابن المبرد وجلال الدين السيوطي الذي عرف بالولوع باختصار الكتب

القاهرة

محمد كرد علي