الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 919/ثورة في الجحيم

مجلة الرسالة/العدد 919/ثورة في الجحيم

بتاريخ: 12 - 02 - 1951


للأستاذ حمدي الحسيني

جميل صدقي الزهاوي رحمه الله شاعر عربي كبير نشأ في بغداد وأشتغل فيها بالصحافة والتعليم. وقد أصابه وهو في الخامسة والعشرين من سني حياته مرض عضال في نخاعه الشوكي لازمه طول حياته. وقد زار الآستانة في عهد عبد الحميد الثاني فضاق صدر السلطان به، فتأثره الجواسيس وضيقوا عليه، فنظم قصيدة ذم بها عبد الحميد وسلوكه، ودفعته الجرأة أن ينشدها أبا الهدى الصيادي، فكتب بها أبو الهدى تقريراً دفعه إلى السلطان فكان ذلك سبباً في سجن الزهاوي

أيأمر ظل الله في أرضه بما ... نهى الله عنه والرسول المبجل

فيفقر ذا مال وينفي مبرءاً ... ويسجن مظلماً ويسبي ويقتل

تمهل قليلاً لا تغض إنه إذا ... تحرك فينا الغيظ لا نتمهل

وأيديك إن طالت فلا تغترر بها ... فإن يد الأيام منهن أطول

وقد عين الزهاوي بعد الانقلاب العثماني أستاذاً للفلسفة الإسلامية في (مكتب الملكية) في الآستانة وعين في الوقت نفسه مدرساً للأدب العربي في جامعة دار الفنون، وأنتخب نائباً عن متصرفيه (المنتفك) من أعمال العراق، في مجلس النواب العثماني، ثم عاد لبغداد بعد انقشاع الحكم العثماني عن العراق، فعين عضواً في مجلس المعارف ثم رئيساً للجنة ترجمة القوانين العثمانية. وللزهاوي مقالات في مواضيع شتى نشرتها له المجلات العربية المعتبرة، وله من الكتب العلمية والأدبية الشيء الكثير. وأما دواوينه الشعرية فخمس دواوين آخرها ديوان الأوشال، وهو يجمع بين دفتيه كل ما نظم الزهاوي في سن النضوج.

يبدو لنا من شعر الزهاوي أنه كان حريصاً على أمرين، أن يشتهر بالفلسفة وأن يدعي نصير المرأة. ولا نستطيع هنا أن نمر بهذه الظاهرة النفسية دون أن نعللها تعليلاً نفسياً. فالزهاوي رحمه الله كان مطوي النفس على شعور بالنقص، وهذا الشعور قد كونته في نفسه عوامل شتى يرجع أكثرها وأقواها إلى طفولته ونشأته الأولى. وقد يكون المرض العضال الذي أصابه في نخاعه الشوكي سبباً قوياً من أسباب ذلك الشعور. ومن طبيعة هذ الشعور أن يدفع صاحبه إلى الكفاح في سبيل الرفعة بطرق شاذة، والرفعة في ما وصل إلى يدنا من شعور الزهاوي أصبحنا نعتقد بأن قصيدته الطويلة المسلسلة المسماة بثورة في الجحيم هي الصورة الصادقة لنفسيته، والمعرض لواضح لآرائه وأفكاره، والموضع الأمين لقوته ونزوعه. أما فلسفته في هذه القصيدة وتردده بين الإلحاد والاعتقاد وحريته بين الشك واليقين فلا نحب أن نتعرض له الآن لأن التعرض له ليس من غرضنا في هذه الكلمة. ولنصغ الآن إلى ملكي القبر منكر ونكير وهما يسألان الميت في قبره عن السفور والحجاب، هذا الأمر الذي شغل الزهاوى زمناً طويلاً واحتمل في سبيله أذى كثيراً:

قال هل في السفور نفع يرجى ... قلت خير من الحجاب السفور

إن في الاحتجاب شلا لشعب ... وخفاء وفي السفور ظهور

ليس يأتي شعب جلائل ما لم ... تتقدم إناثه والذكور

إن في رونق النهار لناساً ... لم يزل عن عيونها الدبجور

بعد أن أتم الملكان استجوابهما للميت عذباه عذاب القبر وأخذاه إلى الجنة ليجعلا من رؤيته لها عذاباً له فوق عذابه. ثم أخذاه إلى الجحيم فقذفا به في صميمه فالتقى هناك بالأشقياء المعذبين أمثاله؛ هناك قد جمع الألم المشترك بين القلوب المتباعدة، وكون العذاب بين المعذبين وحدة دفعتهم لأن يفكروا بالخلاص من عذاب الجحيم فعقدوا اجتماعاً تبارى فيه الخطباء في حض الجمهور المعذب على أنقاض نفسه من بلاء الجحيم، فقام شاب من شباب الجحيم وألقى خطبة تحريضية حرض فيها الملايين المعذبة في ذلك الجحيم على الكفاح ضد الظلم والاستبداد

قال يا قوم إننا قد ظلمنا ... شر ظلم فما لنا لا نثور

اجسروا أيها الرفاق فما نا ... ل بعيد الآمال إلا الجسور

إنما فاز في الجهاد من النا ... س بآماله الكبار الكبير

قاوموا القوة التي غش ... مت والدهر ما دام للقوى ظهير

فتحمس سكان الجحيم حتى دفعت الحماسة أكثرهم رصانة كابي العلاء المعري فوقف هو الآخر يحرض الجمهور تحريضاً عنيفاً فقال:

غصبوا حقكم فيا قوم ثوروا ... إن غصب الحقوق ظلم كبير فرد عليه الجمهور الحانق الغاضب:

غصبوا حقنا ولم ينصفونا ... إنما نحن للحقوق نثور

وهنا قام سكان الجحيم قومة رجل واحد واندفعوا نحو الزبانية، ووقعت المعركة الحاسمة، فأحتل سكان الجحيم الجنة وقاموا فيها منعمين مرفهين.

حمدي الحسيني