مجلة الرسالة/العدد 918/ذكرى الشاعر الثائر
→ ضبط الكتابة العربية | مجلة الرسالة - العدد 918 ذكرى الشاعر الثائر [[مؤلف:|]] |
صوت ينبعث من الأزهر ← |
بتاريخ: 05 - 02 - 1951 |
معروف الرصافي
للأستاذ حمدي الحسيني
نظم الرصافي ذلك الشعر القوي ضد الظلم والاستبداد في العهد العثماني وسيف الطاغية الجبار عبد الحميد الثاني مصلت على رقاب الناس في طول البلاد وعرضها، وهو كما رأى القراء يتلظى قوة وحرارة، ويتوهج شدة وعنفاً وصرامة، ويتموج اتساعاً وعمقاً وضخامة، ولم يبق الرصافي هذا النوع في الشعر محفوظاً في صدره أو مطوياً في بطن دفتره بل نشره على الناس سراً وعلناً، بلسانه وقلمه. فكان عمله ذاك جرأة عبقري وشجاعة بطل. أما تأثير هذا الشعر في نفوس العرب في ذلك الزمن فقد كان عظيماً جداً. ولا نشك بأنه كان قبة قوية الحرارة والنور، أشعلت في نفس الأمة العربية رغبة الحرية وأنارت أمامها سبيل الحياة. فمشت بقوة تلك الحرارة وبهدى ذلك النور خطوات موفقة نحو الحرية والحياة. وأما بعد إعلان الدستور فقد رفع الرصافي علم الحرية أمام أمته جهاراً نهاراً، وأخذ يقودها إلى الحياة في ظل ذلك العلم على نغمات شعره الشجية المطربة تارة، وبقوارع كلمه وصوادع حكمه تارة أخرى. حتى أصبح شعر الرصافي بسمات جميلة على ثغور العرب. وآيات جليلة على ألسنتهم وآمالاً لذيذة في قلوبهم وهزات عنيفة في نفوسهم، وعزمات صادقة في هممهم وصوارم باترة في أيديهم. فقاوموا الظلم ودفعوا الأذى وشادوا الممالك. فكان شعر الرصافي أناشيد الثائرين، وأهازيج الفاتحين وأغاني المنتصرين الظافرين. وما كادت تستقر المماليك العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتتوطد فيها العروش وتشاد دور العلم وتفتح نوادي الأدب حتى أصبح شعر الرصافي نوراً قوياً يغمر تلك المماليك، ومصابيح منيرة تسطع في دور العلم، وينابيع غزيرة تنصب في نوادي الأدب.
وما دمنا نتحدث عن شعر الرصافي القوي، وتأثيره الواسع المدى في نفسية الأمة العربية، فمن الحق علينا أن نبحث عن سر هذه القوة العجيبة التي جعلت لشعر الرصافي هذا التأثير العجيب.
درسنا شعر الرصافي دراسة نفسية واسعة، وأضفنا ما استنتجناه من هذه الدراسة إلى م استنتجناه من دراستنا لنفسيته خلال المدة التي قضاها بيننا مدرساً للغة العربية في كلية دار المعلمين في القدس، فكانت نتيجة الدراستين الجزم بأن سر قوة الرصافي في شعره وفي شخصيته هو الإيمان.
آمن الرصافي بحق الأمة العربية في الحياة الحرة، وآمن بأن الوسيلة إلى هذا الحق هو القوة. فانفجرت نفسه بهذه القوة شعراً قوياً يولد به القوة في نفس الأمة العربية لتأخذ بها حقها في الحياة الحرة. انفجرت نفس الرصافي بشعر القوة على اختلاف أنواع القوة. فالعلم قوة تتخذ منه الأمم التي تطلب الحياة وسيلة للحياة. وما دام العلم قوة فله من شعر الرصافي نصيب وافر. فهذه قصائده الكونيات والاجتماعيات تقوم على أحدث نظريات العلم وأصح قواعد الاجتماع. ترى فيها شروحاً لوحدة المادة، والجاذبية، والأثير، والكهرباء، وأشعة رنتجن وآراء دارون في النشوء والارتقاء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب، ومذهب ديكارت في التوصل إلى اليقين بالشك، ومبادئ الاشتراكية في أن تكون للعامل حصة في إنتاجه
تركوا السعي والتكسب في الدنيا ... وعاشوا على الرعية عالة
يأكلون اللباب في كد قوم ... أعوزتهم سخينة من نخالة
يتجلى النعيم فيهم فتبكي ... أعين السعي في نعيم البطالة
ليس في هذا المذهب الاشتراكية إلا في الأمور المحالة وإصلاح الوسط العربي من الناحية الاجتماعية، أليس فيه قوة للأمة توصلها إلى الغاية المرجوة في الحياة؟ إذن فللإصلاح الاجتماعي على اختلاف أنواعه في الوسط العربي حظ كبير في شعر الرصافي. فهذه قصيدته (المطلقة) يصف بها ويلات الطلاق ومآسيه على المرأة المسلمة، وينتقد بقوة توقيع الطلاق لا سيما إذا كان وقوعه بغير قصد الطلاق. وهذه قصيدته (اليتيم في العيد) تفيض رحمة وحناناً على الضعفاء. وقوة وشدة على من يقف من العرب موقف العجز والذل ويصيح فيهم: -
نهوضاً إلى العز الصراح بعزمة ... تخر لمرساها الطغاة وتركع
إلا فاكتبوا صك النهوض إلى العلا ... فإني على موتي به لموقع
والنساء؟ ألسن نصف الأمة؟ فكيف يمكن للأمة العربية أن تصل إلى هدفها ونصفها مشلول؟ إذن فلتحرير المرأة العربية في شعر الرصافي مطارق قوية هائلة يهوي بها على قيود الحجاب والزواج والجهل والحرمان من العمل
كم في بيوت القوم من حرة ... تبكي من البؤس بعيني أمه
قد لوحت نار الطوى وجهها ... وأعمل الفقر بها ميسمه
عاب عليها قومها ضلة ... أن تكسب القوت وأن تطعمه
من أي وجه تبتغي رزقها ... وطرقها بالجهل مستبهمه
وكيف والقوم رأوا سعيها ... في طلب الرزق من الملأمه
وأما قصيدته الخالدة في التربية والأمهات التي مطلعها: -
هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات
فتعتبر من أقوى أنواع الشعر الاجتماعي وأعمله أثراً في نفس الأمة، وهي لا تزال تشع بنورها القوي في نفوس الفتيات العربيات فيستضئن بنورها ويهتدين بهديها. ولا نظن فتاة عربية واحدة دخلت المدرسة ولم تحفظ هذه القصيدة وتنتفع بها
وحرية الفكر، أليست غاية من غايات الأمم التي تبذل في سبيل الحصول عليها دماءها؟ إذن فالرصافي يدعو لهذه الحرية، لأنه لا يطيق أن يراها مقيدة في الوطن العربي، بحيث لا يستطيع المفكر أن يجهر برأيه خيفة الأذى: -
إذا كان في الأوطان للناس غاية ... فحرية الأفكار غايتها الكبرى
فأوطانكم لن تستقل سياسة ... إذا أنتمو لم تستقلوا بها فكراً
إذا السيف لم يعضده رأى محرر ... فلا تأملن من حده ضربة بكراً
وهؤلاء المفاقيع الذين يفاخرون بالعظم الرميم، أليسو شراً على الأمة؟ وهلا يستحقون أن يصفعهم الرصافي على وجوههم ليردهم عن هذه الاتكالية البشعة إلى الثقة بالنفس والاعتماد على الذات
فشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديم ... أقام لنفسه حسباً جديدا
تراه إذا ادعى في الناس فخراً ... تقيم له مكارمه الشهودا
وهؤلاء الرعاديد الذين يتقاعسون عن ميادين الجهاد بحجة أنهم يرون للأمة أن تعنى بالعلم قبل الحرية وبالمال قبل الاستقلال، أليس من حق الرصافي أن يعلمهم الحكمة ويعطيهم فصل الخطاب
قد علمتني الليالي في تقلبها ... أن المواقف فيها السيف لا القلم
وأن أصدق برق أنت شائمه ... برق تبسم عنه الصارم الخذم
وأخصب الأرض أرض لا تسح بها ... إلا من النقع في يوم الوغى ديم
إني أرى المجد في الأيام قاطبة ... إلى عبيط دم المحيا به قرم
والمجد أعطى الظبا ميثاق معترف ... أن ليس بضحك إلا حين تبتسم
وأما مكانة الرصافي في الأدب العربي ففي الذروة العليا والمقام الأسمى؛ فهو من ألمع الجواهر في تاج أدب العصر، ومن أثمن الدرر التي تزين جبين الشعر، وهو فوق هذا من أقوى شعراء القومية العربية. ومن أسبق شعراء العرب في الدعوة إلى الثورة على الحكم العثماني كوسيلة للحرية والاستقلال. وأما آثاره في الشعر فديوانان طبع الأول في بيروت مصدراً بمقدمة طيبة للمرحوم الشيخ محي الدين الخياط. ثم صدر الديوان الثاني وفيه كل ما نظمه الرصافي بعد صدور الديوان الأول، ثم صدره الأستاذ العلامة الشيخ عبد القادر المغربي بمقدمة تحليلية نفسية. وله في الكتب
(1) رواية الرؤيا وهي مترجمة عن التركية لنامق كمال الشاعر التركي الشهير.
(2) نفح الطيب في الخطابة والخطيب. وهو مجموعة محاضراته التي ألقاها على طلبة مدرسة الواعظين في الأستانة.
(3) الأناشيد المدرسية، وهي طائفة من الأناشيد الوطنية والأدبية يتغنى بها تلاميذ المدارس.
(4) محاضرات الأدب العربي وهي مجموعة المحاضرات التي ألقاها في الأدب العربي على معلمي المدارس في بغداد.
(5) كتاب الآلة والأداة. وقد ذكر فيها أسماء الآلات والأدوات التي يستعملها الإنسان.
(6) دفع المراق في لغة العامة من أهل العراق. ضمنه بحثاً مستفيضاً عن اللغة العامية في العراق وقواعدها وآدابها وأمثالها.
هذه خطوط سريعة عليها هذه الصورة للرصافي. ونرى أن نقدم بجانبها الصورة الجميلة الأنيقة التي رسمها الرصافي لنفسه بقوله: - وقلت لها إني امرؤ لي لبانة ... منوط مداها بالنجوم الزواهر
تعودت أن لا أستنيم إلى المنى ... وأن لا أرى إلا بهيئة ثائر
وأن أمضي لههم الذي هو مقلقي ... بطي الفيافي أو بخوض الدياجر
حمدي الحسيني