الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 916/الفارابي في الشرق والغرب

مجلة الرسالة/العدد 916/الفارابي في الشرق والغرب

مجلة الرسالة - العدد 916
الفارابي في الشرق والغرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 01 - 1951


ومكانته في الفلسفة الإسلامية

بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

للأستاذ ضياء الدخيلي

بقيت هذه التهمة الشنعاء التي ألصقت بابن سيناء؛ فإن الناقدين يرتابون في صحتها وينزهون ابن سينا عنها. والظاهرة أنها من نسيج خصومه وحساده، وقد علق على الخير ناقله وأظنه صاحب أبجد العلوم - بأنه بهتان وإفك لأن الشيخ مر لأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح به في نعض رسائله، وأيضا يفهم في كثير من مواضع الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني. وعلق الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بأن في هذا الخير خطأ تاريخيا؛ فإن منصور ابن نوح الساماني إنما ولى أمر خرسان بعد سنة 343 هـ بعد موت الفارابي درس في بغداد وعاش في سورية وزار مصر ولم يعرف أنه أقام في أصفهان وشرق المملكة الإسلامية بعد نبوغه وتألق نجمه في الفلسفة وإن قال العقاد في رسالته عن الفارابي (على أنه يبدو من كتاب الموسيقى أن فيلسوفنا جاس أيضاً خلال خراسان قبل أن يهبط العراق) فإن الظاهر أن ذلك قبل بزوغ شمس الفلسفة. أما ما رواه البيهقي ونقله عنه الشهرزوري من أن الفارابي ذهب إلى الري استقدمه إليها كافي الكفاة الصاحب بن عباد وبعث إليه هدايا وصلات واستحضره واشتاق إلى ارتباطه وأبو نصر يتعفف وينقبض ولا يقبل منه شيئاً حتى ضرب الدهر ضرباته ووصل أبو نصر إلى الري وعليه قباء وسخ وقلنسوة بلقاء ودخل مجلس الصاحب متنكراً وكان المجلس غاصاً بالندامى والظرفاء وأرباب اللهو فأضافوا الجرم إلى البواب ورموا إليه أسهم العتاب واستهزأ بأبي نصر كل من كان في ذلك المجلس وهو يحتمي أذى الأيدي وبغضى على قذى الأذى والاستهزاء حتى اطمأنت أنفسهم لمجالسته وأنساهم الشراب ذكره ودارت الكؤوس ومالت الرؤوس وطربت النفوس وحمل أبو نصر مزهراً واستخرج لحناً مع وزن نوم المستمعين وصار كل واحد كالذي يغشى عليه من الموت وكتب على البربط زاركم أبو نصر الفارابي واستهزأتم به فنومكم، ثم خرج من الري متنكراً مع رفقة متوجهاً إلى بغداد) فهذه الأقصوصة إن صحت فإنها تدل على أنه لم يمكث في تلك الجهات مكث تأليف وكتابه، وقد علق العقاد في رسالته عن الفارابي - على القصة بأن ابن خلكان يروي قصة قريبة من هذه على أنها حدثت بين الفارابي وسيف الدولة، ثم قال ولا شبهة لدينا في أن قصة البيهقي أسطورة تمثل خيال الكاتب وفنه دون أن تمت إلى الحقيقة بنسب، ودليلنا على هذا أن الصاحب إسماعيل بن عباد ولد سنة 306هـ فهو عند موت الفارابي في سنة 339هـ كان صبياً صغيراً ولم يكن له بعد مجلس يضم الندامى والظرفاء.

وجاء الأستاذ (أبو ريده) من جامعة فؤاد الأول بمصر معلنا ارتيابه وشكه في صحة هذه الطعنة النجلاء الموجهة من خصوم ابن سينا إلى مقامه الجليل - فقال ولا شك أن ما يقوله حاجي خليفة كلام ينبغي أن نتلقاه بالتردد والحذر

وقد نقل القصة السابقة أيضاً المولى أحمد بن مصطفى المعروف بطاش كبرى زاده المتوفى سنة 962هـ على الصورة التالية إذ قال (ج1 ص241) في مفتاح السعادة -: إن أرسطو يعد ما دون المنطق صارت كتبه مخزونة في أثنه (أثينا) من ولاية موره (شبه جزيرة الموره من بلاد اليونان) من بلاد الروم عند ملك من ملوك اليونان، ولما رغب الخليفة في علوم الأوائل أرسل المأمون إلى الملك المذكور وطلب الكتب فلم يرسلها فغضب المأمون وجمع العساكر وبلغ الخبر الملك فجمع البطاريق والرهابين وشاورهم في الأمر فقالوا إن أردت الكسر في دين المسلمين زلزلة عقائدهم فلا تمنعهم عن الكتب. فاستحسن الملك ذلك وأرسلها إلى المأمون فجمع المأمون مترجمي مملكته كحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة وغيرهما وترجموها بتراجم متخالفة لا توافق ترجمة أحدهم ترجمة الآخر فبقيت التراجم غير محررة إلى أن التمس منصور بن نوح الساماني من أبي نصر الفارابي أن يحررها ويلخصها ففعل كما أراد ولهذا لقب بالمعلم الثاني وكانت كتبه في خزانة الكتب المبنية بأصبهان المسماة بصوان الحكمة إلى زمان السلطان مسعود، لكن كانت غير مبيضة لأن الفارابي كان غير ملتفت إلى جمع التصانيف ونشرها بل غلب عليه السياحة. ثم إن الشيخ أبا علي تقرب عند السلطان مسعود بسبب الطب حتى استوزره واستولى على تلك الخزانة وأخذ ما في تلك الكتب ولخص منها كتاب الشفاء وغير ذلك من تصانيفه. وقد اتفق أن احترقت تلك الكتب فاتهم من يتعصب على أبي علي بأنه أحرقها لينقطع انتساب تلك العلوم على أربابها ويختص بنفسه، لكن هذا الكلام للحساد الذين ليس لهم هاد. . انتهى كلام طاش كبرى زاده وقد اختتمه بارتيابه في هذه التهمة أعنى إحراق ابن سينا للمكتبة ليحتكر علومها ولم ينفِ أخذ ابن سينا من كتاب التعليم الثاني. قال العقاد في رسالته عن الفارابي، أما طاشكبرى زاده فلا يصدق هذه الرواية ويقرر أن منشأها حسد الحاسدين لأبي علي وينفى حاج خليفة أيضاً عن ابن سينا تهمة حرق الخزانة لأن الشيخ أي ابن سينا مقر بأخذه الحكمة من تلك الخزانة كما صرح في بعض رسائله؛ وأيضاً يفهم من مواضع في كتابه الشفاء أنه تلخيص التعليم الثاني.

يقول العقاد وفي الحق أن ابن سينا إلى نوح بن منصور وطببه واستأذنه في الاطلاع على دار كتبه فأذن له. وابن سينا يصرح أيضاً بأنه كان يقرأ كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو دون أن يفهم ما فيه حتى ألقت المقادير بين يديه كتاب الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة فاستطاع حين ذاك أن يفهم كتاب أرسطو. وهو يصرح أيضاً في كتاب الشفاء بأنه يلخص آراء القدماء. ولكنا مع هذا نجد في رواتبي مفتاح السعادة وكشف الظنون كثيراً من الأغلاط؛ فمنصور بن نوح لم يكن ملكاً قبل سنة 350هـ أي بعد وفاة الفارابي بإحدى عشرة سنة ولم يكن السلطان مسعود من أحفاده ولم يستوزر ابن سينا وإنما استوزره شمس الدولة في همذان، ولم تكن خزانة الكتب في أصفهان وإنما كانت في بخاري. ومما يرجع الشك في صحة هذه الرواية أيضاً أننا لا نجد عند المؤرخين المتقدمين كتاباً للفارابي باسم التعليم الثاني.

والذي يهمنا من كل ما تقدم هو الحقيقة الثابتة التالية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وهي أن ابن سينا تخرج بكتب الفارابي والظاهر أن آثار المعلم الثاني بقيت المعين الصافي الذي ورد منه جمع غفير من رواد الفلسفة، فقد جاء في كتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) عرض لأثر الفارابي في رواد المعرفة في الأجيال الإسلامية، قال المؤلفان فيه (وهناك تلاميذ آخرون اهتدوا بهدى الفارابي واستمسكوا بتعاليمه دون أن يروه أو يعاصروه وعلى رأس هؤلاء الأستاذ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 1037م.

ولا غرابة فابن سينا نفسه يعترف بتأثره به وفضله عليه ولقد بلغ من تعلقه بنظرياته أن بذل كل مجهود في تفهمها وأفاض في شرحها وتوضيحها بحيث منحها نفوذاً وسلطاناً لم تنله على يد واضعها ومبتكرها، ولئن كان للفارابي فضل السبق فلتلميذة فضل البيان والإيضاح الإسلامية) في القسم الثاني الباحث عن الإمبراطورية الإسلامية وانحلالها لم يرض أن يقصر ما دونه ابن سينا على مهمة البيان والإيضاح لأفكار الفارابي بل أعطى كتاباته من المكانة العليا ما سوق دفعه لأن يدعى وجرفت مؤلفات الفارابي من سوق الفكري فقال (ولم تقتصر الحركة الفكرية في بلاط سيف الدولة على الشعر والأدب بل عدتهما إلى العلم أيضاً بروح ملؤها التفهم والإدراك فلمع في سمائه أحد تلامذة أرسطو الكبار أبو نصر الفارابي التركي الأصل الذي أتم دروسه في بغداد. ومع أن مؤلفات ابن سينا استطاعت أن تخطى بسلطان دائم في العالم الإسلامي فالواقع أن هذا الرجل (الفارابي) ليمثل بوصفه أحد تلامذة الفلسفة اليونانية الأكثر استقلالا - ظاهرة بارزة جدا في تاريخ الحضارة الإسلامية) ولا ننكر أن انسحار ابن سينا بآراء الفارابي واجتدابها له خلفا أثراً شيئاً على مؤلفات الفارابي إذ أن ابن سينا شرح أفكار الفارابي بإسهاب وعرضها للناس بثوب جذاب ومظهر أخاذ فأدى ذلك إلى نسيان الناس مؤلفات الفارابي نفسها وانذاهالهم عنها بما كتبه ابن سينا حتى قال العقاد في رسالته عن الفارابي أن جاء بعده الرئيس ابن سينا أو الشيخ الرئيس وتألق نجمه في ميدان الفلسفة كما سطع في سماء السياسة وأفاض الشيخ الرئيس في التأليف وصنف كتباً مطولة اشتملت على مذهب الفارابي في الفلسفة، وأعنت الناس عن رسائل الفارابي الموجزة وألقت على تاريخه ظلالا من النسيان)

وقد قدمت أن ابن سينا ولد بعد وفاة الفارابي ب 31 عاماً ولكن من الغريب أني وجدت في (الوافي بالوفيات) يقول مؤلفة صلاح الدين بن أبيك الصفدى قال ابن سينا (سافرت في طلب الشيخ أبي نصر وما وجدته وليتني وجدته فكانت حصلت فادة) وإني أعلق على هذا الخبر الذي أرتاب في صحته بأن ابن سينا تعلم الفلسفة وهو شاب يافع فقد كان عمره حين تعلمها حوالي الستة عشر عاماً؟ قال الأستاذ محمد لطفي في (تاريخ فلاسفة الإسلام) ولم يبلغ أبو على - السادسة أو السابعة عشرة من عمره حتى طبقت شهرته الخافقين لخدمة في الطب، وقد دعاء نوح بن منصور أمير بخاري لعيادته في مرض ألم به وأعيا حيل الأطباء فعالجه إلى أن عوفي فانبسط له وأسبغ عليه ذيل الرضى وأسبل عليه ثوب النعمة وفتح له خزانة كتبه فوجد بها الطبيب الحكيم خير مجال لرغبة الدرس وأرحب ميدان لطلب العلم واستقى من تلك الينابيع العذبة ما شاء إقباله عليها. وقد حدث أن احترقت خزانة الكتب فإنهم ابن سينا بأنه حرقها رغبة في أن يتفرد بما وعته من الحكمة وخشية أن ينتفع بما حوته سواه. وقد مات الأمير نوح بعد ذلك بقليل عام 387 هـ وفي هذا العهد كان قد مضى على وفاة الفارابي حوالي (48) عاماً فكيف يسعى ابن سينا للقيا؟ وهل موت الفارابي حادثة طفيفة يتوقع أن لا تصل إلى مسامع ابن سينا وهو عاشق الفلسفة لدؤوب لتحصيلها؟ ومع ذلك فإننا لا تنغلق باب الاحتمال ونجوز صدق الرواية ولا نكذب احتمال عدم اطلاع ابن سينا على وفاة الفارابي الأمر، الذي حمله على أن يعقد عزمه على الاتصال به؛ ذلك لأن ابن سينا في هذا العهد كان يعيش في شرقي البلاد الإسلامية في بخاري، أما الفارابي فقد توفي في دمشق، فإذا أضفنا إلى بعد المسافة تقطع الأسفار لوعورة الطرق ووحشتها مضافاً إلى ذلك أنه لم يكن الفارابي الفيلسوف المتصوف المنقطع عن الناس بذائع الصيت حينئذ - كل ذلك مما يجوز صدق أقصوصة عزم ابن سينا على الاستمتاع بفضل الفارابي عن كثب وسفره في طلب الشيخ العميق التفكير والقصة على كل حال وحتى مع تقدير كذبها تدل على سمو مكانه الفارابي في أذهان المؤلفين في تلك العصور فهم ينقلون خبر عزم ابن سينا على شد الرحال أو قيامه بالسفر حقيقة للاستفادة من علمه ولا يجدون في ذلك غرابة؛ بل إن فضل الفارابي في رأيهم يستحق أن يقصده رواد العلم من أمثال ابن سينا من أقاصي البلاد فضلاً عن أدناها.

للكلام بقية

ضياء الدخيلي