مجلة الرسالة/العدد 913/عُمَرُ وكبرياء قريش!
→ دين ودولة | مجلة الرسالة - العدد 913 عُمَرُ وكبرياء قريش! [[مؤلف:|]] |
دين الفطرة ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1951 |
للأستاذ أنور المعداوي
فيلسوف من فلاسفة الحكم. . ولا نعني أنه كان من أصحاب المذاهب والنظريات، أولئك الذين يضعون للدولة نظاماً فلسفياً تعمل به، ومنهجاً مدروساً تسير عليه، وفقاً لميولهم الفكرية الخاصة في محيط السياسة والإدارة والاقتصاد.
لم يكن عمر بن الخطاب واحداً من فلاسفة الحكم بمعنى هذه الفلسفة في العصر الحديث، حين تفهم على أنها طريقة معينة لنظم الإدارة لا تصلح بغيرها الإدارة، وخطة مفصلة لإقامة نوع من الحكومة لا تنجح بغيره الحكومة، على نحو ما يفكر الفلاسفة الإداريون من أشياع الفاشية أو الشيوعية أو الاشتراكية في هذه الأيام. . لم يكن واحداً من هؤلاء بهذا المعنى المفهوم، وإنما كان واحداً من فلاسفة الحكم حين تكون الفلسفة خبرة بدخائل النفوس، ودراية بأحوال الناس، وبصراً بما تتجه إليه منهم شتى العواطف والنزعات، وعلى هذه الأسس جميعاً قامت فلسفة عمر الإدارية حين يرجى صلاح الأمور بين الحاكم والمحكوم.
هو فيلسوف بهذا المعنى الأخير إذا كانت الفلسفة فكراً صائباً يلمس مواطن الضعف في أخلاق الرعية، ونظرا ثاقباً يلمح مواضع العلل في كيان الدولة، ورأيا نافذا يقرن الصرامة بالعدل وهو يواجه المرض وملء جمعيته فنون من العلاج
ولا نريد هنا أن نعرض لمختلف الجوانب في فلسفة عمر الحكومية فهي متعددة المعالم متنوعة الأهداف، ولكن الذي نريده من هذه الكلمة هو جانب واحد يدل به المثل الفرد على غيره من الأمثل. . هذا الجانب الواحد الذي يصور لنا الطبيعة العمرية في تصريف الأمور، بما عرف عنها من عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. هناك في موافقة الحازمة من كبرياء قريش، أو من تلك الأرستقراطية القرشية التي لم يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!!
لقد كان عمر يعلم من أمر قريش ما قد يعلمه غيره من الناس. وليس في هذا العلم بطبيعة الظواهر النفسية ما يبهر أو يروع حين يقف العقل بعلمه عند هذا الحد ولا يزيد، لأنه قسط مشترك من المعرفة قد يتساوى فيه كل صاحب حظ من الألمعية أو كل صاحب قدر من الذكاء. . ولكن امتياز عمر في هذا المجال يتمثل في نخطي المنظور إلى ما وراء المنظور، وانتقال الوعي من رؤية العيش إلى رؤية الفكر، واحتشاد العقل لتفسير الظواهر النفسية في ضوء ما يصحبها من أعمال وما يعقبها من أحداث!
هنا يتركز امتياز عمر؛ فهو يعرف عن قريش أمورا لا تخفى على أمثاله البصراء: يعرف عنها تلك الكبرياء الموروثة عن مكانتها في الجاهلية، ويعرف عنها هذا الصلف المكتسب من سيادتها في الإسلام، ومن هاتين الزاويتين قدر كل ما يمكن أن تتسم به الأرستقراطية القرشية من أسباب الزهو ومظاهر الخيلاء. لقد كان هذا الحي من أحياء العرب هو صاحب الكلمة الأولى قبل أن يظهر في الأفق محمد. كان له المجد الذي يأتيه من عزة الدنيا وزعامة الدين: فهو القائم على مناسك الحج يستأثر بها من العرب جميعاً، ويتسلط بها من دون العرب جميعاً، على القبائل كافة، ويستمد من هذه السلطة الدينية كل منابع القوة والرفعة والتفوق على غيره من الأحياء. وهو صاحب التجارة الضخمة والمال الوفير، وما يتبعهما من سعة الشهرة ونفاذ الكلمة ودافع السيطرة والغلبة والاقتحام. كان له هذا كله قبل أن تسطع أضواء الرسالة المحمدية في سماء الجزيرة العربية، وحين سطعت هذه الأضواء كان لقريش حق آخر لا يزاحمها فيه مزاحم ولا يجادلها فيه إنسان، وهو شرف الانتساب إلى محمد الزعيم وشرف القرابة من محمد الرسول. .
وحسبها من هاتين الناحيتين أن تغلو، وأن تطمع وتسرف في الطمع، وأن تطمح وتغرق في الطموح؛ ولا عجب إن تمادت الأرستقراطية القرشية فيما ورثته من معاني الصلف ومعالم الكبرياء، ولا عجبأيضاًإن مضت في طريقها جامحة لا يكاد يهذب من جموحها إنسانية محمد ولا سماحة الصديق!
نعم، لم يهذب من جموحها هذا الذي قلناه. وإننا لنرمز للأرستقراطية القرشية في عهد النبي وأبي بكر بمثل واحد هو خالد بن الوليد. . لقد كان خالد مثلاً صادقاً ووجهاً سافرا لتلك الأرستقراطية المتميزة بالألوان من الغطرسة والاستعلاء، ولعل ما كان يثير من غلوائه أنه كان واحدا من قريش، يقبس من أمجادها مجده ثم يضيف إليه مجد القائد المظفر لجيوش المسلمين. وكل هذا قد دفع لبن الوليد إلى شيء من الازدراء للغير وإلى أشياء من الزهو عليه، كأن يكون هذا المزدري رجلا كعمار بن ياسر على سبيل المثال. . عمار الذي لقي في سبيل الدعوة من صنوف الذل وضروب الهوان ما لم يلقه إنسان، عمار الذي عاش مجاهدا ومات شهيدا وعطر صفحات التاريخ بمداد التضحية وسطور الفداء؛ عمار هذا يخاصمه خالد في حياة محمد ثم ينسى جهاده في سبيل الله وفضله في نصرة الإسلام، ولا يذكر له غير شيء واحد وهي يغلظ في القول ويشتد في الخصومة، وأن أباه (ياسر) كان عتيقا من عتقاء مخزوم، وهي حي من أحياء قريش كان من فتيانه خالد بن الوليد. . ومعنى هذا كله في منطق الأرستقراطية القرشية أن العبيد لا يحق لهم أن يرفعوا الرءوس أمام السادة!!
وينطلق عمار إلى الرسول ليحتكم إليه شاكيا ابن الوليد، ويقبل خالد في موكب من كبريائه القريشية ليوجه عمارا أمامالنبي يمثل ما واجهه به، فيصمت عمار ويطرق محمد. . وحين تنهى الأرستقراطية المتعالية من تهجمها على ابن ياسر وابن سمية، يرفع رأسه الرسول الكريم وينطق الإنسان العظيم، ينطق بعبارته الخالدة خلود الحق، الباقية بقاء العدل، الراسخة رسوخ اليقين: (من عادى عمارا فقد عادني)!. . قالها محمد ولم يزد، ولكن العبارة الموجزة كان فيها من الزجر، وكان فيها من الردع، وكان فيها من التأنيب والتثريب، وكان فيها من هذا كله ما أشعر خالدا بالخجل وما جعله يطلب الصفح من الرسول ويلتمس العفو من عمار!
ولكن هل رجع خالد عن طبعه وهل عدل عن سيرته بعد وفاة الرسول؟ إن سماحة الصديق بعد إنسانيته محمد، لم تستطع أن تخفف من حدة تلك الغلواء القرشية أو توقف من اندفاعها في طريق. . وها هو التاريخ ينقل إلينا موقف خالد بن الوليد من مالك بن نويرة حين قتله بغير حق ليتزوج من امرأته الحسناء. وها هو ينقل إلينا مرة أخرى كيف ثار عمر من أعماقه على هذا العمل الذي لا يقره العدل ولا يرضاه الضمير، وكيف خذله أبو بكر حين طلب إليه أن يعزل ابن الوليد حتى لا يكون قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين. لقد كان أبو بكر رجلاً سمح النفس لين العريكة موطأ الأكناف يعمل بهدي محمد، وما دام محمد قد وضع خالد في رأس الجيش ثقة بقدرته واعترفا بمكانة، فلا يحق لابنأبيقحافة أن يخرج على تلك الثقة الغالية فيعزل قائداً رضى عنه الرسول. . ويسكت ابن الخطاب على مضض ويسرها في نفسه إلى حين! كان عمر كما قلت لك يعرف من أمر قريش ما قد يعرفه غيره من الناس، ولكنه كحاكم فيلسوف خبر طبائع النفوس، كان يدرك أن قريشاً كالطفل المدلل لا تنفع معه كلمات الزجر ولا تحول دون رغباته ألفاظ التأنيب، وإنما يصلح أمره بالحكم الحازم واللقاء الصارم، و (الدرة) التي لا تفرق حين تعلو الرءوس وبين كبير وصغير. وكان يخشى الفتنة التي يخشاها هي ما يعرفه عن قريش من حب للسيطرة ورغبة في الاعتلاء، وطموح لا يقف عند حد في سبيل فرض الكلمة على غيرها من الناس. وأي فتنة أشد خطرا وأبعد أثرا من أن نلغي الأرستقراطية القرشية شعار الدعوة ودستور الإسلام: وهما لا فضل لعربي عجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم؟ إن الإسلام لم يعترف بفضل غير فضل الجهاد ولا بمنزلة غير منزلة التقوى، ولا بجاه غير جاه الدين، ولا بسلطان غير سلطان العدل والمساواة. . فإذا كانت قريش لا تريد أن تعترف إلا بعزها في الجاهلية ومكانتها في الإسلام وقرابتها من الرسول، فهذه هي الفتنة التي كان يخشاها ويقدر عواقبها في تشتيت الشمل وتفريق الكلمة وتصدع البناء. ومن هنا وقف ابن الخطاب في وجهها بكل ما أوتى من حزم الحاكم وحكمة الفيلسوف: الدرة في يمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون!!
بهذه الفلسفة الحاكمة وبعد وفاةأبيبكر، واجه عمر كبرياء السادة من قريش. . عزل خالدا من القيادة والمعركة دائرة ليضع في مكانة أبا عبيده بن الجراح، لأنه لم ينس لابن الوليد تلك الهفوة التي أقدم عليها يوما مطمئنا إلى سماحة الصديق، وحتى لا يكون كما سبق أن قلت قدوة سيئة لمن هم تحت إمرته من قواد المسلمين، ولعله قد أراد أن يكبح جماعة ليكون عبرة لأمثاله من الجامحين. ولم يكتف بهذا بل أخذ يراقبه ليقضى على البقية الباقية فيه من زهو الكبرياء القرشية، وليجعل منها آخر الأمر قوة منهوكة لا تكاد تؤمر حتى تطيع. ويقص علينا التاريخ أن عمر دخل المسجد ذات يوم فوقعت عيناه على خالد وقد رشق في قلنسوته عددا من السهام، مختالا كما يختال بريشة المنقوش كل طاووس من الطواويس. . وتمتد بين عمر بالدرة ليعلو بها رأس هذا الطائر المختال، وتمتد شماله لنزع السهام ملقية بها إلى خارج المسجد وأن يسمع كلمة اعتراض، ويهتف الجبار العادل في صرخة خالدة: إن الله لا يحب كل مختال فخور، ولن تزهي قريش وفي ابن الخطاب عرق ينبض!!
ويقص علينا التاريخ مرة أخرى أن عمر كان قد حدد يوما ليقسم فيه الغنائم على المسلمين، وحين أقبل اليوم المرتقب تجمع الناس من حوله وازدحموا عليه، حتى لم يبق مكان لقدم. ونظر عمر إلى رجل يدفع الناس بمنكبيه ويشق طريقه في عنف حنى بلغ موضعه من الطليعة، وكان هذا الرجل هو سعد بنأبيوقاص، سعد الذي كان أول من رمى بسهم ي سبيل الله، والذي فداه النبي بأبويه يوم أحد، والذي رآه مقبلات ذات يم فأشار وقال لمن حوله: هذا خالي. سعد هذا رآه عمر يزاحم الناس يوم تقسيم الغنائم فلم يكن منه إلا أن علاه بالدرة وهو يصرخ في وجهه: لم تهب سلطان الله فيالأرضفأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا يهابك!!
ويقص علينا التاريخ مرة ثالثة وما أكثر ما يروى لنا التاريخ من أبناء عمر، يقص علينا أن عبد الرحمن بن عوف قد أقبل يوما على الجبار العادل ومعه فتى من بنية قد لبس قميصاً من حرير، فينظر إليه عمر غاضباً ويقول له: ما هذا الذي أراه يا ابن عوف؟ لباس من حرير وابن الخطاب قائم على أمر هذه الأمة؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفل. . ويقول له عبد الرحمن وقد أذهلته المفاجأة: ألم تعلم أن رسول الله (ص) قد أذن لي في لبس الحرير؟ فيجيب عمر مصدقاً منكر لمن عداه: بلى! لحلكة شكوتها. . أما لبنيك فلا!!
وهكذا كان عمر حيال الأرستقراطية القرشية. يريد أن يسوى بين قريش وبين غيرها من العرب في كل شأن من شؤون الحياة، فلا فضل ولا تفوق ولا امتياز، ولا شيء يمكن أن يفرق بين الناس في مظهر من المظاهر ولا في قيمة من القيم ولا في حق من الحقوق. ولهذا أدار دفة الحكم كما سبق أن قلت، بما عرف عنه عبقرية القائد وحنكة الحاكم وكياسة المدير. . وبقيت حقيقة نقف من هذه المقدمات المادية موقف النتيجة النفسية، وهي أن تلك الكبرياء المقهورة في نفوس قريش قد تنفست الصعداء بعد موت عمر، فانطلقت في عهد عثمان كما تنطلق الأسود السجينة قد أفلتت من قبضة السجان. ووقعت الفتنة التي كان يخشاها الحاكم الفيلسوف، وهي أن يخلى بين قريش وبين ما تطمع فيه من سيطرة على العرب، وما تطمح إليه من تحكم في رقاب الناس؛ وقعت الفتنة التي أودت بعثمان فيما أودت به من استقرار الأمور في جيل من بعه أجيال. ويالها من نتيجة طبيعة تلك التي ترتيب على انقضاء عهد كان فيه ابن الخطاب كما صورتاه: الدرة في بيمينه تأديب وتهذيب، والكلمة على لسانه تشريع وقانون.
يا درة عمر، إن لك مكانا في التاريخ. . ويا عدل عمر، إن لك مكانا عند الله!!
أنور المعداوي