الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 913/الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 913/الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 913
الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 01 - 1951


للأستاذ قدري حافظ طوقان

الغزالي حجة الإسلام وزين الدين ومن أكبر أعلام الفكر الذين يعتز بهم الإسلام ويفخر. ظهر في القرن الخامس للهجرة في عصر سادت فيه آراء الشك والاختلافات وعمت أوساطه الفوضى في المعتقدات والمذاهب. وكان لهذا أثر على حياة الغزالي كما كان لنشأته الصوفية والروحية أثر كبير عليها. فنزع إلى الانتصار للدين وسلك في ذلك مسلكاً جديداً لم يسلكه أحد من قبله، حتى قال (رينان): (إن الغزالي هو الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقاً خاصاً في التفكير. . .).

واجه الغزالي في أول حياته مذاهب مختلفة من كلام وباطنية وفلسفة وتصوف وساورته نزعات التشكيك والتحليل المنطقي، واحتار في أمره ولم يدر أيها يتبع. وقد لجأ إلى دراسة هذه المذاهب واختبار حسناتها وسيئاتها رائدة في ذلك الوصول إلى الحقيقة التي تروي النفس وتنير العقل، فخاض بحار التفكير وتوغل في كل مظلمة واقتحم كل مشكلة وورطة، وتفحص الفرق والعقائد ليميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع. درس الفلسفة ليقف على كنهها، ودرس علم الكلام ليطلع على غايات المتكلمين ومحاولاتهم، ودرس الصوفية ليعثر على سرها. وكان في دراساته واسع الصدر سما بتفكيره وحلق، وقد أدرك أنه لا يمكن للمحقق أو الباحث عن الحقيقة المتعطش لها أن يستوعب سلبها بغير الجمع بين سائر مظاهرها مما يقال للشيء أو عليه.

إن هذه الطريق الذي سار عليه الغزالي يدلل على قوة شخصيته وعلى إيمانه بنفسه وثقته بمواهبه ومزاياه مما ساعده في الانتصار على خصومه وعلى الفلسفة.

والغزالي يمتاز على غيره من علماء الكلام في كونه قرب الدين من العقل الاعتيادي وكشف دقائقه أمام أذهان العامة، في حين أن الكثيرين من الفقهاء، ورجال الدين في عصره والعصور التي سبقته ساروا في تفكيرهم على أساس من الغموض وفي بحار من المعميات والأسرار، وذلك مخافة على شخصياتهم من بروزها على حقيقتها ضعيفة واهية، وخشية من نفوذهم أن يتلاشى إذا وضحت الأمور وزال الغموض.

والغزالي حين قرب الدين لم ينزل به، بل استطاع بما أوتى من قوة العارضة وصفاء التفكير وسعة الاطلاع؛ أن يرفع الإيمان من (حضيض السذاجة إلى قوة التفكير العالي مما جعل المفكرين في الشرق والغرب يرون فيه المثل الأعلى للتفكير الإلهي والنور المبدد لروح الشك والتشاؤم. . .) وقد قال سارطون في هذا الشأن: (إن أثر الغزالي في العلم الإلهي أعظم من أثر القديس توما. . .).

درس الغزالي الفلسفة (. . . ولم يكن الذي حمله على دراستها مجرد شغف بالعلم بل كان يتطلع إلى مخرج من الشكوك التي كان يثيرها عقله. . .). ليطمئن قلبه ويتذوق الحقيقة العليا. وخرج من دراساته هذه وسياحاته وتنقلاته بكتب قيمة نفيسة أهمها كتاب تهافت الفلاسفة، وهو عمل عظيم لا يخلو من قيمة فلسفية إذ هو (ثمرة دراسة محكمة وتفكير طويل، يبين المسائل الكبرى التي كانت محل خلاف بين الدين والفلسفة. . .) مما يدل على طول نظر في الفلسفة ودراسة وافية لها. وقد بلغ فيه أقصى حدود الشك فسبق زعيم الشكيين (دافيد هيوم) بسبعة قرون في الرد على نظرية العلة والمعلول.

لقد وصل الغزالي من دراساته الفلسفية وغيرها إلى ما وصل إليه (كانت) فيما بعد، من أن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفاً الغطاء عن جميع المعضلات، وإنه لابد من الرجوع إلى القلب وهو الذي يستطيع أن يدرك الحقائق الإلهية بالذوق والكشف وذلك بعد تصفية النفس بالعبادات والرياضيات الصوفية. وهو بذلك حاول أن يخضع العلم والعقل للوحي والدين لكي يصل إلى الحقيقة العليا. وعلى الرغم من محاولاته إخضاع العلم والعقل للوحي والدين كان يمجد العقل ويرى فيه (كما جاء كتاب إحياء علوم الدين) منبع العلم ومطلعه وأساسه وإن العلم يجري منه مجرى الثمرة من الشجرة والنور من الشمس وقد أتى بجملة أحاديث نبوية تشير إلى مقام العقل وشرفه.

والغزالي لم يأخذ بأقوال فلاسفة اليونان، بل كان يعرضها ويسلط عليها العقل فيخرج بنقد صائب ورأي عبقري. لقد اعترض على قول (جالينوس) اليوناني (. . . إن الشمس لا تقيل الانعدام) ويستدل على ذلك بأن الأرصاد لم تدل على أي تبدل في حرارة الشمس أو حجمها، وهنا يأخذ الغزالي هذا القول، ويرى فيه خطأ وخروجاً عن الصواب. فأرصاد القدماء ليست إلا على التقريب، والشمس قد تخف حرارتها وينقص حجمها دون أن يلاحظ الناس ذلك في مدة قصيرة، وعلى ذلك يخرج الغزالي برأي صحيح هو ما توصل علماء الفلك الحديث. فلقد توصل العلم إلى أن الشمس تحتضر على حد تعبير السير جيمز جينز وأنها في تناقض. وقد حسبوا ما ينقص منها (على الرغم من القوى والذخيرة التي تصل إليها بعوامل شتى) فوجدوا أنها تفقد مادتها عن طريق الإشعاع (360) ألف مليون طن في كل يوم.

وللغزالي آراء تدل على حسن إيمانه بالبشرية وصفاء نظره إلى الخليقة الإنسانية وهو لم يأخذ بأقوال الذين يجعلون الشر مركباً في طبع الإنسان، بل أنه أحسن اعتقاده في النشأة فجعله خيراً. ويرى أن الفطرة الإنسانية قابلة لكل شيء فالخير يكتسب بالتربية وكذلك الشر. وفي رأيه أن الإنسان لا يميل بفطرته إلى إحدى الجهتين وإنما هو يسعد ويشقى تبعاً لعوامل عديدة تتعلق بالأبوين والمحيط غير حاسب أي حساب للوراثة وما إليها.

وأورد الغزالي في كتاب الأحياء قواعد ومبادئ ليسير عليها المعلم والمتعلم. ويجد المتصفح لها أنها سامية الغايات فيها تحليل نفسي دقيق يدل على النضج وخصب القريحة وعلى معرفته التامة بنفسية المعلم المتعلم. ويرى فيها المؤرخون أنها لا تقل عن النظريات الحديثة في علم التربية. وكذلك وضع الغزالي مبادئ جليلة فيآدابالمناظرة هي في الواقع الدستور الذي يجب أن يسلكه المتناظرون وأصحاب الجدل والبحث. وفي رأي الغزالي أن الخروج على هذه الآداب قد أشاع الخصومات وأنشأ العدواتلأنالغاية من الجدل والمناظرة لم تكن في الحقيقة كما يجب أن يكون، بل كانت التغلب على الخصم والتفوق على المناظر.

والغزالي لم يذهب مذهب المعتزلة في أن العمل يكون حسناً أو قبيحاً لأنه حسن أو قبيح بحكم العقل. كما أنه لم يقل أنه حسن أو قبيح بحكم الشرع، لكنه قال أن الحسن والقبيح يرجعان إلى العقل والشرع معاً. فالعمل خير إذا وافق العقل والشرع، وشر إذا خالف العقل والشرع. وهكذا قاس الخير والشر بمقياس العقل والشرع.

وتوفر الغزالي على بحث الأخلاق فأجاد في هذا الباب وترك أبقى الآثار وأرفعها شأناً ضمنها كتابه الشهير (أحياء علوم الدين) لقد نهج الغزالي في فلسفة الأخلاق الناحية الدينية من حيث النظر والتقدير والناحية التحليلية النفسية من حيث التناول والتفسير.

والغزالي يجعل للعلم منطقة وللدين منطقة. ولكل مزاياها وأحوالها الخاصة والنفس البشرية تتصل بالمنطقتين، فهي تتصل بالعالم الحسي عن طريق المعرفة والبرهان وبالعالم الروحي عن طريق الاختبار الشخصي والكشف.

ويرى أن السعادة الروحية لا تأتي من الإيمان الفلسفي بل بالعمل المؤدي إلى الاتصال بالروح الأعلى. ومن هنا تبين أن الغزالي حين يتناول الدين فإنه يحررها من أطمار الكلاميين ثم (يمزج حيوية الأول بحيوية الثاني ويولد منهما مذهباً روحياً يقبله العقل ولا يدحضه البرهان. . .).

وقد أعرض الغزالي من معرفة هذا العالم عن طريق العقل (ولكنه أدرك المسألة الدينية إدراكاً أعمق من إدراك فلاسفة عصره. . .) فقد كان هؤلاء الفلاسفة عقليين شأن أسلافهم اليونان فاعتبروا أن أمور الدين ثمرة لتصور الشارع ووهمه، بل هو ثمرة لهواء. واعتبروا الدين انقياداً أعمى أو ضرباً من المعرفة فيه حقائق أدنى من حقائق الفلسفة. وقد عارض الغزالي هذا الرأي واعتبر الدين ذوقاً باطنياً لا مجرد أحكام شرعية أو عقائد، بل هو شيء أكثر من ذلك، وأنه شيء تتذوقه الروح. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول (. . . ولا يتاح لكل إنسان أن يبلغ في هذا الأمر مبلغ الغزالي، والذين لا يستطيعون متابعته إذ يعرج في مدراج السالكين متخطياً المعارف المكتبية كلها، لا محيص لهم عن الإقرار بأن محاولاته في الوصول إلى الله ليست أقل شأناً في تاريخ العقل الإنساني من مذاهب فلاسفة عصره، وإن بدت هذه المذاهب أدنى إلى اليقين، لأن أصحابها إنما ساروا في بلاد قد كشفها غيرهم من قبل. . .).

وجاء في كتاب نهاية الميزان ما يشير إلى أن الشك هو طريق اليقينلأنالشكوك هي الموجبة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال. ولم يفت الغزالي أن ينبه في مواطن عديدة من كتبه إلى أنه: (. . . يجب على المعلم أن يتجنب كل ما يثير الشك في نفوس الضعفاء، وخص المرشد على الاقتصار مع العامة على المتداول المألوف. . .) فهو يرى أن يستعمل الشك بمقدار محدود وهذا المنهج (. . . يبين أن الغزالي يحرص على وحدة الهيئة الاجتماعية، وينفر من كل ما يقربها من الانحلال. . .).

والمجال لا يتسع لعرض الآراء المختلفة التي أوردها الغزالي في كتبه في الأخلاق والآداب والحقوق والواجبات. ولكن يمكن القول أنه ترك تراثاً ضخماً في كتبه وتآليفه تجعله من الخالدين وهو يعد بحق إمام أهل البيان في الأسلوب العلمي والأسلوب الاجتماعي ومزاج من علوم شتى (. . . أنضجها البحث وصقلها التفكير وأضفتها تجاربه وشكوكه القاسية التي عاناها في نشأته. . .).

وأخيراً تعرض لمقام الغزالي عند الغربيين فنقول: كان للغزالي قيمة ومقام عند الغربيين وقد أحلوه المكان اللائق ودرسوا مؤلفاته ورسائله وكتبه وكتبوا عنه مؤلفات الطوال. ومنهم من يتعصب له يرى فيه أحداً من أربعة. يقول الدكتور (زويمر): (كل باحث في تاريخ الإسلام يلتقي بأربعة من أولئك الفطاحل العظام وهم: محمد نبي المسلمين والبخاري الأشعري والغزالي. .) ويرى (دي بور) أن الغزالي أعجب شخصية في تاريخ الإسلام. وكتب (كارادي فو) عن الغزالي وقد أنصفه بعض الإنصاف. وهناك رسائل كثيرة كتبت عن الغزالي بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، وهي تدل على أنه شغل الباحثين والمستشرقين أمثال الدكتور مولتر، وماكدونالد، وستيفيلد وشمولدز ودي بور والأب بويج وماسينيون وجولدزيهر وغيرهم، فكان محل اهتمامهم وعنايتهم، كما تدلل على فضله وأثره الكبيرين في العلوم وخاصة في العلوم الإلهية والصوفية والأخلاق.

نابلس

قدري حافظ طوقان