مجلة الرسالة/العدد 913/أبو دجّانة
→ الهجرة الكبرى في سبيل السلام | مجلة الرسالة - العدد 913 أبو دجّانة [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 01 - 01 - 1951 |
للأستاذ محمد طلبه رزق
يطيب للمسلمين في ذكرى مولد الرسول أن يذكروا روائع أحداث الجهاد الأولى التي صاحب الدعوة للإسلام والمقرونة بآيات من العبقرية أو التضحية أو البطولة. ولعل حياة أبي دجانة البطل الفدائي من أخلد هذه الروائع وأبعدها أثراً في القلوب والنفوس.
وعلى أن تاريخ الجهاد الإسلامي ملئ بالبطولات الفذة والتضحيات العظمى والمواقف النبيلة، فإنني أشهد أن حياة أبيدجانة كانت من أعظم ما استهواني وملأ نفسي وقلبي روعة وتمجيدا لهذا البطل الذي اعتقد جازما - إن حقا أو غيره - أن التاريخ قد ظلمه وهضمه إلى درجة تكاد تكون دينهم، والذي لولاه ولولا فدائيته وبطولته لما تمت رسالة. ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا أن يحفظ ذلك الدين العظيم ويكون سببا في إتمام رسالة الإسلام.؟ ولرب قائل يقول: وكيف لأبي دجانة هذا شريكا أكان أبودجانة هذا شريكا للرسول في نلقى تعاليم الدين؟ أكان ينزل عليه كما ينزل على الرسول؟ أكان الأمين الأوحد والنائب المفرد للرسول يؤثره بأسرار الدعوة ويأتمنه عليها؟
والواقع أن أبا دجانة كان مسلما من عامة المسلمين تفتح قلبه للدعوة الإسلامية وأشربت نفسه حبها، وتعلقت روحه بأهدابها. كان أنصاريا من أهل يثرب لي دعوة الحق ودخل في الدين بعد يقين صادق وأيما نعميق، وأحب الرسول حبا لا يوصف لفرط صدقه وشدته وإخلاصه. وهو قبل ذلك وبعد ذلك فارس بارع، خفيف الحركة، سريع الوثبة، يجيد المبارزة واللعب بالسيف والخنجر كما يجيد فنون الحرب الأخرى التي عرفها العرب آنذاك. وحين قرر النبي صلوات الله عليه. العمل على نشر الدعوة بقوة السيف ومقابلة عدوان جاحديها بمثله، كان أبودجانة من المسلمين نقص
ألفاً من الجنود تخذل من المنافقين والضعفاء ما يقرب من ثلثهم.
وينظم النبي جنوده ويجعل منهم رماة يحملون مؤخرة الجيش ويجعل مكانهم على الجبل ويقول لهم: (قوموا على مصافكم هذه، انضحوا الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا قد هزمنا القوم وظهرنا عليهم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم). ثم يلتفت القائد الأعظم والزعيم المقدس إلى الآخرين يبثهم روح الإقدام والتضحية، ويزودهم بنصائحه ويميل عليهم توجيهاته وإرشاداته ولا يدع سبيلا إلى حفرهم وتشجيعهم إلا سلكها؛ فهذا هو ﷺ يرفع سيفه بيمينه ويعرضه على جنوده قائلاً: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ ويتهافت المؤمنون عليه، كل يبغي هذا الشرف الرفيع، حتى ينبري له أبو دجانة متحمساً مندفعاً فيقول عمر: هذا أبو دجانة الشجاع يقول إليه، فيقول أبو دجانة: نعم أنا أقوم إليه، ما حقه يا رسول الله؟. ويجيبه النبي العظيم: أن تضرب به حتى ينحني. فتزداد حماسة البطل ويردد أنا آخذه يا رسول الله بحقه. ويسر النبي لهذه الحماسة ولا يملك إلا أن ينوله السيف. وبتناول الفارس الشجاع السيف في فرح وثورة ويهزه في يده مردداً:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
إلا أقوام الدهر الكبول ... أضرب بسيف الله والرسول
ويخرج من جيبه عصابة حمراء يعصب بها رأسه ويختال بين الصفوف كأنما هو ترقص، ويعجب المسلمون نشوة الفارس وفرحته بسيف الرسول.
وتبدأ المعركة بمبارزات فردية يكون صراعها جميعاً من قريش الباعية، ثم ما يلبث الجيشان أن يلتحما، وما تلبث قوات المسلمين أن تتقدم منتصرة مثخنة في جيوش العدو وأبودجاية في فرسان المؤمنين يتغنى بشعره، ويضرب الرسول يمنة ويسرة ما تنوله ضربة، ولا تخيب له طعنة، صرعاه يتجندلون ويخرجون عن يمين وشمال. . وتتراجع قوات قريش مروعة منهزمة متخاذلة وترى نساء المشركين وتراجع رجالهن وهزيمتهم فيصحن فيهم محمسات حافرات تتزعمهن هند بنت عتبة الموتورة في أبيها أحد قتلى بدر:
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
أن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وأبو دجانة يصول ويجول في الصفوف يصرع المشركين ويروي بدمهم الأرض، وتعترضه هند هاتفه محرصة المشركين ويهاً بني عبد ويهاً حماة الأديار ضرباً بكل بتار
ولا يكاد يميزها أن كانت رجلا أو امرأة فيهم بقتلها، فتصيح مذعورة: ويلاه. وما إن يتميزها أبودجابة حتى ينحبها عن سبيله قائلا: أهي أن أنثى اذهبي قبحك الله. ويقول له الزبير: بل اقتلها يا أبا دجانة فيرد أبو دجانة الفارس الباسل أو ترد رجولته الكريمة: إني أكرم سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.
وتسير المعركة قوية ملتهبة نحو غايتها، ونكاد تنجلي عن نصر للمؤمنين مبين، وفوز لهم محقق، ولا يكاد يشك ذو عقل أو بصر في أن الهزيمة الساحقة الماحقة ستحل على جيوش الملحدين؛ وتؤيد جميع الشواهد والقرائن هذا المصر وتقرره، ويتضخم هذا الشعور بالنصر في قلوب المسلمين ويؤمنون به ويتأذى المشركين وتمتلئ قلوبهم بالحسرات واللوعات بعد أن رأوا معركتهم التي تأهبوا لها واتخذوا لها العدة ووطدوا عزائمهم على أن يجعلونها انتقاما ومحور للعار الذي لحقهم في بدر، تدور عليهم وتنقلب ضدهم.
ولكن. ولكن - ولعن الله لكن هذه - هاهي فصيلة الرماة المسلمين التي ناط بها قائد المسلمين وزعيهم الرسول حماية المؤخرة يرى أفرادها انتصار إخوانهم وتقهقر المشركين أمامهم تاركين متاعهم غنائم وأسلابا. وهاهي الغنائم والأسلاب تلمع في أعين هؤلاء الرماة فتسيل لعابهم وتجعلهم يفكرون فيها وفي موقفهم هذا الثابت، وفي تلك الأوامر الحاسمة الصارمة الموجهة إليهم بضرورة ثباتهم مها رأوا من انتصار جيشهم وتقهقر عدوهم. ولكن أية نفوس تلك التي ترى هذه الغنائم والأسلاب الكثيرة الوفيرة وترى أكثر من هذا وذاك إغراء الشيطان، وثراء الحياة يساق هينا لينا ليس بينهم وبينه إلا أن يتحركوا وينقضوا لتحفظ لهم حقوقهم وأنصبتهم من أن يغتالها رفاقهم المنتصرون أو أن يبخسوا بعضها. وما هي إلا أن تضعف نفوسهم وينتصر الشيطان وتبرق الدنيا في عيني أحدهم فيصيح من أعماقه: الغنيمة. . وتهز صيحته بقية الرماة. . وإذا هؤلاء الرماة حماة المؤخرة، يخالفون عن أمر قيادتهم، لا رغبة في العصيان والمخالفة، وإنما خاطئا بأن النصر قد صار في جانبهم ويندفعون جاعلين همهم جمع الغنائم والأسلاب من متروكات جيش المشركين المنهزم.
وفي المشركين يقظة وحسرة، وفي قلوبهم نار تأجج حقدا وحفاظا لأهليهم وعشيرتهم الذين ذهبوا في بدر، وإذا هذه اليقظة وذلك الحقد يبصر بالثغرة الجديدة التي انفتحت في مؤخرة المسلمين المنتصرين، وإذا فلولهم تتجمع وتحتشد وتتجه نحو الثغرة!
ويريد الله أن يمتحن المسلمين ويبلوهم، وأن يجزيهم جزاء مخالفتهم، ويريد عاقبة عصيانهم لأوامر قائدهم ورسولهم، ويبصرهم بخطئهم وطمعهم في عرض الدنيا الذي رجوه، وهم المؤمنون الذين خرجوا من ديارهم وأهليهم قد بايعوا الله ورسوله أن ينصروا دينه وباعوه أرواحهم بأن لهم الجنة وليس أسلاب الحرب وغنائمها. . يريد الله ذلك، ويشاء الله إلا أن تكون إرادته تلك رائعة قاسية بعيدة الأثر في نفوس المسلمين جميعا، ويتمثل كل ذلك في أن يمكن لفلول قريش المتجمعة من أن تنفذ في جيوش المسلمين من الثغرة التي كشقها الرماة في المؤخرة، وأن تنال قريش الباغية المشركة منهم ونثخن فيهم.
ويرى النبي ﷺ هجمة الأعداء المفاجئة من الخلف، فيدرك خطيئة الرماة ويعرف من ابن أتى الشر، وكيف انهارت الخطة الحكيمة التي رضعها وأمر بها. ويرتاع المسلمون ويأخذهم الروع والجزع ويظنون أن جيوشا أخرى جديدة للمشركين قد أخذتهم من خلف فيضعفون ويدب الفزع بينهم، فيفر منهم من يفر، ويتخاذل منهم من يتخاذل، والنبي العظيم يستنفرهم ويثبتهم ويعدهم النصر، وينادي فيهم أن اثبتوا وكافحوا، ولا يدع سبيلا لحفزهم ودفعهم للصمود والجلاء دون أن يسلكها!.
ويكثر عدد القتلى من المسلمين ويسقط فيهم أعلام من فرسانهم الصناديد ويشاء الله إلا أن تبلغ العظمة والعبرة أعظم مبلغ وأروعه حين يبقى الرسول في عشرة من صحبه ينافون معه وهو يرمي بسهمه حتى يصير شظايا. . ويقترب المشركون منه ودونه اثنان سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير يذوبان عنه وأم عمارة لمسلمة المؤمنة تقبل فترى ذلك فترمي سقاءها وتنتزع سهم أحد القتلى وتنفح به الرسول العظيم. . ويقبل أبودجانة فأي إقبال البطل الذي حارب الرسول وأدى حقه فقاتل به حتى تقوس، وحتى امتلأ جسمه بالجراح والطعنات. . ويرى أبو دجانة النبي الكريم في هذا الموقف العسير ويرى أحد المشركين الأنذال وهو يضرب أم عمارة المرأة المسلمة على عاتقها فيرديها!. . ويهم أبودجانة لينافح عن الرسول، وكيف له ذلك وسيفه قد انحنى وتقوس، وجسمه قد تمزق وتجرح، ولكنه يرى النبي الكريم هدفا لنيل الكافرين الفاجرين، ولكنه يريد أن يسجل أروع أمثال التضحية والفدائية أعظم تسجيل وأدقه، فها هو يندفع نحو النبي العظيم وينكفئ عليه حاميا له بجسده متوسلا إليه بقوله: دعني يا رسول الله أترس دونك بنفسي، لقد ولى الناس عنك وهذا نبل العدو يصل إليك. ويقول له الرسول العظيم مشفقا: إن النبل يقع في ظهرك.
ولكن أبا دجانة المسلم الصادق الإيمان والفدائي الذي باع روحه ونفسه لله لا يحس ألما للرميات الكافرة المجنونة ويستعذبها ويرد على النبي العظيم بآخر ألفاظه: لا بأس. ويظل ظهرأبيدجانة يتلقى النبل حتى يمتلئ، وحتى لا تبقى فيه نقطة واحد دون إصابة قاتلة!. .
ويتأذن الله أن تمر المحنة القاسية والدارس الرادع، وتنجلي معركة أحد الخالدة وقد نجا النبي العظيم من القتل فسلم للمسلمين بنجاته دينهم، وتمت بذلك للمؤمنين رسالتهم، وكما دينهم، وبلغ الكتاب أجله بعد العظة الرهيبة العميقة التي كان من أعظم آثارها فدائية هذا الإنسان الفذ أبو دجانة. .
قلت لصاحبي وهو يتحدث كالسيل المنهمر وحديثه يفيض من أعماقه؛ حسبك يا صديقي فقد والله بلغت بحديثك هذا من نفسي ومن قلبي أعظم وأروع ما يمكن أن يبلغه أكبر الدروس وأخطر العظات، وما أرى إلا أنك محق في لومك للقائمين على شؤون التعليم والتثقيف والتجنيد أكبر اللوم لنسيانهم تخليد ذكر هذا البطل والمثل الحي الذي يظل حيا مدى الدهور. . .
محمد طلبه رزق