مجلة الرسالة/العدد 912/شبيب بن يزيد
→ العيد الفضي لجامعة فؤاد: | مجلة الرسالة - العدد 912 شبيب بن يزيد [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1950 |
للأستاذ حمدي الحسيني
حج عبد الملك بن مروان بالناس في السنة التي ولى فيها الحجاج العراق وأخمد المهلب حركة الأرازقة، وحج في السنة نفسها صالح بن مسرح وشبيب بن يزيد وغيرهما من خوارج الموصل. فحاول شبيب أن يفتك بعبد الملك بن مروان فكتب عبد الملك إلى الحجاج بالخبر وطلب إليه أن يناهض هؤلاء الخوارج الفتاك. فهب الحجاج سريعاً يطارد القوم مطاردة فيها الشيء الكثير من العنف والشيء الكثير من الاعتداد بالنفس والاستهتار بالخصم. فتململ الخوارج في مخابئهم وتحفزوا للوثوب، وكان صالح بن مسرح الرجل التقي الورع معلمهم ومرشدهم؛ فقال لهم ذات يوم: ما أدري ماذا تنتظرون وحتى متى انتم مقيمون؟ هذا الجور قد فشا وهذا العدل قد عفا ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا عتواً وتباعداً عن الحق وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون فيأتونكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون وإن خرجوا نحن خارجون).
أذاع صالح بن سرح بيانه هذا على أصحابه فكان كالنار أصابت مواد ملتهبة فانفجرت عواطف الخوارج وثارت عزائمهم للنضال وكان أشد الجماعة حماسة وأسرعهم تلبية شبيب بن يزيد؛ فقد أرسل إلى صالح كتاباً يقول فيه أما بعد: - فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك. فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك منا أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم علمتني فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمل أن تخترني المنية ولما أجاهد الظالمين.
فياله غبناً وياله فضلاً متروكاً، جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه والنظر إلى وجهه ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك).
أخذ صالح كتاب شبيب القوي الحازم فصمم على العمل تصميماً قوياً حازماً وبعث إلى شبيب بعزمه وتصميمه واستدعاء بقوله: ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك فأقبل إلينا ثم اخرج بنا ما أحببت فإنك ممن لا يستغني عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور.
نهض شبيب للعمل بذلك الإيمان الراسخ وتلك العزيمة الصادقة والهمة العالية والإرادة القوية فبعث إلى نفر من أصحابه الأبطال المغاوير فجمعهم إليه ثم خرج بهم حتى قدم على صالح أبن مسرح، فلما لقيه قال له: اخرج بنا رحمك الله فو الله ما تزداد السنة إلا دروساً ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً. فبث صالح رسله في أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين للهجرة فاجتمع بعضهم إلى بعض وتهيئوا للخروج وجيوش الحجاج في أعالي العراق بقيادة صالح وما زال القتال يشتد ويعنف بين الفريقين حتى سقط صالح قتيلاً في معركة حامية الوطيس جرت بين الخوارج وجنود الحجاج بالقرب من الموصل.
هذا موقف عسكري دقيق لا ينتج إلا أحد أمرين: أما أن ينهزم هؤلاء المتحمسون بعد مقتل مرشدهم الروحي وقائد هم العسكري صالح بن المسرح؛ وإما أن يقيض الله لهم رجلاً منهم يفرغ في نفوسهم الصبر والاحتمال والشجاعة والتضحية على قتلتهم وكثرة عدوهم فيصمدوا للقتال فينتصروا أو يفنوا عن أخرهم. ليس في الجماعة أحق من شبيب بهذا الأمر فهو المؤمن الصادق والقائد الشجاع وصاحب الرأي الموفق الذي لا يستغني عنه ولا تقضى دونه الأمور. قتل صالح في الميمنة وصرع شبيب عن فرسه بالقرب منه فوقع ولكنه نهض فشد على خصومه شدة قوية حتى انكشفوا فذهب إلى صالح فألفاه قتيلاً. هنا في هذه اللحظة الدقيقة الرهيبة ظهرت عبقرية شبيب وبطولته ولمثل هذه اللحظات الدقيقة الرهيبة يدخر الله العباقرة من عباده. نادى شبيب: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به فقال لهم: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن كل واحد منكم عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل الحصن ونرى رأينا. ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلاً فكان دخولهم هذا نصرا بالنسبة لموقفهم الدقيق أمام جيش الحجاج الجرار. ولكن قائد جيش الحجاج أبى أن يتركهم معتصمين في الحصن بل أمر رجاله أن يحرقوا باب الحصن تمهيداً للفتك بهم فأحرق الباب حتى صار جمراً لا يمكن الخروج منه، فتنبه شبيب للأمر وأمر رجاله أن يتهيئوا لاقتحام النار المشتعلة ومداهمة الجيش المرابط أمام الباب، فتحمس الأبطال لهذه الخطة الخطرة وصمموا على تنفيذها ولكنهم التفتوا إلى شبيب وقالوا له ابسط يديك نبايعك، فبايعوه واقتحموا النار المشتعلة وخرجوا من الحصن فلم يشعر الجند المرابط إلا وشبيب وأصحابه يضربون بالسيوف في جوف الجيش فقتل قائد جيش الحجاج، فاحتمله أصحابه وانهزموا به. فكان هذا الجيش أول جيش من جيوش الحجاج المتعددة التي هزمها البطل شبيب بن يزيد بن نعيم الخارجي. وصلت أخبار الهزيمة إلى الحجاج فأقلقته وأثارت مخاوفه. رأى أن الأمر جد لا هزل فوجه إلى شبيب جيشاً ثانياً ولكن شبيب لجأ هذه المرة إلى الحيلة الحربية البارعة فتظاهر أمام جيش الحجاج بالانسحاب بعد أن أكمن له كميناً فانخدع الجيش ولحق بشبيب غير عالم بالكمين، وما كاد يجتاز الكمين حتى عطف عليه شبيب فاشتبك معه وصاح به الكمين من ورائه فدب الرعب في جيش الحجاج فانهزم شر هزيمة. ظهرت شخصية شبيب الحربية بعد هذه المعركة ظهوراً أوقع الرعب في قلب الحجاج وقلوب رجال جيوشه من جهة، ومهد لاتساع حركة شبيب وزيادة أنصاره من جهة أخرى؛ فراح الحجاج يعبئ الجيوش من فلوله المهزومة ويقذف بها في وجه شبيب فيستقبلها شبيب بما آتاه الله به من أيمان بالنصر وقدرة على القيادة وشجاعة في القتال فيهزمها ويشتت شملها. وظل الحال كذلك: نصر متواصل لشبيب، وخذلان مستمر لجيوش الحجاج، مما شجع شبيباً على طلب الكوفة مقر إمارة الحجاج وقيادته. فعزم شبيب على أن يدخل عرين الأسد فوجه إليه همته وجعل الكوفة هدفاً له يعمل في سبيل الحصول عليه جهده.
تحفز شبيب للوثوب على الكوفة فانخلعت قلوب حماتها والذائدين عنها؛ ولم تلبث الكوفة أن أصبحت تارة في يد الحجاج وتارة أخرى في يد شبيب يتجاذبها البطلان تجاذباً قوياً عنيفاً اضطر الحجاج أن يطلب المدد من الشام ليدفع به شبيباً عن الكوفة دفعاً قوياً حاسماً، فجاء المدد وكانت المعركة الكبرى. جيوش العراق والشام وعلى رأسها الحجاج وخيرة قواده، والخوارج وعلى رأسهم شبيب وصفوة أعوانه. انقض الخوارج على خصومهم انقضاض الصواعق فاستقبلهم خصومهم استقبال الجبال الراسية. وفي هذا الهجوم والدفاع أبدى شبيب ورجاله من ضروب الشجاعة وفنون القتال معجزات باهرات، وأبدى الحجاج وقواده من ضروب الإدارة وأساليب الحزم والسياسة في القتال آيات بينات، ولكن شبيب قد انهزم في هذه المعركة التي لم يهزم قبلها في حياته وكان من أمره أن سقط في النهر فمات غريقاً. قيل كان شبيب ينعى لأمه فيقال لها قتل شبيب فلا تصدق، فلما قيل لها هذه المرة إنه غرق صدقت وقالت إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب من نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. وقيل أنه قد شق بطن شبيب واخرج قلبه فوجده صلباً كأنه قطعة صخر، وكانت تضرب به الأرض فيثب قامة إنسان.
أجل سقط شبيب في النهر فغرق فانطفأت تلك الحياة المشتعلة إيماناً وقوة وشجاعة وجبروتاً، وخبت تلك الروح الكبيرة المتوثبة المنطلقة، وخمدت تلك الحركة الدائمة المتواصلة في سبيل الله وفي خدمة المبدأ ونصرة الحق. رحم الله البطل شبيب بن يزيد بن نعيم سيد الشبيبة وقائدها المحبب ومذيقها المرجب، وأسكن روحه الكبيرة فسيح الجنان وتعمدها بالرحمة والرضوان.
حمدي الحسيني.