مجلة الرسالة/العدد 912/رسالة الفن
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 912 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1950 |
حول نقد مسرحية (ابن جلا)
للأستاذ أنور فتح الله
نشرت الرسالة بالعدد رقم 910 نقداً لي عن مسرحية (ابن جلا) وبالعدد 911 تصدي للتعقيب على هذا النقد الأستاذان إسماعيل رسلان، وعبد الفتاح البارودي. . وقد أختار الأستاذان، أن يتعديا الناحية الموضوعية للنقد إلى التعريض بشخص الناقد، لأسباب لا داعي للتعرض لها، حتى لا أجعل من هذه المجلة التي تحمل رسالة الفن والثقافة ميداناً لشيء من هذا القبيل.
وأحب أن أقول للمعقبين، ولمن يعنيه أمرهما، وأمر فرقة المسرح الحديث إن النقد كما يفهمه المحبون للفن، المخلصون له، لا يعني الهدم. وإن الشخص الذي يضيق بالنقد، ولا يريد أن يفيد منه، قد يكون غير مهيأ بتركيبه السيكولوجي للنجاح الذي ننشده للمسرح المصري في عهده الجديد. . وليس إخفاء النقص بوسائل مفتعلة يعني أن النقص غير موجود، كما أن السعي إلى طلب الثناء بأي ثمن لن يكون وسيلة لإنشاء مسرح صحيح.
وباستعراض آراء المعقبين، نرى أنهما قد التقيا في بعضهما، وتعارضا في البعض الآخر فكان مما التقيا فيه، تفسيرهما للمسرحية التاريخية وحق المؤلف في خلق الشخصيات في المسرحية التاريخية. فبدأ الأستاذ البارودي تعقيبه بعرض طويل لآراء النقاد في المسرحية التاريخية، وانتهى بأن قرر بأن نقاد المسرح قد أجمعوا على أن طبيعة حوادث التاريخ تغاير طبيعة الموضوع المسرحي. وبهذه النتيجة انتهى الأستاذ إلى الرأي الذي استندت أنا إليه، وطبقته على المسرحية. وهو مع هذا يخطئ تطبيقي لهذا الرأي، ولا يحاول أن يبين الأساس الذي استند إليه في هذا الحكم وهما يريان معاً، ألا محل لمؤاخذة المؤلف على خلق شخصية الاهوازية. وأحب أن أقرر أولاً أنه ما دامت هناك شخصية حقيقية تستطيع أن تؤدي نفس الغرض الذي يقصد إليه المؤلف فلا محل لخلق شخصية خيالية. وهذه الشخصية الحقيقية كما سبق أن بينت هي شخصية هند بنت أسماء. ولا محل لاعتراض الأستاذ رسلان بأن هند بنت أسماء لا تحتل من حياة الحجاج سوى سنة واحدة، وكأنه فرض على المؤلف أن يصور حياة الحجاج مدى ربع قرن.
أمّا مطالبتنا بأن تكون شخصية الأهوازية ذات واقع تاريخي. فلا يعني مطلقاً أننا نحرم خلق شخصيات لم يرد ذكرها في التاريخ، وإنما نعني - كما يفهم كل مشتغل بالنقد الفني - أن يصدق خيالنا في خلق الشخصية حتى يجعلها واقعية الصورة، فلا تبدو شاذة في الحياة التاريخية الواقعية التي تعرضها المسرحية. فقد بدت الأهوازية في صورة مغامرة من طراز رعاة البقر، فأهدر المؤلف بذلك حق الحياة العربية في ذلك الزمن الذي لم يشهد هذا النوع من النساء المغامرات. وأهدر أيضاً تصوير الواقع النفسي لشخصية الحجاج فلم تكن الأهوازية في موقفها منه في جميع مشاهد المسرحية، موضوعاً لعاطفة أو وسيلة لتحقيق مطمح من مطمحه العريضة. وقد اقتصر دورها في المسرحية على خلق الحركة بطريقة (بهلوانية). . وعلى نحو ما قصدناه سار برناردشو وأمثاله في خلق الشخصيات المتخيلة في المسرحيات التاريخية. ولعل الأستاذ البارودي قد فهم برناردشو على غير ما يفهمه الناس.
وقد التقى المعقبان أيضاً في فهمهما للصراع المسرحي فقال الأستاذ رسلان إنه يخيل إليه أني أرى أن المسرحية يجب أن تصور الصراع العاطفي. وقال الأستاذ البارودي، إن الصراع لا يكون حتماً بين شخصيتي البطلين. وأسأله أي صراع في هذه المسرحية غير ما بين الأهوازية والحجاج؟. . أما باقي المسرحية فمشاهد لم تصور دراماتيكا ووقف عند حد الحكاية وعرض النتيجة. فهلا كان الأجدر بالمعقب أن يهرب من تقديم مبادئ تسئ إلى المسرحية التي يدافع عنها؟. .
وقد اتفقا أيضاً في الرد على ما أخذته على المسرحية من تكرار في المواقف العاطفية، فاعتبر أحدهما أن ما أعده عيباً هو أسمى ما يصل إليه المؤلف المسرحي من تصوير الشخصية المتماسكة المطردة. وقال المعقب الآخر إن كبار المؤلفين كثيراً ما لجئوا إلى ما يشبه التكرار إما بالمعارضة أو المطابقة. ويؤسفني أن أحتاج إلى القول بأن المعارضة أو المطابقة إنما تأتي للتلوين وعرض جوانب مختلفة من الشخصية. بعكس ما رأيناه من إعطاء اللون الواحد في مواقف متعددة، وهذا هو التكرار الممل.
هذا، ويناقض الأستاذ رسلان نفسه، فيقول إن المؤلف قد أصاب إذ خلق شخصية الأهوازية لتسد الفجوة العاطفية التي أهملها مؤرخو العرب. ثم يعود في موضع آخر فيقول إنه (لو لان الحجاج للأهوازية، وتنكر لطبيعة قلبه الصلد، لأنكرنا من المؤلف صورة مشوهة للحجاج لا تمثل شخصيته التاريخية.). فأية فجوة عاطفية يسترها المؤلف بتصويره للأهوازية ما دام قلب الحجاج سيظل مغلقاً؟. . وما الغرض إذن من تصوير هذه الشخصية؟. . لاشك في أن الدافع الذي ساق الأستاذ إلى هذا التناقض هو الرغبة في المغالطة وتسفيه الرأي. فهو عند دفاعه عن شخصية الأهوازية يرى أنه من حق المؤلف أن يصور حياة الحجاج العاطفية، فإذا ناقشنا الخط العاطفي الذي رسمه المؤلف ومدى فاعليته من المسرحية، عاد فأنكر حق المؤلف في هذا التصوير. وهكذا لم يستطع التمييز بين الحق والباطل.
ولقد استهل الأستاذ رسلان تعقيبه بتوهمه أني أخطأت خطأ كبيراً عندما قلت إن الأهوازية ألقت بنفسها في النهر هاربة. وقد بنى على هذا الخطأ المتوهم نتيجة كبرى، وهي أنني غير جدير بنقد البواعث الخفية للأشخاص الخ. . ولا أحسب الأستاذ جاد في رمي من كتب هذا النقد الذي أفزعه بمثل ما رماني به من عدم الإلمام بأحداث المسرحية.
أما البديهية التي تبرع بها لنا فرجائي إليه أن يحتفظ بها لنفسه، لأنها ليست من بديهيات العصر الذي نعيش فيه. ويستطيع أن يرجع إلى أستاذه في ذلك ليزيده علماً بمثل هذه البديهيات، ويشرح له تطورات المسرحية الحديثة ومقدار فهمها للشخصية الإنسانية.
هذا. . . وأحب أن أقول للأستاذ البارودي، إني قد ذكرت رأيي في التمثيل في حدود التشجيع المرعي لكل مبتدئ في عمله الجديد، وأترك له رأيه في الحكم على مقدرة المشرف على الفرقة التي يعمل داعية لها. وإني أستميحه عذراً في أن أهمس في أذنه لأذكره برأيه الذي أبداه لي في هذه المسرحية في الليلة الأولى من عرضها، وما بدا في رأيه من سخط على المسرحية والممثل وما كنت أعتقد أن الناقد المخلص لفنه ينتقل هكذا سريعاً من طرف لطرف.
وبعد. . . فلست أحب أن أشغل القارئ - ولا أحرج المجلة الوقورة التي نقدت فيها - بالكشف عن الدوافع الشخصية التي أخرجت هذه التعقيبات، كما أتجاوز - كريماً - عن الرد على ما تساقط من أقلام المعقبين مما يدخل في باب المهاترة لا في باب النقد.
أنور فتح الله