مجلة الرسالة/العدد 911/كيف نحتفي بذكرى مولد الرسول؟
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 911 كيف نحتفي بذكرى مولد الرسول؟ [[مؤلف:|]] |
مشكلة جامعية ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1950 |
للأستاذ محمود أبو رية
ماذا أقول في وصف هذا المصلح الأعظم لهذا الكون العظيم؟ إن كبار الأدباء، ومصاقع الخطباء، وفحول الشعراء، ليتولاهم العجز، ويدر كهم الحصر، إذا هم اخذوا في وصف زعيم من الزعماء، أو عظيم من العظماء، على أن يكون هذا العظيم لأمة واحدة، وفي عصر واحد، وفي ناحية من العظمة بخصوصها، أمّا في العلم، أو في الأدب، أو في السياسة، أو في غير ذلك، والأمم كثيرة، والعصور متطاولة، ونواحي العظمة فسيحة مترامية! فما بالكم إذا كان الكلام في عظيم الدهر ومصلح العالم كله، في الدين والأدب والسياسة والأخلاق والفضائل، وما شئت من صفات الكمال البشري.
كنت أود أن أكون شاعراً محلقاً واسع الخيال فأحملكم على أجنحة خيالي إلى عرش البهاء الروحاني لذات الرسول صلوات الله عليه لتستغرقوا فيه لحظة، أو كاتباً بليغاً مرهف الحس فأنقلكم ببلاغتي إلى روض البيان الموشى بالأزاهر والأنوار ليتنفس عليكم هنيهة بالعبق والأريج من صفاته (ص).
كنت أود ذلك ولكن ماذا اصنع وقد بهر في سمو مقامه (ص) فلم استطع أن أقول فيه قولاً يبلغ بي ما أريد، ذلك بان كل قول مهما سما في البلاغة وعلا في البيان، لا يمكن أن يبلغ من وصفه شيئاً. وهل يستطاع وصف من بعثه الله ليكون نور الوجود كله على مد العصور كلها! ذلك الذي قال فيه أستاذنا الإمام محمد عبده فيما وصفه به: (أمي قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون ويقرءون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون، في ناحية من ينابيع العرفان جاء يرشد المعرفة، ناشئ بين الواهمين هب لتقويم عوج الحكماء، غريب في اقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة وأبعدها عن فهم نظام الخليقة، والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع: أصول الشريعة ويخط للسعادة طرقاً لن يهلك سالكها ولن يخلص تاركها).
لما أدركتني الحيرة رأيت أن أرجع إلى غيري ممن هم أصفى مني بياناً، وأقوى على القول سلطاناً، لأستعير منهم ذرواً مما قالوا في هادي الإنسانية كلها. ولا عاب في ذلك ًفالعاطلً تستعير!! فالتمست طلبتي عند البلغاء من المتقدمين والمتأخرين فوجدتهم جميعاً على رائع ما قالوا، وبديع ما وصفوا لم يبلغوا شيئاً من وصف حقيقته، أللهمَّ إلا أبياتاً للبوصيري رحمه الله وها هي ذي:
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساورك في علاك وقد حا ... ل سني منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء
أنت مصباح كل فضل فما تص ... در إلا عن ضوئك الأضواء
وحقاً لقد صدق الشاعر في قوله:
ما كلام الأنام في الشمس إلا ... أنها الشمس ليس فيها كلام
ولما بلغ بي الأمر إلى ذلك استخرت الله في أن أتخطى عصرنا هذا الى العصور الماضية - وبخاصة بعد أن ألفيت أن كل ما يقال في عصرنا متشابه حتى اصبح حديثاً معادا - فأغذذت السير في بيداء الزمن حتى وافيت عصر الصحابة وهم الذين سعدت أبصارهم بشهود حضرته، واستنارت بصائرهم بساطع حجته، ثم عدت مع الزمن الى عصور من أتوا بعدهم من التابعين ومن تبعهم رضوان الله عليهم أجمعين لعلى أقتبس من سني أقوالهم في مولده (صلوات الله عليه) قبساً أنير به هذه الذكرى لتصح المناسبة، وكذلك حاولت أن ابحث عن صنف الحلاوة التي كانت تصنع في أيامهم في ذكرى المولد الكريم. وبعد أن أمعنت في البحث. وبالغت في التنقيب ظهر لي أمر غريب ربما تدهشون له
ذلك أني لم أجد من صحابة النبي وخلفائه الراشدين ولا من التابعين من تبعهم وهم بنص الحديث خير القرون قولاً يقال في حفل يقام لمولده (ص) في شهر ربيع الأول من أي عام!!
ولما استنبأت التاريخ عن أول من أحتفل بمولده (ص) أخبرني أن الذي ابتدع هذا الاحتفال هو السلطان المظفر أبو سعيد صاحب إربل الذي تولى الحكم من سنة 586هـ إلى سنة 630 هـ وبذلك يكون هذا الاحتفال قد أبتدع بعد نحو ستة قرون من مولده (ص) ولأن هذا العمل محدث فقد أختلف فيه شيوخ الدين ولهم آراء كثيرة في الإباحة والمنع لا نتوسع بإيرادها.
لعلكم تعجبون من أن ينقضي عهد الصحابة وفيهم الخلفاء الراشدون ثم يتولى عصر السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بفضله والتنويه بذكره ولا يقام للنبي (ص) احتفال بمولده! ثم يظل الأمر على ذلك قرابة ستمائة سنة حتى يأتي رجل تركماني فيحتفل به ويقوم بعمل لم يعلموه!
ولم يقف الأمر بالصحابة عند ذلك بل رأيناهم قد أهمله غير هذا أمراً عظيماً، ذلك أن النصارى قد جعلوا مولد عيسى عليه السلام مبدأ لتاريخهم ولكن تاريخنا لم يكن من مولده (ص) وإنما جعل من هجرته فهل كانت عناية المسيحيين بنبيهم أشد وأقوى من عنايتنا برسولنا؟
وهناك أمر ثالث عثرنا عليه في بحثنا، ذلك أنه لما انتقل النبي إلى الرفيق الأعلى دفنوه حيث قبض ولم يشيدوا على رفاته قبراً مخصصاً ولا أقاموا على القبر قبة عالية مزخرفة ولا وضعوا عليه أستاراً من حرير أو أقفاصاً من نحاس أو حديد كما يوضع لقبور الأولياء وظل الأمر على ذلك حتى جاء بعض ملوك مصر فأقام عليه قبة وكان ذلك على ما يحدثنا التاريخ سنة 678 هـ أي بعد سبعة قرون من موته (ص).
هذا ما أنبأنا به التاريخ من عمل الصحابة، لا يعنون بتشييد قبره (ص) ولا يحتفلون باليوم الذي بزغت فيه شمس نوره، ولا يؤرخون بيوم مولده! فهل بعد ذلك منهم إهمالا أو تقصيراً في حقه وما يجب له صلوات الله عليه؟؟
كيف كانوا يحتفلون به؟
كلا! وما كان لنا أن نرميهم بالإهمال أو نحكم عليهم بالتقصير فليس في المسلمين أحد على مد التاريخ الإسلامي كله يعرف من قدره (ص) مثل ما يعرف صحابته ولا من جاء بعدهم وإنما كان احتفالهم به (ص) احتفالا أروع من احتفالنا، واحتفاؤهم بذكراه أجل وأوفى من احتفائنا.
إن احتفالنا بمولده الشريف واحتفاءنا بذكراه إنما يكون في كل عام مرة! فينظم الشعراء في وصفه فرائد الشعر، وينسج الخطباء لمدحه برود النثر، وتزين الأماكن بالثريات وترفع عليها الرايات. هذا كل ما نصفه!. ولكن وا أسفاه! لم يكد يفرغ الشعراء والخطباء من قولهم حتى يكون الهواء قد حمل كل ما يقولون فبدده بين أمواجه. وقبل أن نغادر الحفل تطوى الأعلام وتطفأ الأنوار وتحمل المقاعد الى حيث أتت ولا يبقى من كل ما عمل شيء! لا أثر في النفوس! ولا ذكرى في القلوب!
أما هم فقد كان احتفاؤهم به وإجلالهم له يتجلى باهراً لا في كل عام، ولا في كل شهر، ولا في كل يوم، بل في كل لحظة. فهم معه أينما ساروا وكيفما توجهوا، يتبعونه في كل طريق الى الخير، ويستضيئون بنوره في كل عمل صالح.
كيف نحتفي بذكرى مولده (ص)
لقد عرف السلف الصالح من تعاليمه (ص) أن أهم شيء يرضيه هو أن يحملوا رسالته ليؤدوها كما يجب أن تؤدى فجعلوا ول همهم إصلاح نفوسهم وتأديبها بالأدب الإلهي حتى يصبح هذا الأدب ملكة راسخة تعصم صاحبها ثم تعتصم مع غيرها بحبل الله لحمل أعباء الرسالة والقيام بما جاءت به وهي إصلاح المجتمع الإنساني كله، في أخلاقه وآدابه ومعيشته فلا يكون بين الناس إلا أدب القرآن وإلا هدى القرآن، ذلك بأن دين الإسلام ليس دين شخصيات، ولا مبادئه بأقوال وكلمات. وإنما هو دين أخلاق وأعمال.
دعوة الحق
علموا أن المسلم بحكم دينه يجب أن يكون عزيزاً قوياً والعزة لا تكون إلا بقوة وغلبة وشوكة فنهضوا نهضة الأسود يحملون النور في إحدى أيديهم ليشقوا به ظلمت الجهالة ويهدون بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الطريق المستقيم في هذه الحياة، ويحملون السيف في اليد الأخرى لا ليمدوا ولكن ليذودوا به عن حوض الحق حتى لا يعتدي عليه باغ أو ظالم وكانوا لا يهابون شيئاً في جهادهم ليقينهم أن الله ناصرهم - كما قال تعالى (إنما ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) وقال: (ولينصرن الله من ينصره) وقال: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين).
بماذا بلغوا مكان السيادة؟
وعلموا أنهم خلقوا سادة عادلين فكانوا كذلك يراعون الفضائل، من الحق والعدل والأمانة والصدق والرحمة والمحبة والعفة والمواساة والبر والإحسان والوفاء بالعهود والعقود واجتناب الرذائل من الظلم والغدر والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل والرشوة والسحت وغير ذلك مما يطول القول فيه كانوا يعرفون أن شريعتهم عمود الإصلاح وقطب الفلاح ومرقاة السعادة فكانوا لا يفتئون يعملون لرفع شأنها وإعلاء كلمتها، وبذلك كانوا كما وصفهم الله (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وكانوا يستأهلون ما نعتهم الله به في قوله، (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) والشاهد لا بد أن يكون عدلاً صالحاً.
حالنا اليوم!!
هذه كانت حالهم وما كانوا يهتمون به ويعملون له، أما ما عدا ذلك من الأمور العرضية لا تنفع الناس فما كانوا يلتفتون إليها ولا يعنون بها لأنهم كانوا أهل عمل وجد، لا أصحاب كلام باللسان وتصفيق باليد!! - كما هي حالنا اليوم، تلك الحال التي دعت إمام الشعراء شوقي بك رحمه الله إلى أن يناجي رسول الله بقوله في مسلمي هذا العصر:
أدرى رسول الله أن نفوسهم ... ركبت هواها والقلوب هواء
متفككون فما تضم نفوسهم ... ثقة ولا جمع القلوب صفاء
رقدوا وغرهمو نعيم باطل ... ونعيم قوم في القيود بلاء
أقطعتهم غرر البلاد فضيعوا ... وغدوا وهم في أرضهم غرباء
ظلموا شريعتك التي نلنا بها ... ما لم ينل في رومة الفقهاء
وقال كذلك يناجي الرسول (ص):
شعوبك في شرق البلاد وغربها ... كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران - ذكر وسنة ... فما بالهم في حالك الظلمات
وذلك ماضي مجدهم وفخارهم ... فما ضرهم لو يعلمون لآت
وهذا زمان أرضه وسماؤه ... مجال لمقدام كبير حياة
فقل رب وفق في العظائم أمتي ... وزين لها الأفعال والعزمات
كيف يكون التكريم للعظيم؟
إن التعظيم الحقيقي للرسول أو المصلح أو الزعيم إنما يكون بطاعته والنصح له والنهوض بالأعمال التي يقوم بها أمره وكذلك كان تعظيم الصدر الأول لرسولهم، عمل وجهاد ونصح وكفاح. فالذي علينا أن لا نجعل همنا الأول من احتفالنا هو هذه المصابيح التي تنير الحفلات ثم تنطفئ قبل انفضاضها وإلقاء الأقوال التي تذهب في الهواء بعد إلقاءها، ورفع الأعلام التي تطوى قبل انطواء ليلها، وإنما يجب علينا أن نجعل من يوم مولده السعيد في كل عام موسماً لعمل نافع يعود على البلاد بالخير والرفعة والسعادة فتنفتح فيه معاهد للعلم أو مصحات للمرضى أو مصانع للعمل أو مبرات للرحمة، أو ننشر في البر فصائل من الدبابات أو ترسل إلى الجو أسراباً من الطائرات أو ننزل الى البحر أساطيل من المدمرات أو الطرادات أو الغواصات، أو ما إلى ذلك مما يؤدي إلى العزة والقوة ويعلو بالأمم إلى مراقي السؤدد والمجد، وهذا كله وسواه مما يدعو الإسلام أليه ويحث عليه وبذلك نصبح صالحين حقاً لوراثة الأرض واستعمار الدنيا وتحقق فينا قول الله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) والصالحون هنا هم الصالحون لعمارة الأرض وامتلاك ناحيتها.
الإسلام قول وعمل
إن الإسلام قول وعمل، عقائد وعبادات، آداب وكفاح فلا يكفي المسلم أن يظهر إسلامه أو يؤدي فروضه كما تمثل الأمور الروائية ولكن المسلم من أحتمل تكاليف الدين وتكيف بهدايته - على التعبير الجديد - وتربى عنده ملكة دينه تصدر عنها أقواله وأعماله ينظر بها ويسمع بها ويمشي بها، ومن كان كذلك فإنه لا ريب يكون قد هدى إلى الصراط المستقيم وكان مع النبي (ص) في كل حين.
كلمة ختامية
لازلت أجأر بالدعوة فأقول: إن الكلام لا يفيد وإن الإسلام قائم على العمل (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) وهو ما يرضى الله والرسول فانهضوا جادين لتتخذوا مقامكم عزيزاً بين الأمم إن لم يكن فوقها والعزة لله ولرسوله والمؤمنين، وكافحوا حتى تكون كلمة الله هي العليا.
كنت أريد أن تحدث عن علة عدم اتخاذ الصحابة من مولده (ص) مبدأ للتاريخ الإسلامي وكذلك كنت أتمنى أن أبين سبب عدم إقامة قبة لقبر النبي (ص) في الصدر الأول ولكن القول في ذلك يطول. على أني اختم قولي بالضراعة إلى الله سبحانه أن تكون هذه الليلة التي انبثق فيها نور من اصطفاه الله لهداية من في الأرض جميعاً مبدأ لجهاد لنا جديد فيكون كل مسلم جندياً دينياً بآدابه وأخلاقه وأعماله وأحكامه وليكن خلقنا جميعاً (القرآن) - وهدينا الحنيفية السمحة التي تركها لنا النبي بيضاء، ليلها كنهارها ليعود إلينا مجدنا، وينتشر بين أرجاء الأرض نور ديننا ونأتي في مثل هذه الليلة إن شاء الله، ورسول الله (ص) راض عنا مشرف ببهائه علينا.
هذا ما أرجوه وأتمناه، واليقين إنكم وانتم مسلمون حقاً ستلبون دعوتي وتحققون رجائي وأمنيتي، وما رجائي إلا رجاؤكم جميعاً وما أمنيتي إلا أمانيكم جميعاً.
هذه كلمة خالصة صادرة من قلبي فأضرع إلى الله تعالى أن يكتب لها التوفيق والقبول حتى تتخطى هذه المظاهر الزائلة وتنفذ إلى قلوبكم فتمس شغافها ليقدح فيها نور الإيمان الصحيح فتتجلى في أعمالكم الصالحة ومن ثم تبدو الرسالة المحمدية لأمم الأرض جميعاً على وجهها وتظهر في غير خفاء عظمة من أتى بها فيسجدون له سجود الإكبار ويعلمون حقاً إنه صلوات الله عليه مصلح الإنسانية الأعظم وأن ما يقام له من حفلات لم يكن لهواً ولا لعباً وأن ما يقال في وصفه لم يكن منياً ولا كذباً.
هذا ما ابتهل به من الله، والسلام عليكم ورحمة الله
المنصورة
محمود أبو رية