مجلة الرسالة/العدد 911/تاريخ ثوكيديدس
→ بين حافظ وإمام العبد | مجلة الرسالة - العدد 911 تاريخ ثوكيديدس [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1950 |
للأستاذ سيد محمد سيد
ثوكيديدس. . وأعني به ذلك المؤرخ المعروف الذي أرخ لنا الحروب البلوبونيزية التي نشبت بين إسبرطة وأحلافها من جهة وبين الإمبراطورية الأثينية من جهة أخرى وذلك في النصف الثاني من القرن الخامس قبل ميلاد المسيح.
والتاريخ في حد ذاته فن يحتاج إلى عدة عناصر يجب أن تتوافر في المؤرخ، منها مثلا معرفة الحقائق والاستعداد لتسجيلها بأمانة وإخلاص، وكذلك الاستعانة بالخيال - إلى حد ما - لتصوير الشخصيات وإبراز النتائج.
ونحن نعلم تماماً أن المعرفة ليست من السهولة بمكان، كما أنه يصعب التوفيق بين الدراسة العميقة والخيال الخصب، ومع ذلك فقد تجمعت لثوكيديدس من هذه العناصر ما ترفعه إلى مصاف أعظم المؤرخين، وربما كان هذا رأى (ما كولي) المؤرخ المعروف الذي كتب في مذكراته: لقد انتهيت اليوم من قراءة ثوكيديدس وتاريخه بكل شغف وإعجاب، وأستطيع أن أقرر أعظم مؤرخ ظهر إلى اليوم.
ولا أرى بأسا من أن أشير إلى سيرة هذا المؤرخ إشارة وجيزة تمهيداً للكلام عن تاريخه.
ولد ما بين سنتي 47، 46 قبل الميلاد في أثينا ضد الإسبرطيين خلال حروب البلوبونيز، وقد قصَّ علينا في (كتابه الرابع) فشله في هذه المهمة بإيجاز وخشي أن يعود الى وطنه يجر أذيال الخيبة والخسران، فولى وجه شطر بعض الولايات المعادية لا أثينا في البلوبونيز. ثم بدء يكتب تاريخه.
وقد استغرقت الحوادث التي دونها الربع لأخير من القرن الخامس ق. م وعنى بذكر حرب البلوبونيز بصفة خاصة فلم يشر في كتاباته إلى الإمبراطوريات القائمة وقتئذ مثل إمبراطورية الفرس ومصر إلا بقدر ما تؤثر في مجرى الأمور في ولايات الإغريق.
وعلى الرغم من أنه في هذه الفترة من التاريخ القديم عاش فطاحل الأدب والفلسفة والفن أمثال هردود وايسوخلوس وقيدياس واوبربيرس وسقراط فإن ثوكيديدس لم يذكر في كتاباته اسم أحد من هؤلاء كما لم يشر إلى أعمالهم بشيء الآن كل ما وجه إليه عنايته في تاريخ الحروب البلوبونيزية مما جعل البعض يطلق عليه أنه مؤرخ هذه الحروب.
وإن الباحث المدقق في تاريخ هذا الرجل يبدو له لأول وهلة إن كتاباته ليست سوى صورة باهتة جرت بها يد شخص ليست لديه ملكة قياسية، هذا في الوقت الذي اعتبر فيه (ما كولي) أعظم المؤرخين!
ويرى السير رتشردلفنجستون في مقدمته عن تاريخ ثوكيديدس الذي نقله عن اليونانية إنه ليس في الحيات الأدبية لأنه أمة ثلاثة تشابهت أو تساوت عبقريتهم مثل أفلاطون وأر سطو وثوكيديدس في أثينا. . . ويقول أيضاً. . . لقد كنت لدى ثوكيديدس هذه الروح العلمية التي نجدها عند المؤرخين في أيامنا.
وقد شرح لنا ثوكيديدس على صفحات كتبه النظريات عن كيفية التحقق من الروايات التاريخية، وعلى ذلك نستطيع أن نقول - ولا حرج - إنه واضع الأساس لهذا العلم الناشئ. ولنستعرض آرائه إذ يقول (لكي تبحث عن الحقيقة يجب أن لا تعبئ بأول ما يصل المتناول يدك، وعلى المؤرخ أن لا يتنكب الوصول إلى الحقيقة عن طريق أخيلة الشعراء وأساطير الأولين الذين يحاولون اجتذاب القلوب إلى أحاديثهم المشوقة عن طريق التهويل والمبالغة دون العناية بذكر الحقيقة.
ثم يعرج ثوكيديدس إلى الإشارة عن طريق تدوينه الوقائع الحربية فيقول (لا أذكر أني دونت معلومات استقيتها مصادفة، فإني لم أذكر سوى ما رأيته بعين رأسي أو قمت بتحقيقه شخصياً وتضح لي في النهاية أنه وقع فعلاً. ومع ذلك فقد أخطأه التوفيق في الحكم على بعض الحوادث، فالبعض يرى أنه كان متجنباً على الزعيم الديماجوجى (كليون) في الوقت الذي أغرق فيه في مدح الزعيم (بر كابس)، لا بأس! فأين هو المؤرخ الذي يسرد الحوادث التاريخية دون أن يتأثر بالعاطفة والتحيز؟
وقصارى القول،، أن ثوكيديدس كان يفهم تماماً الطريقة الصحيحة لتدوين الحوادث،، وكانت لديه عدة ميزات تعينه على ذلك! حقيقة كانت تنقصه العناصر المتوافرة لدى مؤرخي العصور الحديثة،، فهو لم يذهب إلى المدرسة أو الجامعة ولم يتعلم طرق البحث العلمي الصحيح،، إلا أنه تعلم طريقة الحياة وسط المفكرين الذين تبدو آراؤهم في الانعكاسات السيكولوجية لأحاديثه،، فقد كان يقص الحوادث التي وقعت في زمانه ويصور العواطف والأحاسيس التي أحس بها شخصيا واستطاع بذلك أن يمتاز بأن تصويره للحوادث جاء عن اتصالاته الشخصية بها لا عن طريق المستندات والمدونات. وهو لم يقف حياته متفرجاً بل أندمج بنفسه في كثير من الحوادث وساهم فيها،، فكان سياسيا خدم في الجيش وعمل في الأسطول وتلقى جانباً من الثقافة من اتصالاته بالمفكرين والشعراء في هذه الساعات التي كان يقضيها معهم في مجالسهم حيث كانوا على اتصال دائم بالطبيعة الإنسانية التي اتخذوا منها مادة لكتاباتهم ونضمهم.
وكان لاشتراك بلاده (أثينا) في الحرب ميزة لعلها الفريدة من نوعها لتدوين حوادث هذه الحرب وخاصة بعد أن قضا شطراً من حياته في صفوف العدو وهو يقول في ذلك:
(لقد كان من حسن حضي أن امضي عشرين عاماً في المنفى فوجدت بذلك الفراغ الكافي لأن ارقب الحوادث عن كثب).
هذه العناصر،، عنصر المساهمة في الحوادث والنظر إليها خلال منظار بلاده تارة ومن منظار أعدائه تارة أخرى كانت كافية لأن تجعل منه مؤرخاً منقطع النظير.
وقد أطلق البعض عليه لقب (مؤرخ سياسي) وقد دفعهم إلى ذلك أنه عنا عناية فائقة بمسلك الأمم والرجال في الأمور السياسية،، وإن من يقرأ تاريخه عن الحرب البلوبونيزية يدخل في روعة أنها حروب نشبت بين إمبراطوريات عظام،، وأوضح أنا المؤلف سبب قيام هذه الحرب ويستطيع القارئ الكريم أن يرجع إلى كتابه الذي نقله عن اليونانية أخيراً وتشرد لفنجستون عميد إحدى كليات أكسفورد.
وقد أشار هذا المؤرخ الكبير إلى حقيقتين عن الديمقراطية جديرتين بالتسجيل،، الأولى هي أن الديمقراطية الناجحة في حاجة ماسة إلى زعماء مهرة بارعين إذ أن أثينا لم تحطمها وتودي بها سوى الزعامة الفاسدة. والحقيقة الثانية هي معنى الديمقراطية فهي - كما يرى التي تترك لكل فرد الحرية في أن يعنى بشؤون نفسه بطريقته الخاصة وعلى الأفراد واجب احترام قوانين الولاية وأن يقدموا لها الخدمات بمطلق حريتهم.
وكان الرجل واقعيا في تفكيره لا يجري وراء النظريات المثالية التي نادى بها مفكرون اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح ومنهم أفلاطون الذي قال (إن الدولة قامت لتنشر العدل) بل قال صاحبنا (إن الدولة هي القوة وأنه لا دخل للأمور الأخلاقية في العلاقات السياسية بين الدول وأن على الضعيف دائماً أن يستسلم!) وليست هذه المبادئ صادرة عن ثوكيديدس نفسه بل هي صدرت عن الحقائق،، فإن أفلاطون رأى ما ينبغي أن تكون عليه الدولة في حين صور لنا مؤرخنا حالة الدولة في الواقع.
وهكذا فإننا لا نرى إشارة إلى العدالة أو الرحمة في تاريخه،، فقد عبر عن آراء الزعماء والقادة. وهذا صاحبه برك ليس يقول (عليك أن تذكر أن عظمة بلادك ترجع إلى أنها كرست حياتها للحرب،، ولو سرت عليها سنة التطور وأخذت في الانهيار فيكفي أنها حكمت أكبر عدد من الولايات لم تحكمه دولة أخرى).
وقد يبدو لنا تاريخ ثوكيديدس لأول وهلة سرداً للوقائع لعبور دراماتيكية مملة دون أن نشارك الفريقين المتحاربين عواطفه؛ بيد أن (فرديث) يقول: كما تبدو فكرة المواطن الصالح في (كوميديات اريستوفان) تظهر الروح الوطنية في تاريخ ثوكيديدس فهو لم يغرم بشيء قدر غرامه بأثينا) كان صاحبنا ينظر نظرة خاصة إلى الوطنية فلا يكتفي بأن يكرس الفرد جهوده لوطنه بل عليه أن يعشقه عشقاً!
وقد تحدث ثوكيديدس في تاريخه عن أثر الحرب في الأخلاق فقال: (إن المبادئ السامية تؤثر على الدول والأفراد في وقت السلم تأثيرا لا شك في أنه يبعدهم عن حقيقتهم بينما تستطيع الحرب أن تظهر الأخلاق على حقيقتها).
وقد تأثر في كتابه بالطريقة التي ابتدعها (جور جياس) السفسطائي المعروف فلم يستطيع أسلوبه أن يبلغ قيمة أساليب كتاب الجيل الذين أتوا من بعده أمثال ليسياس وديمو ستنيس،، بل لقد بلغ الأمر أن غلق على شيشرون (كيكرو) فهم بعض تعبيراته أحيانا.
وقد دون ثوكيديدس مأساة من أروع مآسي التاريخ القديم وهي انهيار أمة بأسرها وأعني بذلك (أثينا) التي عاصرها وهي في أوج عظمتها تحت قيادة قائدها العظيم نركليس،، ثم رآها وقد أمسك بزمامها قواد أوردوها موارد الهلاك تحت ستار من الديمقراطية المتطرفة (الديماجوجية)، هذا إلى أن قضى عشرين عاماً في المنفى وسط أعداء بلاده. ولعل السر في عظمة تاريخه هو أنه كان يدون مأساة حياته في الوقت الذي دون فيه مأساة أثينا.
محمد سيد محمد