مجلة الرسالة/العدد 911/الخمر بين الطب والإسلام
→ مشكلة جامعية | مجلة الرسالة - العدد 911 الخمر بين الطب والإسلام [[مؤلف:|]] |
نفسية الشعب المصري من أمثاله ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1950 |
للدكتور حامد الغوابى
يقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل انتم منّهون) صدق الله العظيم.
ما هي الخمر؟ هي كل شراب يغطي العقل ويضع عليه ستراً فيجعله لا يدرك حقائق الأمور ولا تستضيء بصيرته بنوره، أي أن كل ما أسكر فهو خمر وهو حرام.
وقد سمي الشراب المخصوص خمراً لأنه كالخمار في تغطية المحاسن وسترها، فمتعاطيها قد طبع الله على بصيرته وختم على قلبه فلا يدرك المحاسن، ولا يعرف المضار والمساوئ، ويعمى عن رؤية ما يحيط به من الأشياء، إذ أنها تسلب العقل وهو النعمة الكبرى من الله تعالى لعبده، والناس قبل الإسلام كانوا على تناول الخمر كفين، فلو أمرهم الله بتركها بادئ ذي بدء فقد يكون ذلك باعثاً لكثير منهم على الإعراض عن الإسلام ونبذه، فقد أختلط حبها بقلوبهم اختلاط الدم بجسمهم، لذلك لم يفاجئهم بالتحريم فأنزل الله تعالى على نبيه ﷺ (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) فترك الخمر قوم ولم يزل يعاقرها آخرون
ثم نزل بعد ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فتركها الجميع عند الصلاة.
ولما قوي الإسلام في نفوسهم، وزالت أسباب تناول الخمر، وأزداد اليقين والحرص على الطاعة بين الله لهم حكمه بياناً شافياً فقال (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) فاجتنبوه اجتناباً تاماً في الصلاة وفي غيرها.
نرى من ذلك كيف تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر خطوة خطوة، حتى لا يكون في تحريمها على مدمنيها عنت ومشقة، هذا وإن في هذا التدرج لحكمة طبية أخرى، يعلمها الخبير اللطيف بعباده، فإن منع الخمر عن مدمنيها مرة واحدة يسبب مرضاً خطيراً، هو هذاء السكارى، فتراه يصبح ضائق الصدر، قلق النفس، لا يطمئن جنبه إلى مضجع، وقد استعصت على الكرى جفونه، ترتجف منه اليدان، ويتلعثم اللسان، ويزداد نبضه، ويضطرب قلبه، وتذوى نضرته، ثم يصاب بتخيلات وأوهام، فتراه كمن يتلمس شيئاً، أو يتوجس صوتاً، فتارة يتخيل عدوا أمامه مهاجماً، وطور يتخيل سماع أصوات مزعجات مما يؤثر ذلك على عقله ويشوش فكره، فيعتريه مس من الخيال وقد يجري من أمام هذه المرئيات، أو يفر من سماع هذه الأصوات، وقد يقفز بنفسه من شباك، ثم تزداد بعد ذلك حالته سوءاً وضعفاً حتى تنتهي بإغماء وموت. فالله الرحيم بعباده لم يشأ يعرضهم لهذا الخطر، فأنتقل معهم من دور الى دور
علاج رباني حكيم، وقى الناس شر هذه السموم
والآن نتكلم عن الخمر من الوجهة الطبية.
أولا: تأثير الخمر في الجهاز الهضمي، بملامسة الخمر لسطح الفم، تهيج إفراز عدد اللعاب ويزيد ذلك من إفراز عصير المعدة مثل تأثير الطعام إذ لامس اللسان. ولكن هناك فارقاً كبيراً بين تأثير الطعام وتأثير الخمر، فالخمر تزيد في تدفق العصير ولا تؤثر في إفراز خميرته التي تساعد على الهضم، وهذا العصير الناشئ من تأثير الخمر يعجز عن تحليل المواد الزلالية وهضمها كما أنه يسبب تهيجاً للمعدة.
ثانياً: تأثيرها في الجهاز الدموي: تزيد الخمر من سرعة النبض وتسبب اتساع أوعية الدم السطحية، وهذا يفسر لنا سبب احمرار وجزه متعاطي الخمر، فليس هذا الاحمرار إذاً علامة للصحة ولا دليلاً على قوة، إن هو إلا دم اتسعت أوعيته الخارجية فوضح، في حين إن الأوعية الداخلية انقبضت، أي أن مقدار الدم في الجسم واحد لم يتغير ثم أن الخمر تسبب ارتفاعاً في ضغط الدم وبذلك تعرض مرتفعي الضغط للخطر.
ثالثاً: الخمر والجهاز العصبي: إن أكبر تأثير للخمر في الجهاز العصبي، فليس غريبا عنا من نشاهدهم في الطرقات وقد غاض عنهم ماء الحياة، وحلوا عقد التحفظ، فأصبحوا لا يستطيعون كبح جماحهم، فهم يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال، يرسلون كلامهم على عواهنه دون وجل.
فالخمر تأثيرها تخميل وإرداء للأعصاب، وما الأعراض السابقة التي نشهدها فيمن يشرب فيهرف بما لا يعرف، إن هو إلا تخميل للمراكز المسكنة، فالتخميل يبدأ في مراكز المخ بحسب نموها، فهو يبدأ في المراكز التي تنمو أخيراً وهذه هي مراكز التحكيم والحس.
هذا هو تأثير الخمر في خلايا الأعصاب، تتلفها ثم ترديها فيصاب المدمنون بالشلل ثم عدم التمييز فالجنون.
رابعاً: تأثير الخمر في حرارة الجسم: قد ثبت طبياً أن كأساً من الخمر إلى ثلاث كؤوس تسبب انخفاضاً في درجة حرارة الجسم بمقدار نصف درجة سنتراد تقريباً، وذلك سببه اتساع أوعية الدم السطحية التي تكلمنا عليها، وعلى ذلك تزيد في تشمع الحرارة فينشأ عن ذلك فقد حرارة من الجسم أكثر - وهذا الفقد للحرارة ضار بالإنسان، فكم من سكير شرب الخمر ثم خرج في البرد فأصابته النزلات الشعبية وغيرها من الأمراض.
خامساً: تأثير الخمر في الكبد: الخمر تتلف الكبد وتسبب خموداً في نسيجها وفي خلاياها، ويزيد بها مقدار النسيج الضام الوتري حتى لقد سمى الطب مرضاً خاصاً بالخمر من تأثيرها في الكبد، وإذا مرضت الكبد نعرض الإنسان لأمراض أخرى.
سادساً: مقاومة الجسم المرض: أثبت الطب أن الأشخاص الذين يتعاطون الخمر أكثر استعداداً للمرض، وأقل مقاومة له من الذين لا يتعاطونها، وكذلك يكون أقل تحملاً لأن تجرى في أجسادهم العمليات، وإذا اطلعتم علة إحصائيات شركات التأمين على الحياة وجدتم أن استعمال الخمر ولو بمقدار متوسط يقصر الحياة.
سابعاً: الخمر والحوادث: كثيراً ما تحدث الحوادث تحت تأثير الخمر كحوادث السيارات وغيرها فنقرأ في الجرائد مثلاً أن سائق سيارة كان ثملا فأودى بحياة انفس بريئة.
وقد ثبت من الإحصائيات أن أكثر من 13 % من الحوادث سببها الخمر.
(ثامناً) الخمر والفقر: شارب الخمر إذا أنفق أتلف وإن سخا إسراف.
وما احسن قول الشاعر
لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً ... لسالبة مالي ومذهبة عقلي
وقد وجد أن 25 في المائة من الذين يتكففون في الطرقات ويستجدون كانوا للخمر يشربون.
(تاسعاً) الخمر والأخلاق: الخمر أس الشر، فتعود الموبقات وتزين للمرء السيئات، قال أحد العرب ذات يوم لرجل جالس يشرب الخمر. (ما تصنع الخمر؟) قال (أنها تهضم طعامي) فقال له (أنها تهضم من دينك وعقلك، أكثر مما تهضم من أكلك.
وحقاً كلما زاد الشارب الخمر شرباً زاده الله رعالا وحمقا، فتجده أصبح نزق القطاه، خفيف الحصاة، يخاصم في صغار الأمور، وينساق بلا ترو، وقد عميت عن الخير عيناه، وقد صمت عن الفضيلة أذناه، فيقدم على أية جريمة دون وازع يزع أو عقل يزن.
(عاشراً) الخمر والنسل: ينشأ أولاد السكيرين ممتلئ الأجسام، ناقصي العقول، ذوي ميول إلى الأجرام ودافع إلى الشر وتهافت على الخطيئة.
وإن ولد جنين ولم تجهضه أمه أثناء حملها فإن الخمر سبب من أسباب الإجهاض، نزل معرضاً للتشوهات الخلقية فضلاً عن العاهات الخلقية التي تنتقل إليه من نطفة أبيه (كما سبق أن ذكرنا في مقالنا عن الإرث التناسلي).
هذا وان الخمر ليست دواء كما كان الاعتقاد الشائع عنها بأن الكحول به تأثير تنبيهي على القلب، فإن الكحول لم يصل إلى مرتبة الأدوية المنبهة كالا ستركنين وغيرها.
قد يعترض على معترض قائلاً إن الله سبحانه ليقول (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعها).
أي أن الله قال فيهما منافع للناس فما هذه المنافع ومن هم هؤلاء الناس؟ إن الله سبحانه وتعالى لم يقل منافع للشاربين واللاعبين، إذإنه لا مراء أن الشارب يذهب منه دينه ويذوي منه عقله وتنقضي ثروته وتفنى صحته، ولكن المنافع هي منافع مادية لتكون غيره من تجار الخمر وصاحب الخان والخدم والأعوان.
وقد أردف الله تعالى قوله (وإثمهما أكبر من نفعهما) لأن أثمهما عظيم فهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقعان العداوة والبغضاء بين الإخوان والأصدقاء كما هو مشاهد في مجتمعات الخمور ونوادي القمار.
وذكر الله تعالى هو مادة حياة النفوس وهو ترياق المؤمنين وأنس المنقطعين وبساط المؤمنين فيه جلاء البصائر الكليلة وشفاء الصدور العليلة، يفتح إغلاق القلوب ويذهب وقر الأسماع وذكر الله أصله صفاء وفرعه وفاء وشرطه اتصال وبساطه عمل صالح وثمرته فتح مبين فهو يقرب المرء من ربه فتفيض عليه الأنوار والمنح الإلهية وما اجلها من منح
والصلاة عماد الدين وسراج المؤمنين وأصل القربات وعزة الطاعات فهي تجلو القلوب وتهذب النفوس وتنمي فيها شجرة الإيمان وما أرسخها من شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء.
فنرى أن الذكر والصلاة هما سبب القرب من الله عز وجل وتجليه على عبده بالمنح والخيرات فكفى بالخمر شراً أنها تمنع عن شاربها الخير الإلهي وتسبب له غضب ربه
يقول الرسول ﷺ (الخمر مفتاح كل شر وإن خطيئتها تعلو كل الخطايا كما أن شجرتها تعلو كل الشجر) وحقاً ما كان مفتاحاً للشر كله كان مغلقا للخير كله
الخمر منظار مكبر، يكبر المحسوس في النفوس، ويجسم الأخيلة للعيون، وهي سم تودي بجؤجؤ العقول، وتسم شاربها بميسم العار والهون، فإن سرته يوماً ففي أعقابها ترحه، وإن تبسمت لآلئُ ثغره حيناً أدمى شفته ندماً أحايين، فهي لذة ممزوجة بألم، وشرب مخلوط بسم، ما شربه أحد وهو اثبت الجمة ريان من الصحة والقوة إلا تركها أو تركته وهو مخدد الوجه متداع الجسم، عميد الوسادة، قد استعز به الداء، كم غني أذهبت الخمر غناه، وكم من صحيح الجسم هدت من قواه.
أفترضون أن يقود لكم طائرة تعتلونها أو سيارة تركبونها مخمور، أترضون أن يجري لأحدكم عملية جراحية طبيب مدمن خمور؟ أتريدون أن تسلموا فتياتكم وأولادكم لمعلم سوار أو سكير، كم رجل كان له في يومه خمر، فأصبح له في غده أمر وأي أمر، إنها الورد الآسن والغذاء العفن - كم ترنح منها شارب فضل، وكم تمايح بها سكير فزل!
أرأيتم إلى الدين كيف عالج مدمني الخمور ونقلهم من ثورة الإدمان إلى ساحة الأيمان، وكيف نهى الإسلام عن الخمور لما فيها من أضرار وشرور، وهاهو الطب حلى لكم أخبارها وبين لكم أضرارها.
سبحانك اللهم إنك ما نهيت عن شيء إلا وفيه ضرر محقق وبلاء عظيم وذلك رحمة منك بالمصلين فإصرفنا عن مذاهب الشهوات وأرشدنا في غياهب الشبهات، وأملأ نفوسنا تقوى واستقامة، وجهنا الى الخير والسلامة
حامد الغوابي
طبيب أول مستشفى رعاية الأطفال بالجيزة