الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 910/الأدب والفن في أسبوُع

مجلة الرسالة/العدد 910/الأدب والفن في أسبوُع

مجلة الرسالة - العدد 910
الأدب والفن في أسبوُع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 11 - 12 - 1950


للأستاذ عباس حضر

مسرح المجتمع

كتاب جديد للأستاذ توفيق الحكيم، وهو كتاب ضخم يضم بين دفتيه إحدى وعشرين قصة تمثيلية عصرية. والمؤلف يتجه في هذه القصص إلى تصوير نواح وأنماط مختلفة من المجتمع المصري، ويعني عناية خاصة بما جد في هذا المجتمع في السنوات الأخيرة من تيارات واتجاهات وشخصيات كانت نتيجة للهزات الاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

ولذلك جاء الكتاب متحفا لحياتنا الحاضرة، جمع كثيرا من الأشكال والألوان، فبدت في مرآة المؤلف الفنان، فنا حيا يمتع ويستهوي ومن أبرز ما يحتويه هذا (المتحف) صور الأداة الحكومية وما يجري في مكاتب الوزراء وكبار الموظفين من النفاق ووسائل الوصولية، كما في قصة (بين يوم وليلة) التي تعطينا نموذجا لمدير مكتب الوزير، نراه متكرراً ملموسا في واقعنا، من أولئك الذين بزوا الحرباء في التلون؛ ومن محتويات (المتحف) صور للحياة النسوية في عراكها وتطلعها إلى أوضاع جديدة، وقد أعجبتني قصة (أريد هذا الرجل) التي جعل فيها الفتاة تذهب إلى الشاب لتخطبه. وهي صورة في غاية الطرافة والظرف، وأبدع ما فيها منطق الفتاة وهي تبرر مسلكها، إذ تقول لصاحبتها إنها لا ترى غضاضة في أن تسمع ممن تخطبه كلمة (لا) ما دامت هي صاحبة الإرادة الأولى.

(. . . ولكن الغضاضة عندي هي أن أشعر بأني حبيسة ذلك الوهم الذي نسجته الأجيال عن ضعفنا وحياتنا وعجزنا عن مجابهة الحقائق وتحمل النتائج، وأني سجينة ذلك البهتان والكذب والسخف الذي ألبسنا إياه خيال الرجال فجعل منا مخلوقات أشبه بعرائس المولد، أجسامها من حلوى وأثوابها من ورق مفضض مذهب، لا تتحرك إلا بيد الرجل، ولا تتحمل أكثر من لمس أصابعه. لا يا درية. . آن الأوان أن تكون لنا إرادة نصدم بها إرادة الرجل. . وأن نجرؤ على أن نتقدم إليه ونعرض عليه، ونرغمه على أن يجيبنا بكلمة (نعم) أو (لا) كأنه عذراء، وأن نمتع عيوننا بمنظره وقد علت وجهه حمرة الحياء!) وهو منطق سليم جدا، لا يملك العقل إلا أن يسلم به كما سلم الشاب (المخطوب) وأجاب بنعم. .

وفي (متحف الحكيم) صور أخرى متنوعة معجبة، ومما يسترعي الانتباه عنايته بتحليل النفس الإنسانية والتعمق في أغوارها، ومن أمثلة ذلك قصة (أريد أن أقتل) التي عرض فيها زوجين يتبادلان عبارات المحبة التي تبلغ إلى حد أن يتمنى كل منهما أن يجعل الله يومه قبل يوم الآخر! وهي عاطفة، مهما صدقت، لن تجاوز الشعور الظاهر، ولكنه يظل سائرا بهما حتى يقفهما أمام القتل الذي لا بد منه لأحدهما، فيبرز ما استكن في الأعماق من إيثار النفس، وإذا كل منهما يود أن يقدم الآخر فداء له. . وفي القصة أيضا لمحة بارعة إلى ما أحدثه الكبت في نفس الفتاة التي أرادت أن تقتل أي الزوجين، من اضطراب عصبي وقلق نفسي.

ومما يسترعي الانتباه أيضا في (متحف الحكيم) تصويره للمرأة تصويرا كريما لا يتفق مع ما وصف به من أنه عدو المرأة، فقد أتى لها بنماذج طيبة كتلك الفتاة العصرية المفكرة الواعية التي خطبت فتاها، ومثل (النائبة المحترمة) التي صور متاعبها في (الحياة النيابية) تصويرا جديا وانتهى بها إلى موقف مشرف كريم عندما اضطرت إلى الاستقالة من عضوية البرلمان. ولا شك أن عدو المرأة هو الذي يريد لها المتاعب، وها نحن نرى الأستاذ الحكيم على عكس ذلك، فما أحراه أن يكون (صديق المرأة).

والأستاذ الفنان يجنح في هذا (المتحف) إلى (التجسيم) تجسيم المحاسن والمقابح وعرض النماذج البشرية كما هي، مع نظراته في الحياة التي يلقيها على ألسنة أشخاصه، ولكنه يترك لك الحكم واستخلاص الحقائق، حتى السخرية لا يمعن فيها لأنه يكتفي بإبراز السمات ويدعك وشأنك معها. وهو يعنى بأن يقدم إليك طريفا يمتع نفسك أكثر مما يعمل على اجتذاب مشاركتك الشعورية في الجو الذي يصوره.

وبراعة الأستاذ توفيق الحكيم في الحوار مقررة معروفة وأساس هذه البراعة حرصه على الواقعية، بحيث ينطق الأشخاص بما يمكن أن يقولوه في الطبيعة والواقع، ويجري على الألسنة العبارات الحية التي تأتي حيويتها من التقريب بين اللغة الفصيحة واللغة الدارجة، بحيث يرفع من الثانية إلى الأولى. هذا وقد لاحظت خروجا عن واقعية الحوار في موضعين، الأول في ختام قصة (بين يوم وليلة) إذ جعل خاطب بنت الوزير وهو في موقف التملق لمدير مكتب الوزير لشدة حاجته إلى معاونته جعله يقول له: (إن صاحب السلطة بسهولة يصدق الملق. . وبسرعة ينسى النفاق) فهو يصفه بأنه يتملق ونافق في الوقت الذي يعمل فيه على كسب رضائه ونيل مساعدته. وعلى ذلك يظهر لنا القائل الحقيقي وهو المؤلف الذي يريد التعبير عن هذه الحقيقة فلم يجد لها غير ذلك الذي لا تناسبه في موقفه. والموطن الثاني في حديث الفتاة التي خطبت الرجل، عندما شبهت المرأة في انتظار من يخطبها بالطائر (يخطر على أعشاب المروج في انتظار يد القانص الذي قد يأتي وقد لا يأتي. .) ولا شك أن الطائر لا ينتظر الصائد، وإنما هذا يفاجئه، بخلاف المرأة التي تنتظر متمنية.

وبعد فإنني أحيي الأستاذ الحكيم أطيب التحية، وأعرب عن إعجابي باتجاهه نحو المجتمع واستجابته لدواعيه، بهذه المجموعة من التمثيليات الحية النابضة.

وقد كان الأستاذ - في أكثر إنتاجه الماضي - يتجه إلى الأفكار المجردة العاجية. ولكنه شعر في الفترة الأخيرة بنداء المجتمع فلباه، وما أحسن ما فعل! وأنا - مكرها على هذه (الأنا) لأتحمل تبعة ما أقول - أعتقد أن من يمشي على الأرض ساعيا مع الناس في حركة ونشاط، خير وأسمى ممن يحلق مع الغربان في أجواز الفضاء. . .

مسرحية (البخيل)

هذه هي الرواية الثانية لفرقة المسرح المصري الحديث، قدمتها في الأسبوع الماضي على مسرح الأوبرا الملكية. وهي للكاتب الفرنسي موليير، وكان، قد ترجمها المرحوم محمد مسعود بك.

السيد (هارباجون) رجل بخيل، بل هو البخل مجسما في شخصه، لا يرى في الحياة ما يستحق العناية غير المال، لا يقيم لغيرة وزنا. يقتر على نفسه وعلى ولديه (كليانت) و (إيليز) أشد التقتير، ويقرض المال بالربا الفاحش، ويفرض على المقترض شروطا قاسية، ويصفه أحد أشخاص المسرحية بأنه إذا سلم قال (إني أقرضك السلام) ولا يقول (أهدي إليك السلام) لأن الإهداء أبعد شيء عن حياته، وهو يضن أن يجري على لسانه!

وهارباجون في الستين من عمره فقد زوجته أم ولديه، ويأبى مع ذلك إلا أن يتزوج فتاة في سن ابنته (إيليز) هي (ماريان) التي يحبها ابنه (كليانت) ويدور الصراع بين الأب المتصابي والابن العاشق على ماريان، يريد كل منهما أن يتركها له الآخر.

ويصاحب ذلك علاقة حب أخرى بين (إيليز) ووكيل أبيها الفتى (فالير) في الوقت الذي يريد فيه هارباجون أن يزوج ابنته إيلز من رجل غني مسن.

وأخيرا يدبر كليانت مكيدة لأبيه إذ يسرق الصندوق الذي جمع فيه ماله. فيجزع هارباجون لفقد ماله، ويطالب المحققين بنصب المشانق للسارقين، فإذا لم يعثر على السارق طالب بالقبض على الناس أجمعين!

ويتهم فالير بالسرقة، فيدور بينه وبين هارباجون حوار ظريف بديع، إذ يقر الأول بالسرقة وهو يعني سرقة إليز التي اتفق معها على الزواج، ويحمل هارباجون الكلام على المال. ثم يظهر كليانت ويعترف بالسرقة ويبدي استعداده لإعادة الصندوق إذا تنازل له أبوه عن ماريان، فلا يتردد الرجل في إجابة هذا الطلب ما دام سيرد إليه ماله الذي هو كل شيء لديه.

ذلك ملخص مسرحية (البخيل) وهي تقوم على تحليل هذه الشخصية العجيبة، ورسم صورة البخيل كما هي في كل زمان وفي كل مكان، يتجه كل شيء في الرواية إلى إلقاء الضوء عليها، لتظهر سماتها وخصائصها، فإذا أنت أمام شخصية تعرف لها في الحياة أشباها، وإذا أنت تشارك المؤلف نظرته إليها وسخريته بما يجري منها وحولها، وإذا أنت إزاء مفارقات تغرق في ضحك لا يبعثه تدبير ولا قصد، لأن روح الدعابة يجري في الحوار وفي المواقف طبيعيا منسابا في جسم الرواية من أولها إلى آخرها.

والحوار مسوق في أسلوب أدبي، وهو يميل في أول المسرحية إلى التطويل في الحوار بقصد التعريف بالأشخاص أو الإنباء بالحوادث وتشيع فيه كلمات كثيرة عن الشرف والحب البريء والفضيلة وما إليها مما هو أدنى إلى الطريقة المباشرة في إلقاء الدروس. .

وقد أخرج المسرحية الأستاذ زكي طليمات، وأهم شيء يظهر به جهده في الإخراج، إسناد الأدوار إلى الممثلين والممثلات، وتحريك المجموعة كلها في اتجاه معبر عن جو الرواية، ويعجبني من الأستاذ زكي طليمات أنه يجعل كل فرد على المسرح جزءاً حيا من الحياة التي تجري فوقه، إذ يظهر الظلال والأصداء على سمات الواقفين الساكتين كأنهم ينطقون مع الناطقين. على أنني لا أدري لم ظهرت إليز وفالير في أول الرواية على مؤخرة المسرح، وكنت أوثر أن يتقدما نحو الجمهور. وقد رأينا النور يسطع فجأة عندما دخل كليانت معلنا أنه السارق، ويبدو أن ذلك مقصود به ظهور الحقيقة الساطعة بعد الظلام الذي كان يجري فيه التحقيق، فهو تعبير بالضوء، ولكن مع ملاحظة هذا الهدف المعنوي شعرت بالانتقال المادي المفاجئ من الظلام إلى النور، وهو انتقال يوغل في البعد عن الواقعية.

وقد مثل دور البخيل سعيد أبو بكر فأجاد فيه إلى حد بعيد، حتى ليخيل إلى أنه لم يخلق إلا ليكون هارباجون البخيل، ويليه في الإجادة صلاح سرحان في دور فاليرا، فقد كان موفقا في تمثيل المداهن اللبق الذي يستجلب الرضى بنفاقه وفي الوقت نفسه يصل إلى ما يريد. وقد برحت نعيمة وصفي في دور (فروزين) المرأة الناعمة التي أرادت خداع البخيل عن شيء من ماله، وقد كان حريا أن ينخدع لما بذلته معه، ولكنه البخيل. .

وكان عدلي كاسب خفيف الظل. وقامت كل من زهرة العلى وانشراح الألفي بدوريهما في توفيق، غير أن الأولى تحتاج إلى مران في إشباع النطق العربي الفصيح.

حول مشكلة القراءة:

تلقيت من الأستاذ عبد الخالق الشهاوي، رسالة يعقب فيها على ما أثير على صفحات (الرسالة) حول مشكلة القراءة. فيما يلي أهم ما يقوله.

(ليس بي حاجة إلى أن أقرر أن 90 في المائة من طلبة جامعاتنا على أقل تقدير - يهتمون - إلى أبعد حدود الاهتمام - بالزي وبالسينما، وبقراءة المجلات الرخيصة التي لا تحمل حتى قشور الثقافة، بل إن بعض الطلاب - ولا أقول الطالبات - يتابعون أحدث تطورات الأزياء! فإذا بقى للعلم متسع من وقت شبابنا (الحي) فإنما هي أيام قبيل الامتحان (يحفظ) فيها ما يخف حمله ويغلو ثمنه. . وإذا هو بعد سنوات في المجتمع المسكين ينشئ جيلا أو يدير عملا خاصا أو عاما. .

(وتعود أصول هذه المأساة أولا إلى الأيام الأولى في البيت المصري المريض، وثانيا إلى النقص الكبير الذي نعانيه في تنظيم برامج التعليم في جميع مراحله، وثالثا إلى الأساتذة والقائمين على تكوين العقل المصري. . فالجامعيون منهم ليس لهم من الجامعية سوى الاسم، أما في المدرجات فالمتبع هو الطريقة المدرسية (المتحفية) التي تسير بالجيل إلى ما رسمه (دانلوب) من أساليب تعليم لا يكون متعلمين، وإنما يوجد موظفين يقطعون الوقت بالحديث عن العلاوات وتعمير المقاهي ودور السينما. وهكذا نسير في دائرة مفرغة: طلبة لا يعرفون واجباتهم يتخرجون لواجهوا جيلا يسير إلى مصيرهم التافه. .

(فالمشكلة ليست مشكلة مال، وإني لأخجل حين أرى مكتبة الجامعة والمكاتب العامة تصفر صفير المقابر. . فليست الأزمة اقتصادية ولا هي أزمة في التأليف، فمكاتبنا بحمد الله تشكو التخمة وعدم التصريف. . وإنما هي في صميمها (أزمة سياسية) وإليك الدليل:

(كلنا يحفظ تلك الكلمة الخالدة (الشعب الجاهل أسلس قيادا من الشعب المتعلم) وكلنا يعلم أن التعليم ثورة خفية وقوة كامنة رهيبة. . . هو النور الذي يخشاه خفاش الاستعمار، فالاستعمار الذي رسم طريق التعليم الجاف العقيم)

وأنا أوافق الأستاذ الشهاوي على مدخل (السياسة) في الموضوع، فنحن لا نزال نسير في تعليمنا على تلك الأسس التي أريدت لنا، وذلك بدافع (القصور الذاتي) وبدافع العقليات التي كونها التعليم الاستعماري ولا تزال تشارك في توجيه التعليم.

وقد مر الأستاذ عابرا بمسألة (البيت المصري) باعتباره جذرا من جذور مشكلة القراءة المتشعبة المتغلغلة، فالناشئ عندنا يشب - غالبا - في بيت ليس فيه للكتاب مكان وأذكر أني شاهدت معرضا لكتب الأطفال أقيم في القاهرة من نحو سنتين، كان يحتوي على كتب بلغات أجنبية وأخرى باللغة العربية، فرأيت هناك عددا كبيرا من الأجنبيات يفحصن ويتأملن الكتب المعروضة بعناية وانتباه، كي يخترن لأولادهن ما يغريهم بالقراءة ويجدي على عقولهم، ولم أر في المعرض مصرية واحدة. . . وهذا طبيعي، لأن الأم المصرية نفسها لا تقرأ، فما الذي يحفزها على طلب ما يقرأ لأولادها؟

عباس خضر