مجلة الرسالة/العدد 909/رسالة الفن
→ الأدب والفن في أسبوع | مجلة الرسالة - العدد 909 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 04 - 12 - 1950 |
مسرحية ابن جلا
نقد وتحليل
للأستاذ حبيب الزحلاوي
خطوة جريئة يخطوها الأستاذ الكبير محمود بك تيمور في بناء الرواية التمثيلية، والخطوة هذه على ما فيها من جرأة تدل على روح فنان دؤوب ونفس ثائرة لا يرحمها المشي في طريق مسلوك، بل هي تواقة إلى تعبيد طريق جديد يجد السائر فيه كل ما يبهج ويفرح
أسميت عمل الصديق تيمور خطوة جريئة ولم أسمها متمردة، لأن محافظا مثله يتشدد في المحافظة على سلوك المحافظين وفق (الإيتيكيت) لا ينحرف عنها في حياته الخاصة إلا حينما يجبره إخوانه الأدباء على الالتفاف حول طبق الثريد، وإن خروجه في رواية ابن جلا، على التاريخ يشذ به ويقلمه ويكيفه تكييفا خاصا وفق مزاج الفنان، يضرب بالقيود التاريخية، ويهمل الواقع والأسانيد والعنعنات والبلاغات الرسمية والمحفوظات وما إليها من عدة نفاق المؤرخين وكذب كتب التاريخ، إن خروجا كهذا لا يكفي أن نسميه بالخطوة الجريئة، ولا ننعته بالتمرد، بل يحسن أن نسميه فتحاً جديداً في الفن الروائي العربي
تصدى الأستاذ تيمور في العام الماضي لشخصية أدبية خالدة في تاريخ الأدب هي شخصية بارزة في الإسلام تتحلى بأوفر خصائص الرجل العظيم وصفاته، هي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، وإن التعرض لشخصية خالدة وإخراجها على مسرح التمثيل لا يخلو من ضرورة خلق الجو الملائم لروح العصر والبيئة التي عاش فيها صاحب الشخصية؛ والانتقال به من مكان وسماء وملابسات وبواعث إلى خلافها أو إلى ما يناقضها من ظروف وصدف ومفاجآت، بل لا بد من السير في حدود حددها التاريخ ضمن نطاق محاط بسور من القدسية هي أمنع من الحصن، ولكن الأستاذ تيمور بروايته التي افتتحت بها (فرقة المسرح المصري) حياتها قد ابتعد عن كل ما له صلة بالتسلسل التاريخي وتناول (شخصية) البطل الذي خلق التاريخ وأطل عليها من ناحيات عدة ثم أرانا إياها مرة واضحة أو سافرة أو محجبة بحجاب كثيف، ومرة يحوطها ضباب معتم أو شفاف، وبكلم أوضح جعل أعمال البطل تدل عليه، وتصرفاته تنم عن شخصيته
هو ذا الفتح الجديد ي فن الرواية التمثيلية الذي عنيت، وهو فتح يساير روح العصر في الدرس والتحليل والاستقراء والاستنتاج، وفي الغوص على النفس ينبش المكنون في أعماقها يحل العقد فيها، ويبسط بواعث الانفعالات، ويلاحظ ويدقق في ملاحظة أسباب انفعالاتها ونتائج الانفعالات.
على هذا النحو من التأثر بروح العصر، وعلى هذا الضرب من مسايرة علم النفس أراد الأستاذ تيمور أن يظهر شخصية الحجاج أمام الجمهور، ولكن هل استطاع التوفيق بين ما أراده وبين ما أردنا إياه؟ هل صورة الحجاج التي رسمها لنا تمثل الحقيقة من حياة الرجل أم هي خيالات نفخ فيها من روحه هو ولم يقو على أن يبعث فيها روح صاحبها؟ هل تصرفات الحجاج في حياته جاءت مطابقة لما هو وارد في كتب التاريخ وسير أعلام الإسلام، أو أن المؤلف رأى بدافع من دوافع أصول الفن المسرحي أن يجعل خطوط حياة الحجاج مرة بارزة واضحة ومرة أخرى مستترة وراء شعار شفاف استلفاتاً لاهتمام النظارة وجذباً لأنظارهم؟
عرف الحجاج بالبلاغة الخطابية، والإرادة الصارمة، والشدة القاتلة، والحزم، والحرص على النظام، فأي صفة من هذه الصفات لم يعطها المؤلف حقها من الإيضاح وأي منها لم تنله كاملا؟ وهل الصورة التي علقت في ذهن المشاهد العادي هي صورة صادقة للحجاج، أو قريبة من الصدق، أو هي مشوهة؟
يحسن أن نلفت النظر إلى أن الأستاذ محمود بك تيمور هو من أعضاء المجمع اللغوي، وإن عالماً مثله صار في عداد الخالدين لا بد أن يكون اللغة طيعة له لينة، أضف إلى ذلك أن من أبرز صفاته الأدبية كتابة القصة، وأن لا محيد للقاص من الانفعال مع نفسه فيكون غضوباً ومسالماً، قاسياً وليناً، عبوساً وباشاً عند الحاجة، ولا بد له من القدرة على تقمص روح المتكلم فيكون كلامه كالملوك أو كالسوقة، كالعلماء أو كالجهلاء، كالمزارعين وعامة الدهماء، يهبط أو يرتفع مع كل طبقة من الناس حسب تفكيرها وتعابيرها ومصطلحاتها، يفكر تفكير المرأة يصور أحاسيسها وشعورها ومدى خيالها وأطماعها، وقد قرأنا في بعض مؤلفات الأستاذ تيمور ما يؤكد قدرته على ذلك، فهل استطاع في هذه المرة أن يسمو بحديثه إلى بلاغة الحجاج وفصاحته، أو أنه التزم لغة المسرح في السهولة والبساطة؟
يخيل إليَ أن الأستاذ قد تأثر كثيراً بما قرأ من خطب الحجاج وسيرته وأعماله وأحاديثه، وأن بعض تأثره قد تبخر يوم صور أفكاره بالقلم، وأن صديقه وصديقنا الأستاذ زكي طليمات قد أخذ بتلابيبه برده عن الحجاج ويلح عليه في وجوب التزام مستوى الجماهير، فالحجاج الذي سمعناه يتكلم على المسرح، لم يكن بليغاً بل كان فصيحاً، طلق اللسان، واضح البيان، حاضر البديهة، سريع الخاطر، قوي الحجة، صادق الحكم، لا يعلو كثيراً في التفكير، وفي التعبير، وفي المصطلحات اللفظية، وفي تركيب الجمل، وفي التشبيه والاستعارة والاقتباس عن مستوى الطبقة المتعلمة لا الطبقة المثقفة.
لقد استطاع الأستاذ تيمور أن يرينا صوراً حية لحرص الحجاج على النظام، وعلى (تحيزه) الشدة الصارمة المفطور عليها، وعلى دغدغته رغبة الشدة الأصيلة فيه بافتعال المتناقضات إذ كان يطعم الجائع لا عن جود وكرم بل عن دعابة نفسية فيه تلزم الآكل أن يأكل عدداً من الصحاف إن قصر في ازدرادها عالجه يسف الجلاد، ومن بارع صور شدة الحجاج وحرصه على اللغة طرده المقرئ الذي غلط فلحن فكان جزاءه السجن لا يفرج عنه حتى يستوفي من حظه حفظ القرآن، أما قوة الإرادة وعدم الانصياع لآمر والنفور من كلمة تعني الأمر فقد كانت تغضبه وتثيره إلى حد أنه كان ينفض ثيابه ويديه منها كأنها علقت بها، وكان لا يطيع أمر الطبيب ويعصاه ويأبى تناول الدواء لأنه فرض مفروض، وقد أجاد الأستاذ تيمور في إبراز هذه الصور واضحة نقية.
بقيت مسألة أقف منها موقف المعجب بها والمستريب بصمتها وهي هل كان الحجاج منهماً شهوانياً، وهل حكاية تعلقه بالفتاة (الأهوازية) وكلفه بها، ولجاجته بالشكوى منها، وافتقادها إذا هجرته وعادته، والسؤال عنها لتكون قريبة دائماً منه، وكان يرتاح لخصامها؟
ليس بمستنكر أن تكون (رأس الحكمة إشباع المعدة) عند رجل عبقري كالحجاج، وليس بمستبعد أن يكون شرها في مناوحة المرأة، ولا بمستغرب أن يكلف بامرأة مفطورة على اللدد محبة للعظمة والكبرياء، موغلة في العناد، مشغولة بالاستعلاء بشخصيتها لتنحدر في إظهار أنوثتها وهي مقهورة. إن خصلة اللدد وحدها كافية لأن تجعل الحجاج الجبار، العنيد، المشاكس المقاتل الذي لا يرحم، يكلف بهذه القطة الأهوازية يهارشها فتخمشه وتدميه، ويمسح شعرها فتعضه وتؤذيه، فكيف بها امرأة جميلة، وصبية بضة لا يقوى سواها من دون خلق الله أن يقف منه يجابهه ويعانده ويعنفه ثم يرتمي بين يديه يغسل جنونه بدموع الحب والارتماء في أحضان الحب
لا شك أن الحجاج كان نهماً جشعا يساير طبيعة الإنسان أي تحقيق غايته الأولى من وجوده وهي (الشبع) ولا ريب أنه يرغب في المرأة رغبة من كان قلبه لا يطيق التقيد، وبذلك أيضا يساير الطبيعة الإنسانية ولا يعطل غايتها الإنسانية من وجودها، فعزوف الحجاج عن المرأة مرده إلى انشغاله في توطيد الملك ومقاتلة خصومه يدلنا على ذلك رده (عفراء) رفيقة طفولته في كثير من الخشونة وعدم المبالاة، أما سعيه إلى التقيد بالزواج إنما هو سعي الوضيع الذي يطلب الرفعة والجاه عن طريق مصاهرة الهاشميين.
أما حكاية الفتاة (الأهوازية) التي لفقها المرحوم جرجي زيدان واقتبسها الأستاذ تيمور إنما هي حكاية لم أجد ما يؤيدها مما قرأت مما كتب عن الحجاج، وأرى أن الحق بجانب زيدان الروائي لا المؤرخ في تلفيق ما يجذب القارئ ويشوقه إلى قراءة فصول الرواية، وكذلك أجد أن من الواجب أن أشكر الأستاذ تيمور على اقتباسه تلك الحكاية واحتضانها وتجسيدها فجعلها المحور المركز على قاعدتين، الحجاج من جانب، والأهوازية من جانب آخر
لا يسعني حيال هذه الخطوة البارعة في جعل (شخصية) البطل هي التي تصوب عليها أنوار التحليل النفسي، وبذلك يشترك المشاهد مع المؤلف في تمييز ما يمكن وما لا يمكن من أمور النفس الإنسانية، وأن يلزم المؤلف المشاهد حمل ما يستطيع حمله من كنوز الرواية لتكون زاداً لعقله وتفكيره
هل رأيت ديكا فتيا يمد عنقه، ويفرد جناحيه، ينقل كفا بعجب، ويتبع الأخرى بتيه، ثم يقف فيطلق صيحة صداحة تتفتح لهاه أفئدة الدجاجات وجوارحها؟
كان هذا الديك التياه هو صاحبنا الأستاذ زكي طليمات، بله الحجاج بن يوسف الثقفي على مسرح الأوبرا، ولكنه لم يكن ديكا صيالا بين دجاجات تبيض، بل كان يتيه بين أقواب صغار زغبهم ذهبي ناعم، وزقزقتهم طفلة رنانة.
إني لأتمنى أن أراهم تياهين صوالين يجذب حيالهم في ميدان المسرح الجديد أذهاننا وأفئدتنا.
كنت في صحبة الكريم حضرة الغزة الأستاذ أحمد رمزي بك العالم المؤرخ والمدير العام لمصلحة الاقتصاد الدولي وقد شاهدنا تمثيل روايتي (شجرة الدر) لعزيز باشا أباظة و (ابن جلا) للأستاذ محمود بك تيمور فلقيته بنفر من الإحراج ويبرم بملابس الممثلين وقد قال ما نصه
(الإخراج فن لا يزال بدائيا في مصر، وهو فن من أصعب الفنون وخصوصاً إذا تعرض لإخراج الروايات التاريخية. وإني لا أعد مخرجي روايتي (شجرة الدر) و (ابن جلا) موفقين فيهما، لأن الذي يتعرض لمثل هذه الأمور يجب أن يكون لديه ثقافة وافرة، واطلاع عميق في النصوص التاريخية. وعى علم الآثار الإسلامية، والخطوط، ويفهم الملابس والإشارات والأسلحة والأثاث والمعمار الذي يسود كل عصر
وأجد أن كل عصر إسلامي يمتاز عن الآخر ميزة خاصة تميزه عن كل هذه النواحي، وأن كل مائة سنة تحتاج إلى رجل مختص يساعد المخرجين على تفهم الأمور التي أشرت إليها وكيف كانت في ذك العصر
والملابس التي أخرجت بها شجرة الدر لا تمت بصلة إلى عصر المماليك، والملابس التي أخرجت بها رواية الحجاج لا تمت بصلة إلى العصر الذي عاش فيه الحجاج. والأدلة على ذلك كثيرة، مثال ذلك، الأعلام التي جاءت في رواية الحجاج كتبت بالخط النسخ وهو لم يكن موجود في ذلك العصر، وكتبت بالخط الكوفي في رواية شجرة الدر بينما كان العكس هو الواجب أن يتبع
ومن أغرب ما شاهدت أن يرفع في وسط معسكر الحجاج علم عليه الشاليش التركي، وهي عادة جاءت في أواسط آسيا بعد قيام الدولة السلجوقية، فالأتراك هم أول من استعمل أذناب الخيل على الأعلام والسناجق وسموه (الشاليش) وأخذت به جميع الدول التركية سواء كانوا من الأيوبيين والأنابكة أو سلاطين الأتراك في الدولتين البحرية والبرجية بمصر
ولا شك أن في إخراج الجند الشامي بملابس عسكرية من ملابس القرن العشرين أمر مضحك. كذلك رئيس الشرطة أو قائد الجند الذي كان يلبس ألبسة تشبه ملابس القواد في الجيش الإيراني أيام مظفر شاه، أما ألبسة الحجاج فكانت مجموعة من أغرب ما رأيت
مسكين الحجاج جمع بين عصور المغول والفرس والهنود والانكشارية فكان إخراجا يدعو إلى الدهشة والعجب، فقد لبس ألبسة العصور جميعاً غير عصره. وأغرب من ذلك أن تدلى له الشعور تحت العمامة وهي عادة لم يعرفها عصره وإنما جاءت بعد ذلك. وأعظم من هذا أن يلبس قلنسوة فارسية عليها عمامة، ويظهر آنا تحت طاقية حمراء لم تعرف إلا أيام تيمور لنك
أما بقية العمائم فلا تمت بصلة إلى ذلك العصر بتاتاً، بل هي عمائم عرفت في العصور المتأخرة، عصور العثمانيين. ولو شئنا التحدث عن الأسلحة والأعلام وشارات الملك والجند وما كان يلبسه الناس في أقدامهم لتبين القارئ أن المخرج بعيد عن فن الإخراج ولا يعرف شيئا عن عصر الحجاج ولا عن عصر شجرة الدر، والظاهر أنه يفهم هذه العصور على طريقة خاصة بدليل أنه وضع في خيمة الحجاج درعين وسيفين معلقين على قاعدة خضراء على هيئة الرنوك، هذه أيضا لم تعرف بعصر الحجاج ولم يأت لها ذكر إلا بعد ذلك بقرون
أما السيوف والأسلحة فليست من ذلك العهد بتاتاً
ويوجد في متحف استنبول مجموعة من السيوف القديمة التي استولى عليها العثمانيون من خزائن السلاح المصرية في قلاع مصر وقلاع الشام يقول بعض أهل التحقيق إن فيها ما يمكن عده من أسلحة الأمويين، فيحسن بالمخرجين أن يرجعوا لأهل الاختصاص في الملابس والدروع والأسلحة والعمائم وكل ما يتعلق بأي عصر من العصور معتمدين على النصوص التاريخية، وفن الملابس، وعلم الأسلحة، وفن المعمار وكل ما يتعلق بالخطوط وقراءتها، وعلم الآثار حتى لا تخرج دار الأوبرا الملكية منظراً في القرن الأول الهجري يمثل معماراً أندلسيا أو صورة من مبان تحمل الطابع الفاطمي وهو طراز من البناء جاء بعد الحجاج بأكثر من قرنين)
وللأستاذ العالم رمزي بك ملاحظات أخرى على الإبقاء والتمثيل، ومخارج الحروف وقت النطق وغير ذلك من الملاحظات ليته يتفضل بإتحاف قراء الرسالة بشئ عنها خدمة للغة العربية الفصحى التي نعرف مقدار حرصه على سلامتها
حبيب الزحلاوي