الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 909/القصص

مجلة الرسالة/العدد 909/القصص

بتاريخ: 04 - 12 - 1950


السعادة

عن الكاتب البلغاري تيدور بانوف

للأستاذ ماجد فرحان سعيد

لقد كان شاباً أهيف ظريفاً فماذا كان ينقصه؟ السعادة وكان شوقه إليها يتبعه كظله دائماً إلى كل مكان فإذا ما استيقظ، شر كأنما قلبه الخافق رهن قبضته وكانت نظراته المفعمة (بالأماني) تجوز آفاقاً غريبة مجهولة

ترى ما الذي كان مشوقاً إليه؟

لقد كان مشوقاً إلى شئ ما. . . بل إلى كل شئ!

كان العندليب يداعب برعماً من الزهر ويشدو عليه أرق الألحان التي كانت رعشتها اللطيفة كنسم الصباح تتهادى لتتلاشى في الآفاق المترامية

وكان كل ما عداه هادئاً؛ كل شئ كابت أنفاسه. واستمعت السماوات والنجوم والقمر إلى شدوه، معجبة داهلة، وقد أرهفت السمع حتى أغمي عليها من شدة الحب والهيام

وفي الفترات التي كان ينقطع فيها العندليب عن التغريد، كانت تجتاح الكون تنهدة ذهول وغزل

(آه) هكذا كانت الأرض تلفظ أنفاسها الرقيقة، وكانت هذه (الآهة) تحمل إلى الأشجار والأعشاب والنجوم والقمر، ويموت صداها الناعم على ذرى الجبال البعيدة

كل شئ يتنهد بالسحر المجنح بالأحلام، وفي تلك التنهدات يكمن حنين الهوى الضائع. وواصل العندليب غناءه. . . وكانت أشعة القمر الذاهلة تعانق العندليب وشجيرات الورد بلطف زائد، وكانت النجوم تستمع إلى أغنية الهوى، وبابتسامة حنون تشجع الطائر الشاعر قائلة: - (أشد وغن أيها الحبيب!).

وإذ كان العندليب غارقا في رعشاته الصوتية العذبة، كان مبتهجاً أيضاً بعواطفه الغرامية الدافئة وإذ صار قلبه يدنو من برعم الوردة أكثر فأكثر، أخذ يتوسل قائلا (تفتحي أيتها الوردة!. . دعيني أستنشق عبيرك البكر مرة واحدة! دعيني أدفن رأسي بين وريقاتك القرمزية!. . .)

هكذا واصل العندليب توسلاته، مرسلا ألحانه الشجية حتى الهزيع الأخير من الليل. وعندما أخذ رعشاته الرنانة تخفت شيئاً فشيئاً، ومع ذلك فقد كان يتعالى في صوته تنهد الشوق الظامئ. ولكن سكن الشادي في النهاية. وتنهد برفق وعمق مصعداً (آهته) الأخيرة

وفي تلك التنهدة التي طال مكوثها بين شجيرات الورد ناحت (الأمنية) التائهة الظامئة

وقف الشاب يستلقي ليل نهار على العشب الأخضر تحت ظلال أشجار الغابة الهرمة، يحدق في السماء الصافية

وكان النسيم يتهادى ما بين الأغصان فيلامس الأوراق برفق ويقبل وريقات الأعشاب بابتسامة هادئة حنون

وأما الأشجار العظيمة والأغصان القوية فقد بقيت هادئة دون حراك، لأنها كانت مستغرقة في سبات عميق؛ وفي أحلامها الأبدية كانت تكمن الأسرار العظيمة، ولذا كان النيسم الخفيف الروح يمر بها بهدوء مداعباً أوراقها فقط، كي لا يعكر عليها صفو الهدوء السني.

ولم كانت تهجع في نوم عميق شبيه بنوم الأموات؟

أليس ممكناً أن يعثر الشاب على أمنيته في نومها المسحور؟

وأرهف سمعه إلى هدير الجدل المنحدر من قمم الجبال المكسوة بالثلج الدائم، ولقد عظم هديره، وأخذ يصارع الصخور فيحمل معه قطعاً كبيرة منها، ويخدش بها صدر الجبل.

فأن كان الجدول يسرع في جريانه؟

لم يكن يدري. . .

لقد كان ينحدر هائجاً مزمجراً منذ الأزل، لا يعلم له وجهة ولا قصداً؛ فلربما أنصب وتلاشى في البحر أوفي سيل جارف، أو في الرمال المتناثرة وهذا ما لم يكن الجدول يعلمه.

وأما هديره وخريره. . . أليس تعبيراً عن غضب واهن علة (المجهول)؟!. . .

ولكنها (الأمنية). . .!

لم يكن الشاب يستطيع أن يحمل عبئا المجهد، فلقد كان ثقيلا عليه؛ وهكذا عبر العالم باحثاً عن (سعادته).

أشرقت الشمس ثم غربت مرات كثيرة. وتعاقبت الليالي والأنهر، وتصرم العام تلو العام، وما زال الشاب يضرب على وجه الأرض! لقد مر بقرى كثيرة، وفي إحداها وجد الفلاحين ذات مرة مستسلمين إلى نوم عميق أغرقهم فيه عملهم المضني. وكان الظلام الكثيف يلفع الأكواخ الحقيرة، والصمت أشبه ما يكون بصمت القبور. . .

(أين أنت أيتها (السعادة)؟) هكذا صرخ الشاب، ولكنه لم يظفر بجواب

واقترب من باب أحد الأكواخ وخفق قلبه متطيراً قلقاً وبعد هنيهة سمع وراء الباب أنيناً خافتاً وتنهداً عميقاً يائساً

إذاً فلا بد أن تكون (السعادة) في هذه الساعة المتأخرة تنتحب وسط ظلام الكوخ الموحش.

ومشى الشاب في طريقه حزيناً متثاقلا، وقطع الأنهار والبحيرات والوديان حتى ارتقى جبلا شامخاً، وإذا هنالك راع يرعى قطيعه، وكان العشب القصير الكثيف يتألق بما عليه من دموع الفجر وبدأت الريح اللطيفة تبعث بصوف الخراف التي بدأت ترتعش من برودة الصباح، وأسرعت تلتمس الدفء تحت أشعة الشمس المشرقة. أما الراعي، فقد كان شابا فتيا يحمل كيساً على ظهره، وقد جلس على صخرة، وأخذ يعزف على نايه، وهو يحدق في الأفق الأزرق بتخيل حالم، وكانت أنغامه المنخفضة العذبة تسيل من نايه، لطيفة كأشعة الشمس الأولى، حالمة كعيني العذراء، متسقة كذلك الضباب الأبيض المحلق فوق الجبال؛ وأخذت أنغامه تزحف بهدوء كالضباب فوق الصخور والأحجار والأعشاب، وأنصت القطيع إلى أنغام الراعي.

- (أخبرني، أخبرني، بالله عليك، لمن تغني؟)

- (لمن أغني؟ هل تغني الريح لأحد؟ إنني أغني لأنني لا أستطيع أن أمكث بدون غناء. . . إنني أعزف لأشياء مجهولة!)

- (هل تعرف السعادة أيها الراعي؟)

- (السعادة؟) إنني لم أعثر عليها قط في هذه الجبال؛ فأنا وحيد هنا مع خرافي بين قليل من الثلج والضباب. وأؤكد لك أن ليست السعادة من حوريات الغاب - لأنني أعرفهن جميعاً ولكن برغم الناس أنها هناك، بعيداً بعيداً. . . ألا ترى هناك مدينة جميلة؟ أوليس ممكناً أن تعيش (السعادة) فيها؟. . . لست أدري. . . إذ لم يسبق لي أن كنت هناك!. . .) وهبط الشاب الجبل بعد أن تملكته رغبة أشد من قبل، ويمم وجهه نحو المدينة العجيبة. حقاً لقد كانت المدينة عجيبة - لأنه لم يكن قد شاهد نظيرها: - عمارات فخمة، وشوارع واسعة، ومراكز تجارية، وملاهٍ، وجنائن، وقصور. . . يغمرها جميعاً نور ساطع باهر وكان الثراء والبهاء والرخاء تتألق في جميع أرجائها.

وشرع الشاب يقطع شارعاً ويدخل آخر، وما لبث أن رأى أمام جدار يحيط منتزه، متسولا صغيراً يرتجف من شدة البرد، ويطلب الإحسان بصوت كئيب.

وتابع الشاب طريقه. . .

ثم وقف ليلقي نظرة من النافذة على أحد الملاهي، وإذا جمهور الناس يصفقون إعجاباً بفنانة شابة كانوا يعظمونها كأنما هي إلهتهم فانحنت أمامهم بلطف عذب، وبانت كأنما (السعادة) تتوهج في ابتسامتها؛ ولكنها دخلت بعد بضع دقائق غرفة اللبس، تبكي بخزن.

وغادر الشاب المدينة العظيمة، ولم يعد يلقي ولو نظرة واحدة إلى الوراء، فلقد حزت في نفسه التنهدات الأليمة التي كان يصعدها المتسول الصغير والبكاء اليائس الذي أطلقته الإلهة المعبودة.

وظل يخبط بالأرض مدة طويلة، وأخيراً وقف في مكان بين جبلين حيث كان يسكن في أحد المغاور العميقة ناسك طاعن في السن، بعيداً عن الناي وقريباً من الله. . .

وعندما وقف في حضرة الحكيم الناسك سأله بلطف: (هل تعرف يا سيدي الجليل مقر السعادة؟).

وكان الناسك آنئذ مستغرقاً في قراءة كتبه، يستوعب منها حكمة الدهور. ومضت فترة طويلة قبل أن أجاب على سؤال الشاب. وعندما رفع رأسه الأشيب، نظر إلى الشاب نظرة باهتة وبدت على وجهه المخدر ابتسامة صارمة.

ترى هل كان يفكر في شبابه المضمحل؟

(أسعادة لك؟) تساءل الحكيم بلهجة تشوبها الشك. ثم استغرق في التفكير. . . وعندما عاد ورفع رأسه، أخذ يتكلم بقسوة، فقال: - (عبث ذلك، إذ ليس هنالك من (سعادة)!. . إن هي إلا حلم من الأحلام!)

فأخذ الشاب يتنهد ثم قال: - (إذاً فما غايتي من (الحياة)؟ ولم أحتمل كل هذه الآلام؟ وما الفائدة من كل أسفاري؟)

فرق قلب الشيخ وأخذ يشعر مع الشاب الحالم، وقال: - (لا تبك، هاهو ذا السبيل الذي تقصد! إذهب، فما زلت فتيا بعد! ولكن أحداً لم يعثر عليها حتى الآن؛ فإذا ما عدت، فما من شك في أنك ستجلب (السعادة) إلى هذه الأرض!).

فسار الشاب في طريقه، وكأنما فارقه التعب بعد سفرته الطويلة، لأن الناسك ولد في روحه الأمل الذي صار ينمو كل يوم وتنمو معه (أمنيته). وأخذ يضرب في المسالك الوعرة، ويرقى الجبال والتلال. . . وكانت قمم الصخور تتألق على ضوء أشعة الشمس الباهتة المنحدرة إلى المغيب، وحول هذه المرتفعات كان (الموت) يحوم ويسمم الهواء بأنفاسه. ولم يكن هناك أي شئ ينبئ (بالحياة) أو (الشباب).

كان كل شئ ساكنا هادئا كأنما ينذر بالسوء، أو كأنما حلت عليه لعنة القضاء العاتي العنيد. وظهرت فجأة في طريق الشاب هوة سحيقة. فوقف واجماً على بعد بضع خطوات منها، وقد استحوذت عليه الدهشة والخوف. . . وأخذ يتصاعد من أعماقها ضباب كثيف، وأخذ هدير الجدول تحت الأرض يدوي صداه المتصاعد من الأعماق السحيقة، فيملأ الجو هولاً ورعباً. . . وقد كان في الإمكان الاستماع تحت ستار الظلام، إلى هياج العناصر الرعيب، ومع ذلك، فإن الخوف لم يتطرق إلى قلب الشاب.

وعلى حافة الهوة المقابلة، كانت إحدى الحوريات تستند بذراعها إلى صخرة مغطاة بالطحلب. . . وكان شعرها الذهبي يتلألأ مع أنوار الغروب، فيستبين له احمرار فاتن.

أما الشاب فقد أخذ يسرح نظره مع مجرى الدم تحت بشرتها الشفافة، وكان ينبعث من عينيها وميض ساحر غامض، ومن صدرها تنهدات متموجة متسقة. ووقف الشاب في مكانه لا يبدي حراكا؛ ومع ذلك فقد مد إليها يده؛ وفي تلك اللحظة فقط أدرك سر غناء العندليب، وعلم أين يسرع الجدول المنحدر من على الجبل، ولم احتفظت الأشجار القديمة بسر صمتها، ولمن كان الراعي يعزف الأنغام

وجثا أمام الحورية متوسلا، دون أن يحول نظراته عنها! أجل عنها! عن (السعادة) الأرضية!

ولكن (الموت) كان مختبئاً وراء تلك الحورية، فقد كشر أنيابه الكاحلة بجهامة مخيفة، وبسط فوق الهوة منجله الحاد. ولقد كان يبدو لأشعة الشمس المحتضرة لمعان عجيب على حد المنجل، وقد تراءى انعكاسه الباهت على غيمه كثيفة خارجة من الهوة المتثائبة

وظلت الحورية واقفة هناك، وقد أشارت إليه بيديها، وسحرته نظراتها، وأسكرته تنهدات صدرها المضطرب

وكان (الموت) يضحك وهو قابض على المنجل الذي ازداد توهجه عما كان عليه من قبل.

(أيها الأحمق! أيان تندفع؟).

وألقى ذلك الشاب نظرة واحدة على الهوة ليقيسها ثم قفز. . . لقد قفز بعد أن طال بحثه عن (السعادة)، السعادة التي أوقعته في العذاب، السعادة التي أسرته بجمالها!

أجل لقد قفز! ولكن لا ليعانق الحورية بل ليقع على منجل (الموت)!

ومنذ ذلك الحين صار الناس يدعونها (هوة السعادة).

ماجد فرحان سعيد

(مدرسة الفرندز للبنين) رام الله