الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 909/الغزالي وعلم النفس

مجلة الرسالة/العدد 909/الغزالي وعلم النفس

بتاريخ: 04 - 12 - 1950


للأستاذ حمدي الحسيني

- 9 -

التحليل النفسي

التحليل النفسي طريقة عملية لمعرفة الرغبات المكبوتة في اللاشعور، والعقد النفسية الناشئة عن هذا الكتب. وأول من فكر في هذه الطريقة ووضع قواعدها ومصطلحاتها العلمية العالم النفسي العظيم - سيجمند فرويد - وقد تقدم التحليل النفسي في السنين الأخيرة تقدما كان له أثر كبير في علم النفس فتطور هذا العلم بواسطته تطورا عظيم الأهمية بعيد الأثر ولا سيما من الناحية اللاشعورية. وتتلخص طريقة التحليل النفسي في حمل المرء المراد تحليل نفسيته على أن يطلق لنفسه العنان فيدع أفكاره تأتي وتروح بدون أن يضبطها أو يراقبها. وبهذا تكون أفكاره لا علاقة لها بالعلم الخارجي وتصبح حاله أشبه ما تكون بحال المطرق في حلم. ثم يطلب منه ألا يقاوم تلك الأحلام وما عيه إلا أن يقول كل ما يخطر بباله فيذكر أوهاما وعبارات مضطربة وألفاظا لا ارتباط بينها. بعضها عن حوادث بعيدة حصلت له في الطفولة وبعضها حصل له في بقية أدوار حياته الأخرى وأكثرها يتعلق بآلامه وآماله وبكل ما هو مؤثر في نفسه وسلوكه

ويجب على المحلل أن يكون شديد العطف على المريض فيعينه على البحث في قرارة نفسه حتى يصل به إلى حادثة أو فكرة معينة يتخذها كمفتاح يفتح به اللاشعور فيتوصل بها إلى معرفة سبب الاضطراب في السلوك والأعصاب، ومتى بلغ المحلل هذه النقطة أمكنه أن يعرف كل شئ. فالتحليل النفسي إذاً مفتاح اللاشعور والغاية منه معرفة سبب الاضطراب في لسلوك والأعصاب. ونحن نرى من الحق أن نبسط هذا الموضوع بعض البسط حرصاً على الفائدة وتوطئة لفهم ما عند الغزالي في هذا الموضوع فنقول

عندما اصطدم الإنسان بالمجتمع وما فيه من قيود انكبتت رغباته وميوله انكباتاً سبب له كثيراً من الأمراض النفسية والعصبية فخلقت هذه الأمراض النفسية والعصبية للمريض جحيما مستقرا لا تنطفي ناره ولا تخمد أوراه. والذي يؤسف له حقا هو أن أكثرية البشر مريضة نفسا او عصبيا. أو نفسيا وعصبيا معاً وإن اختلفت هذه الأمراض قوة وضعفاً وضوحاً وغموضاً وقد مضى على البشر القرون الطويلة وهم يتقلبون في جحيم من الأمراض وهم لا يشعرون ولكن لم تخف هذه الحقيقة المؤلمة على أهل الفكر من أبناء الأجيال الماضية. فقد عرفوا هذه الحقيقة لأنهم اكتووا بنارها ولكنهم حاروا في سرها وضلوا الطريق إلى فهم كنهها وحقيقة أمرها فأخذوا يتخبطون في هذا الأمر تخبط العشواء في الظلام لا يخرجون من ظلمة حالكة إلا ليتردوا في هوة أشد حلكة حتى ألهم الله - فرويد - بدراسة العقل الباطن وما في هذا العقل العجيب من عواطف مكبوتة ورغبات متصادمة متلاطمة وعقد مبرمة محكمة ومركبات محتدمة مضطربة فاهتدى إلى حل هذه المشكلة النفسية بطريقة التحليل التي أشرنا إليها في صدر هذا المقال ونحن نعتقد أن الإنسانية تنتفع عظيم الانتفاع بطريقة - فرويد - في التحليل النفسي متى دخل على النفس التحليلي البيوت والمدارس والمصانع والمزارع وعمت العيادات والمستشفيات النفسية المدن والقرى. نقول هذه وأملنا كبير بتحقيق هذه الأمنية لأننا رأينا المدى الواسع الذي قطعه علم النفس التحليلي في الغرب خلال نصف قرن ذلك المدى الذي يبشرنا بقرب انتشار هذا العلم الجليل في الشرق فينتفع به الشرقيون عامة ويصبح الشرقي وقد تعود أن يذهب إلى العيادة النفسية لمعالجة الخوف والخجل كما يعالج السل والسرطان. ولا يفوتنا أن نذكر هنا شيئا جليل الخطر في موضوع التحليل النفسي وهو أن خطورة العقد النفسية وخطرها في خفائها وعدم الشعور بها، فإذا ما عرفت العقد وأصبح صاحبها شاعراً بها انحلت وبطل سحرها. ومتى انحلت العقد انتهى السلوك الشاذ الذي كان متسبباً عنها وهذا ما يرمي إليه التحليل النفسي ويعمل لأجله المحللون النفسيون.

ولندع الآن الإمام العلامة أبا حامد الغزالي يتحدث عن التحليل النفسي والطريق الذي يعرف به المرء عيوب نفسه. يقول أبو حامد الغزالي.

إذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق الأول. أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته

الثاني. أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحواله وأفعاله فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنية والظاهرية ينبهه عليه

الثالث. أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه

الرابع. أن يخالط الناس، فكل ما رآه مذموما فليطالب نفسه به وينسبها إليه فإن المؤمن مرآة المؤمن فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شئ منه فيتفقد نفسه ويطهرها منكل ما يذمه غيره

هذه طرق الغزالي الأربعة في التحليل النفسي. فالطريقة الأولى قريبة جدا من طريقة علم النفس الحديث ونرى ذلك واضحاً عندما نقابل ما يقضي به العلم الحديث من الإنسان حمل المراد تحليل نفسيته على أن يطلق العنان لأفكاره أمام المحلل وبين يدي شيخ بصير بعيوب النفس وبحكمه في نفسه ويتابع إشارته فيعرفه ذلك الشيخ عيوب نفسه وطريق علاجها. والطريقة الثانية هي الاستعانة بالصديق في معرفة العيوب وهذه الطريقة شبيهة بالأولى من حيث أنها استعانة بالغير في التحليل. إلا أن الأولى تحليل بواسطة اختصاصي (شيخ بصير بعيوب النفس) - والثانية تحليل بواسطة صديق بصير في المراقبة دقيق الملاحظة. وأما الطريقة الثالثة والرابعة فهما طريقتان للتحليل الذاتي والتأمل الباطني وطريقة التحليل الذاتي أفضل طرق التحليل لذوي البصائر النيرة والعقول الراجحة.

ومن حق الغزالي علينا أن نذكر له معرفته بس العقدة النفسية وإدراكه أن خفاء العقدة عن صاحبها هو السبب الذي يجعل حلها صعباً وشفاءها في بعض الأحوال مستحيلاً وإدراكه أيضاً أن معرفة العقدة والشعور بها يسبب حلها والتخلص من شرها. يقول - فمن تكون بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه فإذا عرف العيب أمكن العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم. ثم يقول في موضع آخر: إن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها ومرض النفس مما لا يعرفه صاحبه وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه.

ولنسمع الآن ما عند الغزالي من طرق المعالجة النفسية يقول: - ينظر في الداء فإذا كان البخل مثلا فعلاجه بذل المال. ولكن قد يبذل المال إلى حد يصير تبذيراً؛ فيكون التبذير أيضاً داء، فالمطلوب إذن هو الاعتدال، وهذا الاعتدال الذي يذكره الغزالي هو السلوك السوي الذي يعمل للحصول عليه التحليل النفسي لرد هؤلاء الشاذين في سلوكهم إليه. ولم تغفل بصيرة الغزالي اليقظة عن الصعوبة في رد الشاذ إلى الحد السوي من السلوك يقول - الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف. وقلما ينفك الإنسان عن ميل عم الصراط المستقيم أعني الوسط حتى لا يميل إلى أحد الجانبين.

وسنتحدث في مقالنا القادم عن السلوك في نظر الغزالي إن شاء الله

حمدي الحسيني