مجلة الرسالة/العدد 908/رسالة الشعر
→ من أخلاقنا | مجلة الرسالة - العدد 908 رسالة الشعر [[مؤلف:|]] |
تعقيبات ← |
بتاريخ: 27 - 11 - 1950 |
قصة شريد
(إلى التي نسجت يد الأقدار من حياتها وحياتي قصة هذا
الشريد!)
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
كان شريد سائراً في فلاه ... مضيع الصفو، شريد الأمان
يبكي، فتبكي في يديه الحياة ... مما يلاقيه، ويبكي الزمان
يمشي على الرمل رماه الهجير ... بناره حتى ترامى لظاه!
حيران قد أضناه طول المسير ... ويشتكي لكن تضيع الشكاه!
ولم يكن يدري لماذا يسير؟ ... ولا إلى أين ستمضي خطاه!
في الليل، والليل رهيب الظلام ... تراه يسري وحده مجهدا
كأنه روح ثوى في حطام ... أطلقه من قبضتيه الردى
وحين تعوي الريح مثل الذئاب ... ويستبد البرد بالبائسين
تراه يجري هائماُ في الشعاب ... يبحث عن مأوى قوي أمين
وأين؟ لا مأوى يقيه العذاب ... قد حرم المأوى على الشاردين!
سأمان يبكي ضارعا للملال ... ويشتكي للوحشة القاحله
ظمآن يسقيه سراب الرمال ... نار الأسى والحسرة القاتله
كم صاح بالأقدار في محنته: ... هلا رحمت البائس الشاردا؟
فأعقبته من صدى صيحته ... صمتاُ عميقاً ساخراً خالدا
وما على الأقدار من شقوته ... وليس إلا في الورى واحدا؟
وحين ألقى عبئه واستراح ... أو هكذا كان يريد الشريد
صاح به صوت عيي الصياح ... يوشك أن ينقد منه الحديد:
قم أيها العبد الذليل المهين ... وسر على الصحراء سير الأسير!
ولا تسل عن غاية السائرين ... فإنها سر طواه الضمير! قد خفي السر عن العارفين ... فهل ترى الجاهل يدري المصير؟
فقام يسعى وهو باك طريد ... معذب الخطو، شقي الطريق!
كما يرى السادة يمشي العبيد ... حتى على الشوك! ولو في الحريق!
ومرت الأيام مثل الصدى ... معروفة الأول والآخر
يماثل الفائت منها الغدا ... والغائب المأمول كالحاضر
والشارد المسكين يحيا سدى ... كريشة في عيلم زاخر
وبينما كان يسير الغريب ... مستغرقاً في صمته ذاهلا
والقيظ بحر موجه من لهيب ... لا تبصر العين له ساحلا
رأى على الأفق البعيد القريب ... شيئاً تبدى جنة باسمه
رواحه منها نسيم رطيب ... ونفحة من عطرها هائمه
فراح يهفو مستثار الوجيب ... مستغرقاً في نشوة حالمه
وحين وافى الجنة الساحره ... رأى. . . وما أعجب ما قد رآه!
ما صورت أحلامه الشاعرة ... وقد سرى فيه ربيع الحياه
ماء شهي الورد كالسلسبيل ... كأنما منبعه في السماء
يضعه عشب ندي جميل ... يعانق الظل عليه الضياء
وفوقه يسري النسيم العليل ... مرنح العطر، شجي الغناء
وهذه الأشجار قد أبدعت ... تصويرها قدرة رب الوجود
وهذه الأشجار قد أينعت ... ثمارها، تحمل سر الخلود
والطير تشدو بالغناء البديع ... فتبعث الحب، وتذكي الحنين
كأنما تبصر طيف الربيع ... إذا تراءى من خلال السنين
دنيا من الحسن الذي لا يشيع ... ولا تره العين في كل حين
لما رأى الشارد هذا الجمال ... هفا إليه مستهام الجناح
فراعه ما أطلعته الرمال ... من غابة أشواكها كالرماح!
قد حجبت عنه الجمال الحبيب ... فما يرى إلا من خيال الفناء!
ورن في الصحراء صوت رهيب ... فارتجت البيد لهول النداء: سر أيها الشارد فوق اللهيب ... فأنت عبد من عبيد القضاء
لن تدخل الجنة مهما بقيت ... ولو تحملت سهام القتاد
ولن ترى أمثالها ما حييت ... فما خلقنا مثلها في البلاد
لغيرها هيئت يا ابن السبيل ... فاذهب لكي تبحث عن غيرها!
أما ترى الأشجار مثل النخيل ... أعشاشها وقف على طيرها؟
قد أزف البين، وحان الرحيل ... فسر مع الأيام في سيرها!
فأجهش الشارد مستنجدا ... وقال في صوت كرجع الأنين
يا أيها الصوت الرهيب الصدى ... رفقاً بهذا الضارع المستكين
قضيت عمري في سعير الألم ... وفي ضباب الوحشة البارده
وكان قلبي هائماً في القمم ... يبحث عن أحلامه الشارده
وكم تمنيت حياة العدم ... في ظل تلك الراحة الخالدة
وعشت في الصحراء عيش الهوان ... يحيط بي أنى ذهبت الشقاء
أهتف: أين الحب؟ أين الحنان؟ ... فيذهب الصوت سدى في الفضاء
وكنت أمشي مستطار الفؤاد ... على رمال ثائرات الشرار
شرابي الآل، وزادي القتاد ... وليس لي مأوى، فأرجو القرار
وكان لي ثوبان: هذا السواد ... يخلفه عندي بياض النهار
وكان لي في كل وقت حنين ... إلى ظلال الجنة الزاهره
وكنت أمضي في فضاء السنين ... أسأل عنها النسمة العابره
والآن قد أبصرتها ماثله ... فعربد القلب كطير سجين
يريد تلك الجنة الحافله ... بكل حسن يفتن الناظرين
والموت آت، والمنى زائلة ... فكيف لا أنعم حتى يحين؟
علام حرمت على المتاع؟ ... وفيم قدرت على المحن؟
وكيف أمضي في طريق الضياع ... أحمل في قلبي هموم الزمن؟
لمن تكون الجنة المشتهاه ... إلا لمن أضناه طول السفر؟
والمورد العذب كجدب الفلاة ... إن لم يكن للظامئ المنتظر ظننت يأسي قد توارث رؤاه ... فراعني يأس جديد الصور!
وهذه الجنة. . . وما ذنبها؟ ... حتى أراها ملك من لا تريد!
إني مناها. . . بل أنا حبها ... وطيرها الشادي بحلو النشيد
ظمآن يا ربي! وهذا النمير ... ترنو إليه غلتي الصاديه!
لهفان! والحسن الغضير النضير ... تحنو عليه لهفتي الباكيه!
حيران! لكن ها أنا أستجير ... من حيرتي بالجنة الحانيه!
دعني أعش في ظلها شاديا ... حينا. . . إذا قدرت أن نفترق
وبعده مر أنطلق باكيا ... بقلبي الشاكي، وروحي القلق
وحين يمضي عن حياتي الشباب ... وينصت العمر لخطو المشيب!
أحيا بظل الذكريات العذاب ... وأسأل الصمت الذي لا يجيب:
هل يرجع الغائب بعد الغياب ... ويشتفي ممن يحب الحبيب؟
يا رب هذي منية المستهام ... وأنت أدرى بأماني البشر
أذاعها الوجد الذي لا ينام ... فما يقول الصوت. . صوت القدر؟
وأطرق الشارد حتى غدا ... في صمته تمثال يأس عريق
كأنه والرمل لما بدا ... من حوله. . جثة ميت غريق
منتظرا صوتا كحز المدي ... إذا قسا، أو مثل لذع الحريق
وخيم الصمت، وران السكون ... على رمال في الدجى نائمه
وفجأة ثارت به في جنون ... عاصفة مجنونة عارمه
وا رحمتا للشارد المستطار ... مقيداً في لجة العاصفه
تمضي به نحو بعيد القفار ... في ليلة مقرورة واجفه
حتى إذا الليل طواه النهار ... وغاب طيف الجنة الوارفه
تلفت الشارد كيما يرى ... أين انتهى بعد المسير الطويل
فلم يجد إلا الردى العابرا ... بقفرة للصمت فيها عويل!
فسار في واد عميق الوهاد ... يسلك في الصخر طريق الشتات
ضلاله مثل الهدى والرشاد ... ما دام يمضي ضائع الأمنيات يحيا. . . ولكن للضنى والسهاد ... واليأس والحسرة. . حتى الممات!
يا من يوافي طيفها وحدتي ... وشخصها عني بعيد. . . بعيد!
هذي حياتي. . . هذه قصتي ... قصة حب مستهام طريد!
تأمليها تعرفي محنتي ... وتدركي سر شقائي العتيد!
وتعذريني إن بكت لهفتي ... من حرقة الأسر، ونار القيود!
حملت نار الحب في مهجتي ... وعشت أيامي بقلب شهيد!
رعاك بالآمال يا جنتي ... من غال باليأس فتاك الشريد!
القاهرة
إبراهيم محمد نجا