مجلة الرسالة/العدد 908/الغزالي وعلم النفس
→ عسل النحل بين الطب والإسلام | مجلة الرسالة - العدد 908 الغزالي وعلم النفس [[مؤلف:|]] |
من أخلاقنا ← |
بتاريخ: 27 - 11 - 1950 |
للأستاذ حمدي الحسيني
الأمراض النفسية
- 8 -
في الإنسان قوة اختلف علماء النفس في تسميتها؛ فبعضهم يسميها قوة الحياة أو القوة الدافعة أو إرادة القوة أو اللبيد، وهذه القوة على كل حال تدفع الإنسان إلى الاحتفاظ بحياته وتحفزه إلى أن يعني بأركان الحياة من الغذاء والسلامة وتخليد النوع. وفي الأزمنة الغابرة كان سهلا على الإنسان أن يحصل على مطالبه الضرورية المحدودة كما تقتضيه غرائزه وميوله. أما بعد أن تقدمت الحضارة وأصبح المجتمع يقضي على الإنسان بالخضوع لآداب وقوانين وعادات وتقاليد كثيرة لم يعد الإنسان قادراً على أن يطلق الحرية لغرائزه ورغباته وميوله وأمانيه.
بل اضطر أن يقمع كثيراً منها ويكبتها في قرارة نفسه كلما حاولت الظهور بمظهر لا يرتضيه المجتمع أو يضر بحسن مركزه أو سلامته فيه، وبذلك قام في النفوس صراع شديد بين ما يتطلبه المجتمع وبين ما يتطلبه الفرد. إلا أن كل رغبة تكبت وكل غريزة تخمد لا تموت بل تنزل إلى قرارة النفس وتنحدر إلى أعماقها المظلمة. وتبقى هناك حية عاملة في الخفاء تحرك المرء وتدفعه فتوجه سلوكه أو تحدث له من العلل الشيء الكثير على غير علم منه ببواعث هذا السلوك أو هذه العلل. وقد تحاول هذه الدوافع أن تجد لها منفذاً إلى الشعور فيمنعها المرء بإرادته ويقيم عليها من نفسه رقيباً هو الضمير يردها إلى اللاشعور فترجع خاسئة مهزومة ولكنها لا تلبث حتى تتحفز إلى الظهور ثانية وثالثة.
فكأن هناك مصارعة نفسية مستمرة بين الهوى والعقل تنتهي غالباً بمرض عصبي أو شذوذ في السلوك وهذه المغالبة والمصارعة بين ما تقتضيه أهواء الإنسان وميوله وبين ما تقتضيه البيئة تحدث كل يوم وفي كل إنسان من بداية نشأته إلى مماته.
وقد تنبه العالم الغزالي رحمه الله إلى هذه المعركة الهائلة في النفس الإنسانية وتتبع أسبابها وعللها وأهدافها ومراميها فعرف جلية أمرها وحقيقة حالها معرفة لا تقل قيمة وخطراً مدى واتساعاً عن المعرفة التي وصل إليها علماء العقل الباطن في زماننا هذا.
نرى الغزالي يشبه العقل بقبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، أو بهدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو مرآة منصوبة تجتاز عليها الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو بحوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه وإنما مداخل هذه الأنهار المتجددة في العقل في كل حال. أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوات والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه على أثر في العقل وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل العقل من حال إلى حال آخر. والمقصود أن العقل في تغير وتأثر دائمين من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في العقل هو الخواطر وأعني بالخواطر ما يحصل في العقل من الأفكار وأعني به إدراكاته علوماً. إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان العقل غافلا عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محلة. فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تقسم إلى ما يعدو إلى الشر أي إلى ما يضر وإلى ما يدعو إلى الخير أي إلى ما ينفع، فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً والخاطر المذموم أعني، الداعي إلى الشر يسمى وسواساً إلى أن يقول: ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة. ثم إن كل حادث لا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب. ومهما استنارت حيطان البيت بنور الدار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الإنارة وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان.
فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً. واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاً والذي يتهيأ لقبول وساوس الشيطان يسمى إغواء وخذلاناً.
هذه صورة واضحة الأجزاء بينة الجوانب زاهية الألوان بين الغزالي بها في صراحة ووضوح وترتيب واتساق الرغبات المتصارعة في النفس الإنسانية من جراء القيود الكثيرة التي تقيدها بها النية الاجتماعية وهو يعنى ولا شك العقل، العقل بجزأيه اللاشعوري والشعوري، معتبراً خواطر العقل الباطن خواطر شر أو هي الشياطين التي تغري الإنسان بتحقيق رغباته الغريزية الإيجابية المتضاربة مع مقتضيات المجتمع. ومعتبراً خواطر العقل الواعي خواطر خير أو هي الملائكة التي توفقه لما فيه خيره ونفعه. وليس غريباً أن يعتبر الغزالي الرغبات الغريزية والميول الفطرية التي تتنافى مع مقتضيات المجتمع - ولا سيما من الوجهة الدينية - شروراً وآثاماً ضارة وشياطين موسوسة ومغرية، وأن يعتبر تحفظات العقل الواعي أو الضمير الاجتماعي ملائكة تلهم التوفيق وتدعو إلى الخير والنفع العميم.
ولم يفت الغزالي في هذا المعرض الخدع النفسية التي تحاول فتح باب الشعور لرغبات العقل الباطن المكبوتة. وقد أدرك ما في هذه الناحية من حياة الإنسان النفسية من غموض وصعوبة فهم قال - ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً وإلى ما يتردد فيه فلا يدرى أنه من الملك أم من الشيطان. فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير والتمييز في هذا غامض إلى أن يقول وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع ومكايد الشيطان. ولنر الآن هذا التشبيه الجميل الذي وضعه الغزالي للعقل الواعي بالنسبة للخواطر اللاشعورية أو رغبات العقل الباطن يقول - العقل مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه. فحماية العقل عن وسواس الشيطان واجبة.
أما الأبواب التي يذكرها الغزالي أنها مداخل الشيطان إلى العقل فهي الغرائز، يقول: من أبواب الشيطان العظيمة إلى العقل الغضب والهم والطمع والحقد.
ويعجبنا تنبيه الغزالي إلى تأثير كبت الرغبات الغريزية في اللاشعور كبتاً يحدث مرضاً عصبياً أو تسامياً، ويعجبنا أيضا من الغزالي هذا السؤال الذي طرحه على نفسه ليجيب عليه وهو هل يتصور أن ينقطع الوسواس بالكلية عند الذكر أم لا.
لاشك أن الغزالي عرف جيداً أن الرغبات الغريزية المكبوتة في اللاشعور لا تنقطع عن العمل بل تظل تعمل في صميم النفس وقرارة العقل الباطن أعمالاً تسبب أمراضاً نفسية وعصبية منها الوسواس، أو تسبب تسامياً تنفس به النفس ألم الكبت ومضاضة الحرمان. ويجمل بما أن نورد هنا ما يقوله الغزالي جواباً عن هذا السؤال يقول:
إن العلماء المراقبين للعقول من صفاتها وعجائبها اختلفوا في مسألة انقطاع الوسوسة بالذكر؛ فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع، وقالت أخرى: لا ينعدم أصل الوسوسة ولكن تجري في العقل ولا يكون لها أثر لأن العقل إذا صار مستوعباً للذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة، وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها ولكن تسقط غلبتها على العقل. والوسواس أصناف فقد يكون بتلبيس الباطل ثوب الحق، وقد يكون بتحريك الشهوات، وقد يكون بمجرد الخواطر.
ومن هذا يتبين لنا جليا أن الغزالي يعرف جيداً أن الوسوسة مرض نفسي لا يزول بذلك النوع من العلاج وهو الذكر، وكل ما يفعله الذكر في هذه المشكلة النفسية أو الوسوسة هو تخفيف وقعها وتقليل شرها. ونحن نرى الغزالي في هذه القطعة محللاً نفسيا أكثر منه واعظاً دينيا أو عالماً أخلاقيا.
وكأن الغزالي قد عز عليه أن يعرف أسرار النفس البشرية ولا يعرف العقد النفسية أو المركبات العاطفية فقد وضع يده على هذه العقد والمركبات وضع الخبير العارف قال - إن القلب تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب.
فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغير وضعيته، فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان. وأي قول أبلغ في وصف العقد النفسية والمركبات العاطفية من هذا القول وسنبسط هذا الموضوع في المقالات القادمة إن شاء الله.
حمدي الحسيني