الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 907/علي محمود طه في يوم ذكراه

مجلة الرسالة/العدد 907/علي محمود طه في يوم ذكراه

مجلة الرسالة - العدد 907
علي محمود طه في يوم ذكراه
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 11 - 1950


(تناولت أمس بالبريد مجموعة (زهر وخمر) للشاعر الساحر علي محمود طه فصار عندي من مجموعاته الخمس اثنتان: الملاح التائه وزهر وخمر. أما ليالي الملاح التائه، وأرواح شاردة، وأرواح وأشباح، فستصلني بالبريد حالما يقع نظر أخي الشاعر على هذه الكلمة، فأنا أحبه وأحب شعره. ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني!! فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده.

ألا تعرفون حكاية الضفدع والحباحب؟ إذن فأسمعوها:

رأى ضفدع يوما حباحبا يلمع على حافة غدير، فخرج إليه قذرا ساخطا وراح يبصق عليه. فقال الحباحب: ماذا فعلت بك؟ من أين جاءك هذا الغضب؟ فأجابه الضفدع: وأنت من أين جاءك هذا اللمعان؟!

على أن ما يعزيني ويطربني ويملأ نفسي رجاء أن الإقبال على شعر علي محمود طه كبير، وفي هذا دليل كاف على أن الشعور بالجمال مطرد النمو في مصر كما هو في لبنان!

فيا أخي الشاعر علي محمود طه: أنا أقطن أجمل بقعة في الأرض: ورائي صنين شيخ الجبال، وأمامي وحولي أروع أعذب ما مهرت به الطبيعة بلدا من بلاد الله: شاطئ كشعرك ذهب وفضة. . فضة حين أتركه في الصباح إلى المدينة، وذهب حين أعود إليه في المساء وخليج كله فتنة كشعرك في (الجندول) وفي (كليوباترا) فاتنة الدنيا وحسناء الزمان. ورواب كشعرك شماء وادعة. وسماء. . سماء كأنها شعرك: جمال وحب والهام. وجو كله كشعرك غناء. وماذا أقول بعد؟

في هذه البقعة الطيبة، في هذا الإطار الساحر، قرأت شعرك أو قل تغنيت به وأحببتك. . ويقيني أنك ستجيء يوما إلينا، فأصعد بك إلى الشيخ صنين وننحدر معا إلى الروابي فالخليج فشاطئ الذهب والفضة. ويقيني أيضاً أن هذا الجبل سيظفر منك بأغنية أشجى من أغنية لامرتين في شاطئ سرنته!)

إلياس أبو شبكة هذه الكلمة المشرقة إشراق الفجر، المحلقة تحليق الشعر، الهادرة هدير القمم، وجهها شاعر لبنان المبدع إلياس أبو شبكة إلى شاعرنا العبقري علي محمود طه بعد أن فرغ من قراءة ديوانه (زهر وخمر). . وكان ذلك منذ سبعة أعوام!

وقعت عيناي على هذه الكلمة، فأثارت في نفسي من الخواطر الحزينة ما أثارته ذكرى الشاعر الصديق. . ألأنها تصل اليوم بالأمس، أم لأنها تصور الواقع فتصدق، أم لأنها نفحة من نفحات الوفاء؟ قد يكون هذا كله مبعثا لتلك الخواطر الحزينة، ولكن الموجة الأولى التي غمرت شواطئ النفس بالأسى القاهر والأسف المقيم، هي أن أبا شبكة قد ودع الحياة فلم يملأ مكانه شاعر في لبنان، وأن علي طه قد فارق الدنيا فلم يشغل فراغه شاعر في مصر!!

مات شوقي هنا فقال الناس من بعده: لقد مات الشعر. . . قالوها وهم لا يرجون خيرا من الشيوخ ولا يعقدون أملاً على الشباب، لأن رفة الجناح الضخم عند شوقي وامتداد أفقه الرحيب لم يكن لهما في ذلك الوقت شبيه ولا نظير. أما الشيوخ فقد ظل شوقي طاغيا عليهم بشعره، مخمدا لأصواتهم بذكره، ساخرا من أصدائهم برجع صداه! وحين برز من بين صفوف الشباب شاعر جهير الصوت رصين الأداء شجي النغم، تطلعت إليه العيون وخفقت القلوب واشرأبت الأعناق. . كان علي طه في ذلك الحين لا يزال يشق الطريق؛ يشقه في قوة المؤمن وعزيمة المجتهد وأمل الواثق من بلوغ ما يريد. وكان الطريق تحت قدميه مفروشا بالصخور والأشواك: صخرة من حاقد، وشوكة من حاسد، وغمزة تنطلق من وراء لسان، وأخرى تنبعث من مداد قلم.

ولكن صيحات العطف والإعجاب كانت تغطي على صيحات الحقد والإنكار. . ومضى الزاحف المظفر وعيناه إلى الأمام، لا يلقي إلى الخلف نظرة، لأنه كان يؤثر ألا يمد عينيه إلى المتخلفين!

وكان الذين يغارون منه ويحقدون عليه، فئة من الشباب وحفنة من الشيوخ. . أما أولئك فقد راعهم ألا يسطع من بينهم غير أسم واحد، وألا يخرج من صفوفهم غير شاعر فرد، وألا يلحق به منهم لا حق في مضمار. وأما هؤلاء، فقد هالهم أن يملأ المكان الشاغر صوت ينبو على سمعهم لأنه صوت جديد، وجناح يشذ عن أفقهم لأنه منقطع الأواضر بالأمس البعيد. . وكأن النبوغ في رأيهم لا يحسب بعدد المواهب والملكات، وإنما يحسب بعدد السنين والأيام!!

وها هي أمواج الأثير تنقل الصدى في ذلك الحين من مصر إلى لبنان، فتهز عواطف الشعر في نفس إلياس أبي شبكة، وتشحذ بين يديه شباة القلم، وتطلق من بين شفتيه هذه الكلمات: (ولن أكلف نفسي مشقة إفهام خصومه لماذا أحب شعره ولماذا أحبه. . فإذا كان شعره لا يستطيع أن يضع في عيون أولئك الخصوم نورا، وفي أنوفهم عطورا، وفي قلوبهم شعورا، فلن يستطيع لساني)!!

كان ذلك بالأمس. . أما اليوم، وقد انقضى على وفاة علي طه عام في حساب الزمن، فلا أظن أن الموت قد مسح بيد النسيان ما علق ببعض النفوس من أحقاد. ذلك لأن الموت حين أخذ علي طه لم يستطع أن يأخذ شعره. . وبقى هذا الشعر راسخا في الضمائر، ماثلا في الخواطر، نابضا في القلوب! وأهتف في يوم ذكراه كما هتف إلياس أبو شبكة منذ أعوام: (فيا خصوم علي محمود طه: ستموتون ويبقى هو حيا، فغراب الموت البشع ينعب في سطوركم، وعروس الحياة الجميلة تحلم في قصائده9!!

وسلام عليك يا صديقي. . . سلام عليك في الخالدين.

أنور المعداوي