مجلة الرسالة/العدد 907/رسالة الشعر
→ في موكب الذكرى: | مجلة الرسالة - العدد 907 رسالة الشعر [[مؤلف:|]] |
تعقيبات ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1950 |
رقدة الملاح
للأستاذ حسن كامل الصرفي
(نظم الشاعر هذه القصيدة لتلقى في حفلة التأبين الكبرى التي أقيمت لصديقه الشاعر الخالد علي محمود طه بمدينة المنصورة منذ شهور. . وحال بينه المرض وبين السفر إلى هناك لينشد قصيدته فطويت إلى حين، إلى موعد هذه الذكرى الغالية التي يحييها بأناته وأبياته!)
لم يبق لي في طريق العمر أحباب ... خلا الطريق وأحباب الرؤى غابوا
كانوا خيالا، وكان العيش حلم كرى ... مضى به قدر للعمر نهاب
لم آنس آخر لقيانا وقد دمعت ... شمس الأصيل ورقت منه أطياب
وأنت في حجرة كان الشفاء بها ... وهما، وخلف صراع الطب وثاب
كدمعة في جفون العين بارقة ... حتى يحين لها في الخد تسكاب
روح تشف عن الأحلام حائرة ... والجسم قد شفه سقم وأوصاب
ترنو إلى الأفق لدامي فتحسبه ... فتى من الحزن قد خانته أعصاب
تقضي لياليك بعد الأنس منفردا ... لم يهو ساحك خلان وأتراب
سأمان ترقب أياما مغربة ... كما تحول نحو الغرب جواب
كحانة في ظلام الليل نائية ... جفت على صدرها المهجور أنخاب
في عزلة لم يقصر ليلها سمر ... ولم تكشف دجالها الجهم أكواب
قد لفها الصمت إلا بعض همهمة ... كما تهمهم في ظلمائها الغاب
قاسيتها محنة ما كاد غاشمها ... ينزاح عن كتف الغاني وينجاب
حتى تحطم في استنهاضه أمل ... وانهار في مثل لمح الطرف إطناب
كان اللقاء وداعا، والحديث صدى ... من عالم الغيب لم تدركه ألباب
نشكو جراحاتنا والدمع يحبسه ... عن أن يسيل أبي النفس غلاب
نرجو ونأمل والأقدار ترقبنا ... والموت يحجبه عن وهمنا الباب
يا مرسل النغم العالي صدى ورؤى ... ينصب في أذن الدنيا وينساب
غنت به ضفتا الوادي ورجعه ... من ألسن الشرق أشهاد وغياب أضعت عمرك في الأوهام تجرعها ... كأسا مزاج طلاها الشهد والصاب
ما الزهر والخمر فيها غير مائدة ... ألقى عليها ظلال الحزن مرتاب
ظننتها أنت جنات منضرة ... وهي الخرائب فيها البوم نعاب
خدعت فيها بألوان مزيفة ... وسوف تخدع أجيال وأعقاب
طوت مجاليك واغتالت مشاهدها ... كطائر الأيك قد أصماه نشاب
فنمت والحلم الزاهي على مقل ... غشى عليها ظلال النور إظباب
ومت والنغمة الكبرى على شفة ... لما يتح لصداها العذاب إعراب. . .
الليل معتكر، والموج صخاب ... وزورق الحلم في الهوجاء هياب
ملاحه بعد طول التيه قد عقدت ... أجفانه سنة أطيافها آبوا
موسد لم يزحزح جفنه ألم ... ولم يسهده إظناء وإتعاب
ألقى المجاديف وهنى والشراع لقى ... يطويه من سطوات الريح جذاب
كم صارع الموج جياشا ومضطربا ... ولم يزعزعه إعصار وإرهاب
منقبا عن جمال الكون تفتنه ... جداول وخميلات وأعشاب
وفتنة من جفون الغيد تشرعها ... إلى القلوت - هوى - منهن أهداب
والحسن ينبوع فن ظل يقصده ... من عالم الشعر وراد وشراب
أوحى الخوالد في الدنيا إلى نفر ... تفتحت لهمو في الخلد أبواب. . .
رسام سحر المجالي، أين ريشته ... يفوح منها على القرطاس أطياب؟
كم لوحة من مرائيه منمقة ... فيها من اللمحات الغر خلاب!
قد عطل الموت فنا خالصا غنيت ... به على كرة الأجيال آداب
حملت والصفوة الأحرار ألوية ... خفاقة تتحدى كل من عابوا
للفن ما اهتز من آمالهم وربا ... والفن مذبح قربان ومحراب
تبتلت في جلال الفن أنفسهم ... كما تبتل في المحراب أواب
كل له غاية يسعى ليدركها ... وكم تحقق غايات وآراب. . .!
تشاءم القوم حينا وادعوا خرصا ... أن القريض ثوى إذ مات أقطاب
وأن دولة هذا الفن قد ذهبت. . . ... والشعر لم يتوقف منه دولاب والشعر مسبح أرواح مجنحة ... إن غاب سرب تبدت فيه أسراب
إن لم تقم لبناة الفكر أنصاب ... فقد أقيمت لهم في الفكر أنصاب
وحسبهم من خلود الأرض أنهمو ... لها إلى جنة الفردوس أسباب
هم رفهوا عن أساها وهي عابسة ... لهم، وقد نضروها وهي مجداب
هم الألى وهبوها حلى زينتها ... وكم يحارب مناح ووهاب!
إن نادموا الليل فيها، قال قائلها: ... بنو خيال لكأس الوهم طلاب!.
حقائق الأرض ما أوحى خيالهمو ... قد صبها في اختيار العلم أحقاب
عاشوا بها غرباء الروح تلمحهم ... هالات نور عليها الليل جلباب
مروا خيالا، وكانوا في دجنتها ... كواكب النور لما ضوأ واذابوا. . .
(على!) كان غروب الشمس موعدنا ... يوم الخميس؛ فمالي منه أرتاب!؟
أطارد الوهم عن نفسي وبي وجل ... كما يطارد وحش الغاب هياب
حتى تلقيت هول النعي فانتثرت ... خواطري في ظلام الحزن تجتاب
لم يبق منعاك لي جهدا أفيك به ... حق الرثاء ودمع العين منساب
ما أعجب القدر اللاهي بعالمنا ... إذ تبسم أبدى الشرة الناب!
إن فرق الموت جسمينا فإن لنا ... في عالم الروح لقياليس تنجاب
حسن كامل الصرفي