مجلة الرسالة/العدد 907/بعد عام
→ الألعاب العربية | مجلة الرسالة - العدد 907 بعد عام [[مؤلف:|]] |
ما رأيت وما سمعت ← |
بتاريخ: 20 - 11 - 1950 |
علي محمود طه
لقد مضى الزمان بنا يخب، حتى صرنا على بعد عام من (علي محمود
طه). . ولكنا ما زلنا نرى الزورق سابحا. مبسوط الشراع، يجري
على كف الموج، في أنهار الخلود؛ لا يطويه أفق، ولا يحجبه بعد.
- 1 -
كان (علي طه) فردا آتاه الله الرهافة في الحس، والحدة في الشعور، والرقة في الذوق؛ فانطلق جوابا في الآفاق يستعرض آيات الله في جمال الطبيعة ومفاتنها.
معهدي هذا المروج وأست ... اذي ربيع الطبيعة الفينانة
وقف أمام (كومو) واهتز لها فقال.
ها هنا يشعر الجم - اد ويوحي لمن شعر.
ولولا وفاه طبعت به الفطرة، وحب لبني النيل الأعزة؛ لركن (الملاح) الرحال إلى أحضان هذا الشاطئ، يحرسه بعينيه، ويطربه بموسيقاه.
آه لولا أحبة ... نزلوا شاطئ النهر
ورفات مطهر ... وكريم من السير
لتمنيت شرفة ... لي في هذا الحجر
أقطع العمر عندها ... غير وان عن النظر
فلقد فاز من رأى ... ولقد عاش من ظفر
ولقد عاش حياته شاعرا غير الشعراء. فلم يتواضع لجني من عبقر يستجديه القصيد، وإنما راح يستهبط الوحي من ملائكة السماء ليندفع بعد ذلك شاديا. ينظم الحس أغاني، ويرسل بالجمال أهازيج، وإنه بذلك لخلاب باهر ينغم الأعماق بالإعجاب، ويشتمل العواطف بالطرب.
وسماء للشاعر الفذ منها ... يستقي الشعر وحيه وبيانه
وأنا الشاعر الذي افتن بالحس ... ن وأذكت يد الحياة افتنانه فبوركت يا علي انك فنان
ضارب في الخيال ملق عنانه ... ملك الوحي قلبه ولسانه
- 2 -
. ومن خلف عشرة عقود هبت على الوادي الأمين، أنسام المجد، تحمل في أحنائها ريح (إبراهيم)، وعطر ذكراه فوجدت بين جنبي الشاعر رئة مفتوحة تفيض بالحس، ورود تنتشي للنبوغ في القتال. كما تنتشي للتفوق في الجمال، ولنطرق صامتين لنسمع.
في كفك السيف فأحم الأهل والدارا ... وادفع به الظلم، واضرب حيثما دارا
اضرب بسيفك لا تسمع لمعتذر ... لم يترك البغي للباغين أعذارا
لم يفهموا في قراب السلم منطقه ... فجاءهم عاري الحدين بتارا
دعا بهم ورماهم عن معاقلهم ... جرحى وصرعى وأشلاء وأحجارا
والحرب شتى فنون أنت سيدها ... إن حانت السلم، أو لاقيت غدارا
وهذا هو يقف لتحية أبطال القتال في (الفلوجة) ويسائلهم في أسلوب شيق جميل عن وقفتهم الخالدة، في القرية المحصورة.
هاتوا حديث الحرب كيف تطاحنت ... لكمو منازعها، وهان عصيها
في قرية محصورة كسفينة ... في لجة هاج وماج غضوبها
لم تدر فيها الريح أين قرارها؟ ... والشمس أين شروقها وغروبها
وهكذا في كل ناحية نجده موهوباً راسخ القدم.
- 3 -
أما شعر الفقيد بين معالم النهضة فطفرة جريئة. أحدثت روحا جديدة، لها لونها الخاص، ومذهبها الممتاز. بدت تباشيرها بظهور (الملاح التائه) وصارت ضحى فتيا قد اشتد وهجه وعلا سناه بإخراج (لياليه)؛ وإذا كان الشعر الحي: هو الذي ينبثق عن العاطفة، ملونا بظلال النفس، نابضا بتدفق الحياة، فشاعرية (علي طه) بارعة فنانة، تأتي بالصورة الدقيقة في البيت الرصين فيظن أنها تحت الباصرة مرئية واقعة، وإلا فأسبح مع الشاعر الحالم في سماواته العلى حين يقول: إذا ارتقى البدر صفحة النهر
وضمنا فيه زورق يجري
وداعبت نسمة من العطر
على محياك خصلة الشعر
حسوتها قبلة من الجمر
يالها ألوانا مسكرة مخدرة، تطير بالروح هياما ونشوة، وتسيل بالنفس سحرا وغبطة. . .
بل يا لوعة الفن الرفيع إذ يخلفه ربه وحيدا أسيفا،
القاهرة
بركات