الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 906/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 906/رسالة الفن

بتاريخ: 13 - 11 - 1950


مسرحية شجرة الدر

تأليف: عزيز أباظة باشا. إخراج: الأستاذ فتوح نشاطي.

تمثيل: الفرقة المصرية على مسرح دار الأوبرا الملكية.

تحليل ونقد بقلم الأستاذ أنور فتح الله

افتتحت الفرقة المصرية موسمها التمثيلي بهذه المسرحية الشعرية. ولقد كان المؤلف موفقا في اختيار شخصية شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ذلك لأن شجرة الدر شخصية بارزة في التاريخ المصري. ولأنها أول ملكة مسلمة اعتلت عرش مصر. في وقت كان الصليبيون فيه يهددون استقلالها، والمماليك في الداخل يتآمرون على عرشها. . ولعل عصر المماليك الزاخر بالأحداث والدسائس هو أصلح العصور التاريخية لأن يكون مادة للمسرح المصري.

وأحداث المسرحية التاريخية تقع بين اعتلاء شجرة الدر عرش مصر وقتل عز الدين أيبك. وقد سلط المؤلف أضواءه على هذه الفترة التاريخية ليكشف عما يرقد تحت خطوط التاريخ من دوافع نفسية تسلطت على أبطال التاريخ وسيطرت على أعمالهم السياسية.

وشجرة الدر في نظر التاريخ كانت جارية من جواري الملك الصالح أيوب، فأحبها وتزوجها. وكانت تعيش في عصر تعصف به الأهواء والأطماع السياسية. وعندما تقدمت السن بزوجها اعتلى عرش مصر، فكانت خير مشير له، وكان الصليبيون يحاربون في داخل البلاد عندما مرض الملك، فتولت شجرة الدر وحدها شؤون السياسة والحرب، ومات الملك، فأخفت خبر موته حتى لا يفت ذلك في عضد الجيش، وعندما انتصرت جيوش مصر، وأسر الملك لويس التاسع في المنصورة، أعلنت شجرة الدر موت الملك، وأرسلت في طلب ولي العهد (طور أنشاه) من الشام وبايعته بالملك. وكان ضعيفا سكيرا غارقا في الملذات. وعندما أراد التخلص من شجرة الدر قتله أنصارها وبايعوها بالملك. وأرادت شجرة الدر وهي الخبيرة بشؤون السياسة والحكم أن تجمع المصريين والمماليك من حولها، لتقضي على التحزب الذي يهدد الملك، فأثار هذا حفيظة المماليك، وتمرد عليها أمراء الشام ولجئوا إلى خيانتها مع الفرنسيين، فأطلقت سراح ملك فرنسا، وشكاها الأفراد إلى أمير المؤمنين في بغداد، فقرر عزلها. وتولى الملك الأشرف عرش مصر، وعين عز الدين أيبك وصيا عليه فألقى بالملك في السجن، وقبض على زمام الملك، وانصرف عن زوجته شجرة الدر. وعندما علمت أنه سيتزوج ابنة صاحب الموصل أغرت بعض خدمها فقتلوه في الحمام.

ولنبين ما أضافه المؤلف إلى التاريخ، ومدى تمسكه به، علينا أن نستعرض المسرحية.

بدأ المؤلف مسرحيته، فأبرز الأمير نجم الدين (الملك الصالح فيما بعد) وهو جالس في خيمته في الصحراء، وإلى جانبه زوجته شجرة الدر، وقد دخل عليه رجاله، بيبرس، وقطز، وقلاوون، وعز الدين أيبك. . ثم يدخل العراف فينبئهم بأن كلا منهم سيتولى عرش مصر. . فيسخرون منه، فيخرج وهو ويقول:

قلت حقا وكان ما لم أقله ... إن بعضاً منكم سيأكل بعضا

ولقد كانت هذه المقدمة لفتة بارعة من المؤلف، ذلك لأنها تمهد لجو الدسائس والمؤامرات وهو الجو العام للمسرحية، وترمز إلى ما حدث في التاريخ، وتقدم أبطال المسرحية إلى المشاهد. ومن الناحية الفنية، فإن عرض المقدمة في شكل مشهد تمثيلي أقرب إلى طبيعة المسرح من المقدمةِ التي كانت في بداية المسرحيات الكلاسيكية وبعض المسرحيات التاريخية الحديثة، والتي كانت في صورة منلوج يلقيه ممثل قبل بداية التمثيل ليعرف المشاهد بموضوع المسرحية، أو في صورة ديالوج ليؤدي نفس الغرض.

. . ويبدأ الفصل الأول وشجرة الدر ملكة على مصر. . فنرى الجارية هيام تتآمر عليها. . وتسعى إلى استمالة قائد الجيش (أقطاي) إلى جانبها. . ونرى بيبرس وقلاوون وقد عادا من الشام ليخبرا الملكة بأن أمراء الشام قد أجمعوا على خيانة مصر. . وهنا تعلن شجرة الدر بأن مرغريت ملكة فرنسا قد قدمت إليها كتبا من أمراء الشام تثبت خيانتهم، ولهذا رأت أن تطلق لويس التاسع من أسره. . ويخرج الأمراء بعد أن تكلف بيبرس بمهمة في بغداد. . ثم تستبقي عز الدين أيبك. . فنراه يؤيد رأيها، ويمجد تدبيرها ويبوح لها بهواه. . ويلح في طلب الزواج منها. . فتعده بالزواج، وتطلب منه أن يكون عونا لها على أعباء الملك، فيجيبها بقوله: لا بل تبيعك ما حييت فمهتد ... يهداك محتشد لما يرضيك

. . . وفي الفصل الثاني. . تبدو هيام وهي تستطلع أخبار بيبرس من علا. . وتعرف من حديثهما أن الملك لويس التاسع سيمثل بين يدي شجرة الدر. ونرى (أقطاي) ساخطا يرمي شجرة الدر بالاستبداد، ويدخل المصريون وعلى رأسهم القاضي فينتحون ناحية، وسرعان ما يثير أقطاي أسباب النزاع بين المصريين والمماليك، فيهدئهم القاضي، ويدخل أيبك وقد أصبح زوجا لشجرة الدر فيعلن قدومها. . . ويخبر القاضي بأن الملكة قد عينته قاضيا لقضاة النيل، واختارت بهاء الدين وزيرا لها.

وتدخل شجرة الدر ومعها ملكة فرنسا، ويقدم إليها ملك الإفرنج فتستقبله وتعقد معه ميثاقا. ويأتي بيبرس فيخبرها بأن رسول أمير المؤمنين قد جاء ليبلغها أنه إذا لم تسترض أمراء الشام فسيعزلها، فترفض شجرة الدر طلب أمير المؤمنين لأن في ذلك سبة لمصر. . . ويدخل الرسول فتقول له شجرة الدر

أنا وازنت بين ملك وعرض ... فهداني ربي الصراط القويما

إن في مصر أمة تكبر الر ... أي وتأبى في عرضها أن تسوما

ويخبرها الرسول بأن مولاه يقبل اعتزالها فتعلن اعتزالها، فيغضب أيبك، ويثور المماليك والمصريون، فتقول لهم شجرة الدر:

لا تزلوا إن التحمس تعمي ... عن هداها الوضئ فيه العقول

نحن نبني الدولات تبقى على الده ... ر وأما أشخاصنا فتزول

وعندما يسألونها عمن تختار ليخلفها، تعلن اختيارها لعز الدين أيبك، والأشرف موسى، فيوافق الجميع على رأيها ماعدا أقطاي، فتنهاه شجرة الدر عن إثارة الفتنة، ويعلن أيبك سياسته بقوله:

نحن قوم إذا عهدنا وفينا ... والتزام الوفاء بالحر أحرى

نحن قانون والمآثر عمر ... يتخطى الفناء، والناس ذكرى

يحفظ لله من شقاق وخلف ... شعب مصر ويحفظ الله مصرا

. . . وإلى هنا تنتهي حياة شجرة الدر الملكة. . وتبدأ حياتها كامرأة. . وفي هذا القسم من المسرحية ساير المؤلف خطوط التاريخ. . وربط بين الأحداث بالصراع السياسي الذي صوره بين أمراء الشام ومن ورائهم أمير المؤمنين من جهة، وبين شجرة الدر من جهة أخرى، وقد انتهى هذا الصراع باعتزال شجرة الدر الملك. ولأن الصراع هنا لم يتخذ صورة بصرية، بل كان في صورة القصة على لسان بيبرس وقطز والرسول فقد غلب على هذا القسم جانب العرض التاريخي. على أن هذه الغلبة لا تنسينا أن نذكر للمؤلف توفيقه في ربط الأحداث التاريخية وتنسيقها في صورة فنية مشوقة؛ فكل مشهد لاحق نتيجة للمشهد سابق. وقد صب المؤلف المعلومات التاريخية في مشاهد مرئية كل مشهد منها يتضمن حادثا، وكل حادث مليء بالحركة فلم تطغ هذه المشاهد التاريخية، على الحركة المسرحية.

. . . وتدور أحداث الفصل الثالث في قاعة العرش بقصر القلعة. . . فنرى هيام وأقطاي وقد اتفقا على الإيقاع بين الملك عز الدين أيبك وشجرة الدر الزوجة. وتأتي شجرة الدر فنسمعها تحدث نفسها. . وتعاهد الله على أن تحمي مصر، وتعمل على إبعاد كل من تحدثه نفسه بالإساءة إليها. . وتخرج شجرة الدر. . ويأتي أمراء المماليك والمصريون. . فيطعن أقطاي في المصريين فيحدث النزاع بين الجانبين من جديد، ويدافع قاضي من القضاة عن المصريين. . وتدوي الأبواق. . ويأتي الملك عز الدين فيجلس على العرش. . ويحييه نائب عن المصريين. . فيرد عليه الملك. . وفي رده الزهو على مصر. . والطعن في شجاعة المصريين. . واتهامهم بالفرار من ميدان القتال: فيدفع قاضي القضاة التهمة عن المصريين. . فينهره الملك. . ويأمر المصريين بأن يمضوا في شأنهم حتى يصدر أحكامه فيهم. . ويثير أقطاي حفيظة الملك عليهم. . فيعلن أنه سيذيقهم نقمته وسيعزل قاضي القضاة والوزير. . وهنا يطلب منه أقطاي أن يتمهل حتى لا يغضب شجرة الدر!. . فيتراجع عز الدين. . ويطلب منه أقطاي أن يأخذ رأيها!. . . ويهم الملك بالخروج، فتدخل هيام. . وتخلو به. . وتخبره أنها رسوله من قبل زوجه أم علي. . وأن ولده مريض. . فيضطرب ويخبرها بأنه سيزورها. . فتطلب منه أن يحاذر حتى لا يغضب شجرة الدر، فلا يبالي بتحذيرها. . . وتأتي شجرة الدر لترده عن استبداده بالمصريين، وتسدي إليه النصح فلا يستمع لها. . وينكر عليها تدخلها. .

وفي الفصل الرابع. . نرى شجرة الدر تنظر في مرآتها، متحسرة على الشباب الذي ولى.

ويأتي الملك فتستقبله في حفاوة المرأة بزوجها. . ولكنه يراوغها. . ويطلب منها أن تسلمه كنوز الملك الصالح. . فتأبى. . فينفجر فيها ثائرا. . ويخبرها بأنه سيتزوج عروسين من بنات ملوك الشام. . ويتركها وقد جردها من نفوذها. . وكرامتها. . وحطم قلبها بمعارك الغيرة. .

ويدخل عليها قاضي القضاة، وبيبرس، وقلاوون ويلحون في قتله لتخلص مصر من ظلمه فترفض. وعندما تعلم أنه يطردها من قصرها. . تدعم لرأيهم. . وترسل إليه خطابا تتوسل إليه فيه أن يقضي ليلة في جناحها. . . ويأتي الملك إليها. . فتستقبله في حفاوة. . . وعندما يذهب إلى الحمام تأمر أعوانها بقتله.

. . . وفي هذا القسم من المسرحية، نرى المؤلف قد ساير التاريخ في تصوير الجانب السياسي من حياة شجرة الدر. وأضاف إلى التاريخ بتصويره الجانب الإنساني من حياتها، وبربطه بين تاريخ والإنسانية خلق على المسرح عالما فنيا نابضا بالحياة.

وفي هذين القسمين، استطاع المؤلف أن يرسل نقداته، وبصب تجاربه ومثله وآراءه في ذلك الإطار التاريخي، فنفذ إلى الواقع، وربط المشاهد بعالمه الفني. هذا، والجديد من هذه المسرحية، هو أن المؤلف لم يتابع ما سار عليه المرحوم جورجي زيدان وغيره ممن أنشئوا أعمالا فنية من شجرة الدر من إهمال. تصوير الجانب المصري من أعمالهم، بل عنى بتصوير المصريين في مسرحيته فصور آمالهم، وآلامهم، وبهذا ربط بين الواقع التاريخي والحاضر الواقعي.

ولعل الدافع الذي حدا بشوقي بك إلى كتابة مسرحية عن كليوباترا، هو نفس الدافع الذي حدا عزيز باشا أباظة إلى اختيار شجرة الدر لتكون موضوعا لمسرحيته. ولعل السبب في هذا الاتفاق بين الشاعرين، هو التشابه بين الملكتين، وبروزهما في التاريخ المصري. بل إن هناك تشابها كبيرا بين شخصية أوتوبيس الكاهن المصري، وبين شخصية قاضي القضاة، وكلاهما كان موضع ثقة مليكته ومشيرها. وكلاهما وطني يعمل لصالح وطنه. ولقد دافع شوقي عن كليوباترا لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون، ودافع عزيز باشا عن شجرة الدر لأنه رآها أكبر مما صورها به المؤرخون. فالشاعرية التي ألهمت شوقي الكتابة عن كليوباترا، هي التي ألهمت عزيز باشا الكتابة عن شجرة الدر.

والصراع المسرحي الرئيسي في هذه المسرحية يقع بين عز الدين أيبك وشجرة الدر، ولم يبدأ هذا الصراع إلا بعد اعتزال شجرة الدر الملك واعتلاء أيبك العرش. وذلك لأن شخصية أيبك كانت تابعة لشخصية شجرة الدر الملكة، ولم تنفصل عن هذه التبعية وتتحرر إلا بعد اعتزالها. فقد بدأ أيبك متملقا، طموحا، إلى أن تزوج شجرة الدر، ثم أصبح متفانيا في خدمتها إلى أن اعتزلت، وبعد أن أصبح ملكا، بدأت شخصيته تنفصل عنها، وبدأ الصراع بينهما إلى أن انتهى بقتله. ولو أحسن المؤلف استغلال شخصية الجارية هيام، وأقطاي، في النصف الأول من المسرحية، بقدر ما أحسن استغلالهما من الإيقاع بين شجرة الدر وأيبك في النصف الأخير منها، لكان توفيق المؤلف في بناء المسرحية كاملا، ذلك لأن هيام وأقطاي على الرغم من كراهيتهما لشجرة الدر وتآمرهما عليها في النصف الأول من المسرحية، فإنهما لم يؤثرا على الأحداث ولم يتقدما أية خطوة إيجابية بالفعل المسرحي. هذا، ولم نستطع أن نتبين من المسرحية الدافع الشخصي الذي يدفع هيام المرأة إلى محاربة شجرة الدر؛ بل إن المؤلف قد جانب الصواب عندما جعلها - وهي المرأة - تعمل على التفرقة بين أيبك وشجرة الدر لحساب امرأة أخرى هي أم علي. ولو قارنا بين شخصية هيام عند عزيز باشا، وشخصية سلافة عند جورجي زيدان، لوجدنا أن تصوير الثانية أوضح وأصدق من تصوير الأولى، وأثر الثانية على الأحداث أبرز بكثير من الأولى. كذلك جعل المؤلف شخصية أقطاي حائرة مترددة في النصف الأول من المسرحية وكان في مقدوره أن يستغلها في تقوية الصراع المسرحي لو جعل تأثيرها إيجابيا على الأحداث في هذا القسم.

وإذا تناولنا الجانب الإنساني من هذه المسرحية، وجدناه صادقا من حيث التصوير النفسي. فقد انبثق الصراع المسرحي من داخل نفس عز الدين. تلك النفس الطموح التي تتملق شجرة الدر لتحوز رضاها. وتتفانى في خدمتها لتجتذب أنظارها. وتتربص بقلبها المحروم لتنفذ إليه. حتى إذا ما أصبح زوجا لها، بدأ يتظاهر بالغيرة والحماس، ليرقي سلم المجد، وليبدوا في نظرها جديرا بالملك. فإذا ملك، بدأ يتخلص منها ليملك فعلا، ولكنه وهو العبد الذي تعود الطاعة يخشى بأسها، وإزاء تحريض اقطاي وهيام، وطعنهما في كرامته، طغت عليه كبرياء الضعيف، وكرامة الذليل، فانفجر ليعوض النقص الذي في شخصيته. فعندما كان عز الدين يخفي حقيقة نفسه، كان الصراع مخيفا في أغوار نفسه، وعندما تغيرت الأوضاع، فارتفع الوضيع، وانخفض الرفيع، بدأت حقيقته تظهر وبدأ التعارض بين نفسه، ونفس شجرة الدر. وعندما وصل الصراع إلى القمة لجأت تلك النفس الخيرة إلى الشر لتزيل الشر. وبتجسيم هذه الخطوط النفسية الدقيقة استطاع المؤلف أن يوصل المأساة إلى نفس المشاهد.

وكان المؤلف موفقا في تصوير شخصية شجرة الدر، فقد بدأ بها ملكة وانتهى بها إلى امرأة ككل النساء، تحب وتغار، وتحزن. ولعل ما أظهره المؤلف فيها من ضعف بشري، حتى عندما سمعت صراخ زوجها فترددت وحاولت إنقاذه، هو الذي ساعد على بعث الحياة في هذه الشخصية، لأنها استمدت حياتها من المشاعر الإنسانية.

والذي نلاحظه أن المؤلف تمسك بإظهار أعلام التاريخ في تلك الفترة كأقطاي وقطز وقلاوون وبيبرس. وقد أدى تعدد الشخصيات إلى عدم التركيز في تصويرها، فبدت في المسرحية شخصيات مكررة لتشابهها في موقفها من الأحداث وتأثيرها عليها. . فأقطاي وقطز في صف عز الدين أيبك، ولم تظهر حقيقة ذلك إلا في نهاية المسرحية، لهذا، كان على المؤلف أن يكتفي بأحدهما، ويبرز بوضوح معالم شخصيته، ويشركه في الصراع إلى جانب عز الدين من أول المسرحية. وكذلك بيبرس وقلاوون فهما في جانب شجرة الدر، وتأثيرهما على الأحداث واحد، فكان من الخير أن يقتصر المؤلف على أحدهما حتى لا يؤدي تعدد هذه الشخصيات إلى تشتيت انتباه المشاهد. وكذلك في تصويره للمصريين، كان من الواجب عليه أن يقتصر على شخصية قاض القضاة وهي الشخصية الأولى بين المصريين. ومن الإنصاف أن نقرر أن شخصية قاضي القضاة قد رسمت في دقة وعناية، وأن المؤلف قد شحنها بالوطنية المصرية، فكانت معبرة عن الآمال والآلام المصرية، وكانت من أهم العوامل في ربط التاريخ بواقعنا الاجتماعي. وكان تأثيرها قويا في إحداث التجاوب بين الممثل والمشاهد.

ومن حيث التصوير العقلي للشخصيات، كان المؤلف موفقا في تصوير عقلية شجرة الدر، وعقلية عز الدين أيبك. إلا أنه قد أنطق بعض الخدم كسنجر وسلافة بالحكمة والفلسفة في بعض المواقف، وبهذا جاوزت هذه الشخصيات حقيقتها الإنسانية. كذلك وزع المؤلف آراءه وتجاربه العامة، على شخصيات الرواية، فأنطقها بها، فبدت أغلب الشخصيات في مستوى عقلي واحد، وكان على المؤلف في هذه الحالة أن يخصص شخصية واحدة، لينطقها بآرائه، ليفرق بين رأيه ورأي الشخصية الروائية في الموقف المسرحي. كما فعل ألفريد دي فيني في مسرحية (شاترتون) حيث كانت شخصية (كويكر) هي شخصية المؤلف.

وكما فعل بومارشية، في مسرحيته (زواج فيجارو) حيث جعل فيجاروا ينادي بآرائه التي أراد أن يوصلها إلى الشعب الفرنسي.

وفيما عدا هذا، فالمسرحية تعد جزءا للمسرحية التاريخية، من حيث تصوير الشخصيات والبناء الفني، والأسلوب الشعري.

وقد أخرج المسرحية الأستاذ فتوح نشاطي، فصدر في إخراجه عن وعي كامل بالمسرحية وجوها، وعصرها التاريخي. وقد هداه هذا الوعي إلى خلق الحياة التي رسم تصميمها المؤلف في النص المكتوب؛ فالمناظر كانت رمزية في بعض الفصول، واقعية في البعض الآخر. وهي في كلتا الحالتين تشيع الجو التاريخي للمسرحية. وقد بدت الأبهاء والأعمدة والعقود العربية الرائعة في صور طبيعية بعيدة عن الصنعة والافتعال. وكانت ألوان هذه المناظر هادئة حتى لا تجذب انتباه المشاهد فينصرف عن الممثلين. وكانت الثياب ذات ألوان قاتمة لتشد نظر المشاهد إلى الممثل. ولقد ساعدت الإضاءة على خلق ذلك الجو التاريخي الساحر فكانت جزءا مكملا للمنظر. وكانت طبيعية في مسايرتها للوقت.

وليس من شك في أن للمخرج الفضل الأول في تحريك الممثلين في هذه المسرحية الزاخرة بالحركة، وكذلك في تنظيم مجموعة الممثلين الثانويين وبعث الحياة فيها.

ولقد بدا مجهود المخرج في وحدة كاملة طابعها الطبيعة والصدق حتى ليتعذر على العين الناقدة أن تتلمس خطأ أو مغالاة في أية حركة أو منظر. وإنه لمن الإنصاف أن نقرر أن المخرج قد عبأ كل ما يملك من فهم وموهبة وفن في إخراج هذه المسرحية فكان ممتازا في إخراجه.

وقامت الآنسة أمينة رزق بدور شجرة الدر. وهذا الدور هو العمود الفقري للمسرحية من بدايتها إلى نهايتها وقد أحست أمينة رزق بخطر هذا الدور فحشدت له عقلها وإحساسها المرهف وعاطفتها الحارة وفنها الصادق فجسمت الألوان المختلفة التي تصور معالم الشخصية التي تمثلها. وكانت موفقة في إشراك المشاهد معها واجتذاب قلبه إليها في الأزمات التي كانت تقاسيها على خشبة المسرح. وإذا كانت أمينة رزق ممثلة ناجحة، فقد بلغت في هذه المسرحية درجة من النجاح لم تبلغها من قبل.

وقام الأستاذ أحمد علام بدور عز الدين أيبك. والشخصية التي مثلها ناعمة ملساء تخفي ما تبطن من القسم الأول من المسرحية. وفي هذا القسم كان علام يضغط على العبارات التي أراد المؤلف بها إبراز معالم شخصيته المتملقة الطموح. وفي القسم الثاني عندما بدأت شخصية أيبك تظهر بوجهها الحقيقي ارتفع علام إلى القمة وظل محتفظا بهذا المستوى حتى نهاية المسرحية.

وقام الأستاذ منسي فهمي بدور قاضي القضاة فصدر في أدائه عن إحساس قوي بأهمية هذه الشخصية في ربط الواقع التاريخي بالمجتمع الحاضر. فكان يلهب القلوب بإيمانه الوطني، ويهز المشاعر بنبراته المرتعشة التي تفصح عن غضبه الكظيم.

وبعد. . . فهذه هي الفرقة التي كادت أن تعصف بها الأهواء. وتلقي بأفرادها في زوايا النسيان. . وقد أثبتت اليوم أنها جديرة بالحياة. . .

أنور فتح الله