مجلة الرسالة/العدد 903/الأزهر الشريف
→ مثال يحتذي في الحكم | مجلة الرسالة - العدد 903 الأزهر الشريف [[مؤلف:|]] |
الإسلام في الجزائر البريطانية ← |
بتاريخ: 23 - 10 - 1950 |
منارة العلم والعرفان في العالم الإسلامي
للدكتور حسين الهمداني
حفلت البلاد الإسلامية منذ انبثق فجر الإسلام بدور العلم ومعاهد العرفان في وقت كانت ظلمات الجهل تجثم فيه فوق ربوع العالم العربي، ومع أن هذه الدرر كانت تقسم بطابع خاص هو الطابع الإسلامي فإنها كانت تتوسم في نظامها واتجاهاتها الحرص على توفير أسباب الطمأنينة في نفوس طلاب العلم وتوثيق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وإشاعة تلك الروح الجامعية التي يجب توافرها في معاهد العلم العليا مثل ما يشاهده المرءالآن في أعرق الجامعات العربية.
ويلوح أنه لم يكن ثمة مناص من أن تغدوا المساجد والجوامع مقر لنشر المعرفة كما كانت وما زالت مصدرا لبث الهداية والرشد في نفوس الناس في الوقت ذاته. ولم يكن هناك تعارض في اضطلاعها بالمهتمين؛ فإن الدين الإسلامي الذي يأمر بالتسامح والمساواة يحث على طلب المعرفة ولو اقتضى الأمر الاغتراب في مشارق الأرض ومغاربها ما كان ليجد خيرا من المساجد بجوها القدسي لغرس العلم والمعرفة في نفوس المسلمين، بل إن اختيار المساجد لهذا الغرض يحمل في طياته الإقرار بقداسة العلم ووجوب تطهيره من حمأة الأغراض الدنيوية والبعد به عن كل جو ينحرف به عن قدسيته.
وقد ظهر في الإسلام معاهد علمية عظيمة القدر رفيعة الاسم. وكان الحكام يتنافسون في إنشائها، فأنشئ الأزهر في عام 361هـ (971م) وأنشئت الكلية النظامية في عام 459هـ (1066م) وأنشئت الصالحية في القدس عام 583هـ (1187م) وكان الغرض من إنشاء هذه المعاهد هي وغيرها بادئ الأمر - وباستثناء المستنصرية - هو تدريس المذاهب الدينية والدعوة لها، فأنشئ الأزهر لتدعيم المذهب الشيعي في مصر بعد فتحها على يد الفاطميين.
وأنشئت النظامية هي والصالحية لدعم المذهب الشافعي بينما أنشئت المستنصرية لتدريس المذاهب الأربعة وكان بها كلية لتدريس الطب وأخرى لتدريس الرياضيات واللغات. وقد اختفت هذه المعاهد العظيمة واندثرت وعفا عليها الدهر فيما عدا الأزهر الذي ظل راسخ كالطود بالرغم مما مر به من أحداث بل واضطهاد في بعض العصور. ولعمري أن المرء ليتساءل ماذا كان يصيب اللغة العربية وآدابها وما يتصل بهما من علوم ومعرفة لو أن الأزهر أصابه ما أصاب غيره من معاهد ولم يصمد للحوادث طيلة هذه الأجيال؟ لقد كان هذا الأزهر وما يزال - وأرجو أن يظل على ذلك أبد الدهر - دعاية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي. وقد أراد الله بالأمم الإسلامية خيرا حين كلأ هذا الجامع بعنايته ورعايته وصانه من غوائل الدهر ومن الانهيار.
ولم يكن الأزهر بناء أو جدرانا لا حياة فيها. بل كان على الدوام فكرة نابضة وروحا متسامية وحياة فكرية ومبادئ حية. بدأ جامعا فأنقلب جامعة لها خصائصها وتقاليدها وسمعتها وطابعها؛ وقد ظلت هذه التقاليد والخصائص والطابع والسمة تلازمه على مر العصور. وكان من خير هذه التقاليد أن الطالب يظل يتلقى العلم حتى إذا آنس في نفسه القدرة على التصدر للعلم أذاع ذلك بين زملائه وشيوخه فتعقد في ديوان الأزهر حلقه من العلماء النابهين يجلس الطالب في صدرها ويناقش نقاشا حادا في المادة التي تدرسها وفي جميع المواد المتصلة بها، فإذا أثبت الطالب كفاءة ممتازة منح حق التدريس. وهذا التقليد يذكرنا بما هو متبع في الجامعات العريقة وفي مناقشة رسالات الدكتوراه فيها في عصرنا الحديث.
وإذا كان الأزهر قد صعد نيفا وأنف عام للأحداث وظل راسخا في أداء رسالته في دعم أركان الدين الإسلامي ونشر العلوم الإسلامية، واستطاع أن يحتفظ بمكانته المرموقة كدعامة قويا للإسلام ومنارة لنشر العلم والعرفان، فإن مثله يجب أن يحتذي في كافة الأمصار الإسلامية فليس في وسع سكان الباكستان أو غيرها من البلاد الإسلامية أن يفدوا بقضهم وقضيضهم ليتزودوا من منهل الأزهر الذي لا ينضب وينهلوا من مورده العذب، على أن الباكستان وغيرها من البلاد الإسلامية لا تستطيع أن تترسم الروح الأزهرية الفذة أن ننوه ببعض ما يجول في نفوس بعض العلماء من مخاوف بشأن اضمحلال هذه الروح بسبب تلك النظم الحديثة التي أدخلت في الأزهر مثل نظام الامتحانات وتحديد المقررات وكثرة المواد الدراسية التي لا تتصل بالدراسات الإسلامية - حتى أن بعض يعتقد أن مستوى التحصيل في الأزهر قد انخفض انخفاضا ملموسا بسبب انصراف الطلبة إلى إحراز الإجازات التي تعتبر سلاحا للتوظيف دون الرغبة في التزود بالعلم لذاته والتعمق في المعرفة. وقد كان النظام الذي سلكه الأزهر خلال القرن الماضية نظاما جامعيا بحتا وكانت الروح العلمية تسيطر على جوه، فكانت صلة الطالب بمدرسته صلة وثيقة دعمتها العلم والرغبة في اعتراف مناهله. وحسبك أن تعلم أن الجامعات الغربية تهيأ الآن هذا التهيؤ لتأدية رسالتها. ولكن ما لبث النظام (المدرسي) الجديد الذي ادخل على الأزهر أن اضعف من هذه الرابطة مبين الطالب وأستاذه. ثم أن هذا النظام يعمل على شحن ذهن الطالب لا طائل تحتها ولا يدع له وقتا ولا ميلا للتعمق في نوع معين من المعرفة الإسلامية تعمقا من شأنه أن يخلق لنا علماء من طراز الشيخ محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرزاق والشيخ المراغي وإضرابهم من جهابذة العلماء الذين يفخر العالم الإسلامي بهم. والحق أن النواة لأمثال هؤلاء العلماء موجودة فإن الطلبة الأزهريين ما زالوا يتسمون بالروح العلمية العميقة. وقد علمت من أحد القائمين على إدارة المعهد البريطاني في القاهرة أنه وجد في الطلبة الأزهريين الذين يتلقون اللغة الإنجليزية في المعهد المذكور استعدادا وإدراكا وتعمقا وغيرة وإقبالا على العلم بما هو جدير بطلبة هذه الجامعة العريقة. ونعتقد أن خير ما يمكن أن يفعله الأزهر هو أن يعمل جاهدا للعودة لذلك الجو العلمي البحث الذي عرف به وأن يقضي على نظام الامتحانات أو يعد له بحيث ينصرف الطلاب للعلم وحده دون النظر للإجازات العلمية كهدف يتعين عليهم تحقيقه للحصول على الوظائف.
وبودنا لو عنى رجال الأزهر الأعلام الألمعيون بأمر جدير بعنايتهم وهو تعليم الفتيات، فالشاهد أن الأسر الإسلامية كثيرا ما تدخل فتياتها في المعاهد الأجنبية التبشيرية، ولسنا نجد مبررا لحرمان الفتيات المسلمات من الثقافة الدينية الإسلامية ولا من خطاه ما لم يمد يده لمعونتها. والواقع أن رسالة الأزهر لا تقتصر ولا يجب أن تقتصر على مصر وحدها بل رسالته أعم وأشمل. ومن حق البلاد الإسلامية أن تطالبه بأن يمد رسالته عبر البحار لا إلى البلاد الإسلامية فحسب بل وللبلاد غير الإسلامية أيضا. ومن حسن الطالعأنلا يكون هذا هو رأينا وحدنا بل هو رأي الحكومة المصرية نفسها بدليل ما وفق عليه مجلس الوزراء في إحدى جلساته الأخيرة من فتح الاعتمادات لإنشاء معهدين إسلاميين في مدريد وطنجة.
وفي وسع الأزهر أن يساهم مساهمة أدبية ومادية في إنشاء معاهد العلوم الإسلامية والدينية في البلاد الإسلامية فيبعث بعلمائه إلى هذه الأمصار التي ستلقاهم بصدر رحب وتحلهم منها مكانة الصدر والإعزاز ببثون فيها تلك الروح الفقهية والعلمية العميقة التي أنفرد الأزهر بها منذ حوالي عشرة قرون ويضعون برامج الدراسة في هذه المعاهد وفق النهج الذي مارسه الأزهر منذ إنشائه ويعملون على نشر اللغة العربية ودعمها في البلاد الإسلامية غير العربية. ولسعادة علوية باشا مشروع في هذا الشأن يستطيع علماء الأزهر دراسته وتنفيذه كله أو بعضه.
أما بالنسبة للبلاد غير الإسلامية فإن واجب الأزهر يقتضيه - بوصفه دعامة العلوم الإسلامية ومنارة الدين والهدى - أن ينشئ المعاهد الإسلامية في عواصمها ومدنها الكبرى وأن يزودها ببعض زملائه الذين يتقنون اللغات حتى يكون في مقدورهم نشر العلوم الإسلامية في هذه البلاد. وإذ كانت بعض الجمعيات الإسلامية قد أحرزت توفيقا في هذا المضمار فأحرى بالأزهر وهو المؤسسة التليدة العريقة أن يصيب نجاحا عظيما بما يتوافر لديه من اعتبارات وعوامل تكفل له التوفيق والنجاح في القيام برسالته. ويستطيع الأزهر مثلا أن ينشئ معاهد في لندن وبرلين وباريس وروما وواشنطن وغيرها من المدن الكبرى على غرار ما نره من المعاهد الأجنبية التي تنشئها الدول الغربية بين ظهرانينا. ونعتقد أن مثل هذا العمل يستدعي إنشاء معهد خاص للغات الأجنبية في الأزهر نفسه يدرس فيه العلماء والطلاب تلك اللغات بتوسيع وتعمق في وسط أزهري يكفل لهم تغلغل الروح الأزهرية العالية في نفوسهم. ونود ونحن بصدد الكلام على تلك تخصص بعضهن في العلوم الإسلامية. وأعتقد أن في مقدور الأزهر أن ينشئ معهدا للفتيات يتلقين فيه العلوم الإسلامية ويتخصصن فيها فيكون لدينا في القريب عالمات فضليات تزهو بهن البلاد الإسلامية.
إن الأزهر هو كعبة العلوم الإسلامية التي يحج إليها طلبات العلوم من كافة البلاد الإسلامية من الباكستان حتى نيجيريا، ومن الصين حتى الجزائر. ونحن نحب الأزهر ونحب أن تستطيل رسالته حتى تبلغ مشارقالأرضومغاربها. ولا شك في أنه يستطيع تحقيق آمالنا فيه. وفق الله رجاله إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين أنه السميع المجيب.
حسين الهمداني