مجلة الرسالة/العدد 90/ورد الربيع!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 90 ورد الربيع! [[مؤلف:|]] |
بين خروفين ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
دار الفلك دورته، وعاد سيرته، فسرت في أعصاب الأرض هزة الحياة، وتفجرت عروقها بالمياه، وسالت قمم الجبال جداول وأنهاراً، واشتعلت الأرض أزهاراً وأشجاراً
تبرجت بعد حياء وخفر ... تثنى على الله بآلاء المطر
صرحت الأرض بمكنونها، وأبانت الحياة عن ضميرها، فنبتت معاني الحياة والجمال، في ألفاظ من الأوراق والنوار
باح الربيع البساتين ... وعطر النفس أنفاس الرياحين
ونفخت أنفاس الربيع الحرى الحياة في كل ذرة، فأخرجت قواها أعشاباً وأزهاراً، فرقتها ألوان، وألفَّتها معان
لم يبق للأرض من سر تكاتمه ... إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف شتى من زواهرها ... حمراً وصفراً وكل نبت غبراء
أيُّ مسرح للفكر! وأي مجال للخيال! وأي مراد للطرف!
دنيا معاش للورى حتى إذا ... جاء الربيع فإنما هي منظر!
وفي أرجواني من النور أحمر ... يشاب يا فرند من الروض أخضر
إذا ما الندى وافاه صبحاً تمايلت ... أعليه من در نثير وجوهر
إذا قابلته الشمس رد ضياءها ... عليها صقال الأقحوان المنور
والطير مغردات كأن أصواتها ذوب هذه الألوان، وكأن ألوان الروض جمد هذه الألحان. يهتز الطائر الغريد على الغصن الأملود فيقرأ ما تحته من صفحات الجمال، كأنما الطير إبر الحاكيات تنطق بما تضمنت الصفحات من نغمات - والعصفور مرح تتداوله الأغصان، وتتهاداه الأفنان، تارة في انتزاء، بين الأرض والسماء، وتارة تغيبه الحديقة، كأنه في هذا الجمال فكرة دقيقة. صغير تملأ الهواء نغماته، وضئيل تشغل الجو خفقاته
والفراش قلق بين النوار، هائم بين الأزهار، لا يقر له قرار، كأن كل فراشة زهرة طائرة، أو قبلة بين الأزهار حائرة، أو نغمة في جمال الروض سائرة!
والشعراء ينافسون الطير على الأيك طرباً وتغريداً، وفي المرح تسبيحاً وتحميدا. تنبجس في جوانحهم ينابيع البيان، وتتفتح سرائرهم عن أزهار الشعر. ففي كل قلب ربيع، ومن كل قصيدة روض، وفي كل معنى وردة، وعلى كل قافية نغمة
هكذا تفيض الحياة على الجماد والنبات والحيوان، وينتظم الجمال الخليقة والإنسان، كأنما العالم كله فكرة واحدة، أو قصيدة خالدة!
ذلكم الربيع الذي فتن الناس فافتنوا في وصفه، والإبانة عن محاسنه، والإشادة بذكره، والاحتفال بمقدمه. فاتخذته الأمم على اختلاف المذاهب عيداً، ومجدته بشتى الوسائل تمجيداً، وأولع به الشعراء في كل قبيل، ولم يخل من المفتونين به جيل
والناس في مصر ربيع دائم، من أرضهم وسمائهم، وزرعهم ونيلهم. فهم لا يحسون مقدم الربيع إلا قليلاً. ولو أنهم عرفوا كلب الشتاء، وانجماد الهواء، وقشعريرة الأرض، وقسوة السماء، ورأوا كيف تموت الطبيعة في زمن، وتلتف من الثلج في كفن
وقد غاب في الثلج الربيع وحسنه ... كما اكتن في بيض فراخ الطواوس
ثم شهدوا كيف يأتي الربيع فيكهرب كل ذرة، ويفيض كل عين ثرة، ويخلق كل نضرة، لاحتفوا بالربيع احتفاء غيرهم، وعرفوا فيه النشور بعد الموت.
على أن للربيع في مصر دقائق يسر لها الإنسان، وشيات أبصرها الشعراء في كل زمان
جاء الربيع فليت في كل قلب من صفائه قطرة، وفي كل نفس من جماله زهرة، وفي كل خلق من عبيره نفخة، لتعمر النفوس بمعاني الحياة، وتستنير بأشعة الجمال، ويسكن الناس إلى السعادة حيناً، وينسوا أساليب العداوة والبغضاء زمناً. وليت الناس جروا مع الحياة طلقها، ولم يفسدوا على الطبيعة خلقها، فأنبت الربيع في كل قسوة رحمة، وفي كل يأس أملاً، وفي كل حزن سروراً، وفي كل ظلام نوراً، ليتهم اجتمعوا على ورد الحياة متصافين، كما ترف على جداول الربيع الرياحين
(ولكن الإنسان قد حاول بادعائه وكبريائه أن يكون عالماً بذاته، فكان نشوزاً في نغم الكون ونفوراً في نظام العالم! فلو أنه اقتصد في تصنعه وائتلف كما كان بالطبيعة، لا تحد الآن مع الربيع فشعر بتدفق الحياة في جسمه، وإشراق الصفاء في نفسه، وانبثاق الحب في قلبه، وأحسن أنه هو في وقت واحد زهرة تفوح، وخضرة تروق، وطائر يشدو، وطلاقة تفيض على ما حولها البشر والبهجة!) (وبعد فان لكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة رسالة بليغة تؤديها إلى النفوس الشاعرة والفطر السليمة، فليت شعري أية رسالة يحملها الربيع إلى ذوي القلوب الواعية منا؟
قابل أيها القارئ بين الشتاء والربيع، بين رقدة الطبيعة ونهضتها، وإن شئت فبين موتها ونشورها، فستجد هذه الدورة على قصر أمرها قد تضمنت حكمة الحياة كلها. والى هذه الحقيقة يشير الربيع في رسالته إلى الناس!
عبد الوهاب عزام