مجلة الرسالة/العدد 90/محاورات أفلاطون
→ من الشعر المنثور | مجلة الرسالة - العدد 90 محاورات أفلاطون [[مؤلف:|]] |
من أدب الهند ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
18 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدأ هو نفسه، كما بدأ معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيراً منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحت من أحد عزيمته أن يقلب النظر في جوانب الموضوع كلها، وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخير ألا اعترضكما، أما إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا في أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيراً مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يرجى لكما من نفع
قال سمياس: لابد من أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل منا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستجيب عنه والذي لم يرد أحد منا أن يلقيه، خشاة أن يكون إلحاحنا مضنياً لك في حالك الراهنة
فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! ما أحسبني في أرجح الظن مستطيعاً إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءاً في موقفي هذا، ما دمت عاجزاً عن إقناعكم أنتم، وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوة ما عند طيور التم؟ التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريداً عنها في أي وقت آخر، مع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطاً منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراء أن طيور التم، إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وأن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عن أبولو، فاستطلع في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل، فأنا أظن أن قد آتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحاً من التم. فلا تحفلا بعد هذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام
قال سمياس: حسناً يا سقراط، إذن فسأنفض إليك مسألتي، وسينبئك سيبس بمشكلته، فإني لأقول مجترئاً إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقيناً، مادمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا، فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يخبرها من كل جوانبها. فينبغي للمرء أن يثاير حتى ينتهي إلى أحد أمرين: إما أن يستكشف حقيقتها أو يعلمها، فإن استحال ذلك فإني أحب له أن يأخذ بأقوم الآراء البشرية وأبعدها عن التنفيذ، وليكن ذلك طوفه الذي يسبح به في الحياة - وأني مسلم بأنه لن يفعل ذلك دون أن يتعرض للخطر، إذا هو لم يستطع أن يجد من الله كلمة تسير به على هدى وطمأنينة
والآن فسأجسر، كما تريدني، على أن أستجيبك، لأني لا أحب أن آخذ على نفسي فيما بعد أنني لم أدل برأيي في حينه الملائم، فغني إذا ما قلبت النظر في الموضوع يا سقراط، سواء أكنت وحدي أم كنت مع سيبس، بدا لي أن التدليل لم يكن حاسماً
أجاب سقراط - إنني لأعترف يا صديقي أنك قد تكون مصيباً، ولكني أحب أن أعلم في أي ناحية لم يكن التدليل حاسماً
فأجاب سمياس - في هذه الناحية: ألا يجوز أن يستخدم أحد هذا الدليل بذاته في القيثارة والانسجام - ألا يحق له القول إن الانسجام شيء خفي، غير جثماني، لطيف إلهي، موجود في القيثارة المنسجمة، ولكن القيثارة والأوتار، مادة، وهي مادية متألفة من أجزاء أرضية، وتربطها القربى بالفناء؟ وأنه إذا تحطمت القيثارة أو تقطعت أوتارها وتمزقت، فإن من يأخذ بهذا الرأي يدلل كما تدلل أنت، وبالتشابه نفسه، على أن الانسجام يبقى حياً ولا يفنى، لأنك لا تستطيع أن تتصور، كما يجوز القول، أن تبقى القيثارة بغير أوتارها، بل وتبقى الأوتار الممزقة نفسها، على حين أن الانسجام الذي يمت بأسباب القربى إلى الطبيعة السماوية الخالدة يفنى - بل ويفنى قبل الذي هو فان. سيقول إن الانسجام لاشك موجود في مكان ما، وإن الفناء سيصيب الخشب والأوتار قبل أن يصيب ذلك الانسجام، وإني لأشك يا سقراط أنك ستأخذ، أنت أيضاً، في الروح بهذا الرأي الذي نميل جميعاً إلى الأخذ به، وستذهب كذلك إلى أن الجسد إنما أقيم وارتبطت أجزاؤه بفعل عناصر الحر والبرد والرطوبة والجفاف وما إليها، وأن الروح هي ما بين هاتيك العناصر من إنسجام، أو هي مزاجها المتزن المتناسب، فإن صح هذا نتج بداهة أن أوتار الجسد إذا ارتخت أو أجهدت بغير مبرر بسبب الفوضى أو أي فساد آخر فنيت لذلك الروح جملة واحدة، برغم ما بها من ألوهية غالبة، مثل سائر الانسجامات التي تكون في الموسيقى أو آيات الفن، ولو أن بقايا الجسد المادية ربما لبثت طويلاً حتى يدركها الفناء أو الاحتراق. والآن، إن زعم زاعم بأن الروح تفنى أولاً فيما يسمى بالموت، باعتبار أنها ما بين عناصر الجسد من انسجام، فبم نجيبه؟
(يتبع)
زكي نجيب محمود