مجلة الرسالة/العدد 90/في الأدب الإنجليزي الحديث
→ محمد عشماوي صقر | مجلة الرسالة - العدد 90 في الأدب الإنجليزي الحديث [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
بيرون وشلي وكيتس
للأستاذ بشير الشريقي
بيرون وشلي هؤلاء الأقانيم الثلاثة أعظم شعراء الإنجليز وأشهرهم. عاشوا في القرن التاسع عشر الميلادي وامتازوا بشعرهم الوجداني وطريقتهم الخيالية الابتداعية، لم يتكلموا إلا عن مشاهدة وتصور واعتقاد، ولم يتقيدوا تقيد المدرسين بالصناعة اللفظية ولا بالحقائق العلمية
لقد خصت الآلهة الشعراء الثلاثة بأقل نصيب من العمر، فقد كان سن بيرون يوم ثكلته عرائس الشعر ستة وثلاثين عاماً فقط، وشلي ثلاثين، وكيتس ستة وعشرين؛ ولكنهم وإن لم ينسأ لهم في آجالهم استطاعوا أن يملأوا أرجاء هذا العمر بأوفر نصيب من الشعر القوي والاعتراف الشجي والنسيب الفتي، لقد هتكت عن أنظارهم مسدلات الحجب، فجرى عنهم غير ما في الكتب
اللورد بيرن
1788 - 1824
إذا كان رأي أدباء اليوم، أدباء القرن العشرين، في اللورد بيرون كرأي معاصريه فيه، وجب أن يعد هذا النبيل الجميل أنبغ شعراء الإنجليز من غير نزاع؛ لقد ظفر بشهرة لم يظفر بها أحد سواه، وعلى يديه انتظم الشعر الإنجليزي لأول مرة ساحة الشعر الأوربي
في عام 1820 نظم لامرتين قصيدة غراء كلها إعجاب ببيرون؛ وكذلك تنبأ ماثيو أرنولد أن الأمة البريطانية يوم تحتفل في ختام عام 1900 بذكرى شعرائها الأعلام، شعراء القرن التاسع عشر، سوف تضع اسم بيرون في طليعة عباقرة الشعر
لم يكن بيرون فناناً عظيماً ولا ثاقب النظر، ولم يجد فيه العالم إلا أنموذجاً في صناعة الشعر، ولكنه كان في ذاته صورة مغرية في الربع الأول من القرن التاسع عشر؛ اتحدت شخصيته بشعره لدرجة صعب معها التفريق بينها، وحتى قالوا: حياة بيرون هي أحسن شعر بيرون؛ وقد تحدر من عائلة توورث بين أفرادها على ما يظهر ضعف الأعصاب؛ كان والده رجلاً شريراً فظاً، وكانت أمه متقلبة شديدة، وتوفي عمه وهو في سن العاشرة، فانتقل إليه لقب اللوردية، وهكذا لم يكن في ثقافة بيرون ما يعلمه ضبط النفس أو إنكار الذات في سبيل الصالح العام، فثار حين ألقى إلى تيار الزمن على مضايقات المجتمع ومضايقات القانون التي صدمته في رغباته الخاصة
لقد وجد - لا نقول ثقف - في مدرسة (هارو) ومن ثم في (كمبردج)، ثم قام بسياحة استغرقت عامين، واليونان هي التي صيرته شاعراً؛ وحين عاد وطنه، وكان قد نشر وقائع رحلته في الفصلين الأولين من كتابة (تشايلد هارولد) وجد نفسه شاعراً محبوباً مشهوراً
وأصبح بيرون الشاعر الجميل محور الحياة الماجنة في لندن، منغمساً في المعابثة واضعاً نفسه بين يدي هواه من النساء، ثم يتزوج في سنة 1815 بالآنسة ملبانك ولكن تهجره زوجه بعد أن تضع له طفلة وقبل أن يمضي على زواجهما عام واحد، والى الآن لم يقف أحد على السبب الحقيقي لهذا الهجران، غير أن الناس انتصروا يومذاك لللادي بيرون، وفي سنة 1816 ترك زوجها انجلترا إلى غير رجعة، فعاش في سوتيز رلاند (سويسرا) وإيطاليا 1816 - 1824 ينظم أحسن شعره ويتسلى بصداقة شلي، وينعم منذ ذ1819 بأكثر من صداقة الكونتيس كويسيولي
وهنا لا يغرب عن البال أن هذا الشاعر بينما كان يطلب لنفسه لذاتها ولهوها ويرى في الأنانية دستور الحياة، نجده قد تأثر إلى أقصى حد بالروح الوطني العام الذي انبعث في أيامه في بلاد اليونان، إنها الرغبة في مساعدة الغير على نيل الحرية هي التي رمت به سنة 1823 في القضية اليونانية وجعلته يطالب لليونانيين بالاستقلال عن الأتراك
ذهب اللورد بيرون إلى اليونان وساعد على إيقاظ شعور القوم الوطني وفي توحيد كلمتهم حتى جعلهم كرجل واحد في معركة الحرية والاستقلال، وفي (ميسولونيا) أصابته الحمى فهدت جسمه الذي أضنته حياة الفوضى التي غرق فيها هذا اللورد الشاب إن في موته وحيداً في بلاد الغربة ما يحز في القلب، لقد كان أشبه ما يكون يقبس لطيف من نور الشمس الذهبي ألقي وسط العالم في يوم مظلم عاصف
لشعر بيرون تأثير في القلب، وعلوق بالنفس، لأنه استطاع أن يصور به حياته وهي كما رأيت شائقة غاوية، حياة شباب جميل موسر انغمس في اللذات وانكب على الملاهي حتى مل وسئم، حياة لهو ومخاطرة، يتخللها شك مقلق وتبرم من الأقدار التي قضت على كل طيب وجميل بالانحلال البطيء والموت السريع وفي الحق كان كل ما أخرجه الشاعر للناس قوياً عجيباً فاتناً من باكورة شعر (ساعات البطالة إلى (عروس أبيدوس من الفصلين الأولين من (تشايلد هارولد) إلى الفصلين الأخيرين منه، من القصص الشرقية، إلى الأغاني العبرية، من (سجين تشيلون (بونيفار الذي صد هجوم دوق سافوي عن جنوه) إلى القصيدة الروائية (مانفرد إلى نظمها في إيطاليا على نسق رواية (فوست) وذكر فيها السحر والأرواح وخوارق الطبيعة، من (يوم الحساب) وهي من أقوى الهجاء الحديث إلى (الدون جوان) من رثاء تاسو (الذي اعتقل بتهمة الجنون لأنه أحب ليونورا ابنة الدوق) إلى (مارنيو فاليرو المأساة التاريخية - كان يرافق عبقرية بيرون سهولة تامة وقدرة عجيبة في التعبير عما يجيش به صدره
وهنا علينا أن نذكر أن في اللورد بيرون الفنان، عللاً كثيرة، فهو لا يكاد يحسن صناعة الشعر ولا ربط الفكر ولا اختيار العناوين، ذو أسلوب بسيط مضطرب، ولكن على الرغم من كل ذلك فان وليام فورس يقول عنه إنه أعظم ذخيرة أدبية في هذا القرن التاسع عشر
إنه شاعر الحرب، لهذا سوف لا نقدر على وفاء حقه في هذه الأيام التي يسود فيها السلام
برسي شلى
1792 - 1822
ولد شلي عبقرياً مفرداً فلم يكن له مثيل في بارونية من البارونيات الإنجليزية الفنية، لقد قاوم وهو يافع، ما كان يسود في طبقته من آراء وعقائد وتقاليد، وفي مدرسة (إيتون) وفي جامعة (أكسفورد) كان في تصادم دائم مع (المحافظين)
نشر عام 1811 مقالاً بعنوان (حاجتنا إلى الجحود) طلب فيه من جميع مديري الكليات أن ينزلوا إلى مناقشة آرائه وتفنيد هرطقته مما أدى إلى طرده من الجامعة. وفي ذلك العام تزوج بهاريت ويستبرون، وهي فتاة في سن السادسة عشرة؛ ولدت له طفلين ثم هجرها عام 1814 من أجل ماري كودوين ابنة وليام كودوين الكاتب الروائي والسياسي؛ وبعد عامين، حين أغرقت هاريت نفسها في التيار، أصبحت ماري كودوين السيدة شلي ولكن محكمة تشانسري حرمت الشاعر حضانة ولديه وفي عام 1818 ترك شلي إنجلترا إلى إيطاليا حيث قضى بقية عمره وكان دائم الاتصال باللورد بيرون
أحسن شعر شيلي ظهر في السنوات الأربع الأخيرة من عمره، وبعبارة أخرى أن شعره لم ينضح حتى سنة 1818، ومن أقوى وأمتن قصائده الطويلة، الروايتان الغنائيتان (ميتوس الغير محدود) و (هيلاس). وتمثل هيلاس يقظة اليونان وتأييد العالم لهم في ثورتهم على الأتراك
ولكن إذا كانت إجادة شلي تامة في هذه القصائد الطويلة فان إبداعه كان عظيماً كذلك في مقطعاته الغنائية التي نذكر منها قصيدة (القبرة) و (الضباب) و (أدونيس) و (غناء كونستانيا) و (الريح الغربية) و (إلى الحرية) و (إلى المساء)
كان شلي من بين الشعراء أجمعين شاعر المثل الأعلى، استطاع أن يتصور في أخلاق الإنسان وحياته كمالاً هو أسمي بكثير مما عرف حتى الآن
لقد ثار على كل ما يحط من قدر الإنسان ويحول دون تطوره السامي مدفوعاً بحبه العظيم للإنسان وإيمانه بزمن آت هو خير من زمانه
وقد أدرك بواسع علمه وثاقب رأيه أن فكرة الإنسان عن الله تتناقض كثيراً وفكرة الحق والعدل والحقيقة، وهكذا يشوه التلوين الإنسان الصورة الإلهية كما يشوه زجاج نافذة مصبوغ جسماً تراه من خلاله، أو كما يوضح شلي ذلك في قوله: الحياة أشبه ما تكون بقبة من زجاج كثير الألوان
تلطخ أضواء الأبدية البيضاء
إلى أن يحطمها الموت
فان كنت تود أن تلتقي بهذا الذي تفتش عنه فمت إذن! تطلع شلي تطلع مشتاق إلى يوم قريب يتحقق فيه المثل الأعلى، وعلق آمالا كباراً على الثورة الفرنسية، ولكنه حين شاهد ما منيت به النظريات السياسية من فشل أحس بيأس مؤلم
لو طال عمر شلي عتنق مبادئ (وردزوس) الإصلاحية ولقال معه إن تقدم الجنس البشري يتوقف على رقى الفرد وتطوره، ولكنه عاش حياة قصيرة. ولد عام 1792 وغرق عام 1822 بانقلاب قاربه أثناء اجتيازه خليج اسبيزا، ولما أخرجت جثته من البحر أحرقت على الشاطئ بمحضر من اللورد بيرون وبعض الأصدقاء ودفن رمادها في مقبرة البروتستنت في روما وقد كتب على قبره هذه الكلمة (قلب القلوب)
جون كيتس
1795 - 1821
يرقد كيتس حيث يرقد رماد شلي في مقبرة البروتستانت في روما، وقد نقش على قبره تنفيذاً لرغبته هذه الجملة (هنا يرقد من أشبهت ذكراه سفراً ألقى في الماء)
ولد من أبوين غير شاعرين، فكان والده يعمل في إسطبلات الخيل المعدة للإيجار في لندن، ولكن سرعان ما أصبح هذا الشاعر (اللندني) شاعر اليونان الحديث، سرعان ما أصبح هذا الطبيب (تحت التمرين) رسول الجمال، وموجد المدرسة المنسوبة خطا إلى تنسون
اهتم كيتس بدراساته الطبية، ولكنه لم يجد لها طعماً، فهجرها عام 1817 وهو العام الذي ظهرت فيه مجموعته الشعرية الأولى، وفي عام 1818 ظهرت له قصيدة (أنديميون فانتقدتها المجلة (الفصلية) ومجلة (الغابة السوداء) انتقاداً لاذعاً سفيها آلم الشاعر كثيراً، ولكن هذا الظلم الأدبي ليس هو الذي عجل بموت كيتس كما ظن شلي، وإنما داء السل هو الذي كان علة موته الباكر
ظهرت أجود شعره عام 1820، وفي ختام هذا العام رحل إلى (نايلز يرافقه صديقه (سيفرن) الذي وقف على العناية به امرأة طيبة، ظلت مخلصة في خدمته إلى أن توفاه الله في روما في شهر شباط سنة 1821
لقد نضجت عبقرية كيتس بسرعة مدهشة كما نضجت عبقرية شلي، وعلى الأخص ذوقه الفني إذ سرعان ما صلح، وسرعان ما كمل
قد تكون قصيدة (أنديميون غنية في الكلمات وفي الصور، أما فيما عدا ذلك فلم تكن بذات خطر. إنها تظهر رغبة الشاعر في جمال الأسلوب فحسب. ولكن إن نحن انتقلنا إلى مقطوعاته اليونانية الأخيرة التي وصفها بيرون بأنها (سامية سمو ايشيلوس) أدركنا الفارق العظيم بين شعره الأول وشعره الآخر الذي منه (لميا وهي قصة شاب اقترن بأفعى متخذة صورة امرأة جميلة، و (ايزابيلا) التي تكشف لنا عن مقدرة كيتس التامة في تأليف القصص الشعرية، (والأناشيد الستة) الباقية على الزمن وما الذي كان ليعجز عبقرية كيتس لو قدر لها أن تعيش؟ إن موته المبكر كان أعظم نكبة حلت بالشعر الأنجليزي، لقد استطاع أن يتعلم من فنه ومرانه وجده خلال البرهة التي مرت بين نظمة (لأنديميون) ونظمه (الأشيد الستة) ما لم يتعلمه شاعر إنجليزي آخر في مثل هذه الفسحة من الزمن
لكي نتفهم نفسية هذا الشاعر ننقل هنا بعضاً من أقواله: (أنا رجل إحساس أكبر مني رجل تفكير)
(ليس في حس يمكن أن يخضع للجمهور أو لأي شيء في الوجود، إنما يأسرني الكائن الخالد، والجمال الخارق، وذكرى الرجال العظام)
(لم أستطع أن أعيش من غير حب أصدقائي، وإني لأقفز إلى أسفل جهنم من أجل الصالح العام، ولكني أكره الشهرة التي تقزز النفس)
(قد سبب لي نقدي لنفسي من الألم ما لم يسببه نقد المجلة (الفصلية) أو نقد مجلة (الغابة السوداء)
(حين أشعر بأني على حق أحس بنشوة طرب لا أحس بها حين يثنى على الناس)
(أرى أنه لا يوجد مطلب يستأهل الطلب، اللهم فكرة عمل الصالحات) (ليس أمامي سوى طريق واحدة)
(أحسن أنواع الشعر، هو ما أهتم له وما أعيش له) (سوف لا أخلف ورائي حين أموت عملاً خالداً، سوف لا أخلف ما يثير إعجاب الأصحاب عند ذكراى؛ ولكني همت بالجمال كما ينبغي)
الجمال الحقيقة، والحقيقة الجمال، هذا كل ما يجب أن تعرفه في الدنيا وكل ما تحتاج إلى معرفته
(شرق الأردن)
بشير الشريفي