مجلة الرسالة/العدد 90/على ذكر الربيع
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 90 على ذكر الربيع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
شجرة المشمش
بقلم الأديب حسين شوقي
عندما فتحت صباح اليوم نافذتي التي تطل على الحديقة، تولاني العجب حينما شاهدت شجرة المشمش في ثوب زاه قشيب، وكانت بالأمس عارية يابسة. . . . حقاً! ما أبهى شجرة المشمش في ثوبها الأبيض المزدهر، كأنها فتاة تتأهب لحفلة زفافها! من ذا الذي أتى بهذه المعجزة؟ من؟ هو أنت أيها الربيع، يا ألطف السحرة وأمهرهم؟
ولكن ظهور الربيع فجأة أعاد إلى قلبي ذكريات عزيزة، وإن تكن حزينة مؤلمة. .
إن قدوم هذا الربيع ذكرني بربيع آخر قضيته في باريس، حينما كنت طالباً بها. .
أذكر أنني ذهبت يوماً إلى حديقة (اللكسمبور) الغناء للمذاكرة في الهدوء والسكينة، قبل الامتحان بأسابيع، وبيدي كتاب (القانون المدني) للأستاذ (بلانيول) ولكن لم تكن عندي رغبة في المذاكرة هذا اليوم، لأن الطقس كان بديعاً؛ فالشمس أخذت تلمع في الأفق بعد احتجابها عنا طويلاً، والجو أخذ يعبق برائحة الربيع الزكية. . لشد ما كان جميلاً منظر جند الربيع، وهي تتسلق الأشجار في أثوابها الخضراء، وقد أخذت الطير تهتف وتصفق من فوق أغصانها لذلك الجيش الحليف الصديق، الذي أراجها من الشتاء البغيض. .
كنت أفتح كتابي لأقرأ فيه صفحة ثم أعود فأهمله لأتفرغ للنظر إلى التغييرات العجيبة التي تحدث في الطبيعة حولي. . . وكنت أغمض عيني، ثم استنشق - ملء الرئتين - عبق الربيع في نشوة عظيمة. . حقاً! لقد كانت بغيضة إلى نفسي تلك المذاكرة في هذا اليوم! مالي و (لبلانيول)؟ مالي وللعقود وتسجيلها؟ مالي وللحجز والاسترداد؟ والطبيعة تنجلي أمامي؟ وبينا أنا على هذه الحال، أفتح الكتاب لحظة لأهمله لحظات، إذ يرن من الخلف ضحك فتاة لم أنتبه إلى وجودها من قبل، وإذا هي تقبل فاسمعها تقول: إنك على حق! إنه لعذاب للنفس المذاكرة في مثل هذا الطقس البديع! أنا أيضاً لم أطق الذاكرة. . ثم أشارت إلى كتاب ألقته على الأرض. . وفي دقائق معدودة أصبحنا صديقين حميمين، وكأننا تعارفنا من زمان طويل، وكأن حديثنا هذا تتمة حديث قديم. . حقا! ما أمهرك أيها الحب في إحداث أمثال هذه المعجزات! تركنا مقاعدنا وأخذنا نطوف جوانب الحديقة لنعرف ما إذا كانت جنود الربيع قد احتلت أنحاءها الأخرى
ثم دعوتها إلى تناول العشاء معي، فقبلت الدعوة دون تردد. . والعجيب أني وجدت من الطبيعي أن أدعوها إلى تناول العشاء، كما كان عجيباً أن تجد هي أيضاً من الطبيعي أن تتقبل هذه الدعوة. . ما أعجب تصرفاتك أيها الحب! وفي أثناء العشاء التهمت صديقتي بالنظرات، معجباً كل الإعجاب بعيونها الكستنائية الصافية التي قامت على حراستها أهداب براقة فتية، وأعجبت بقوامها الرشيق، وثوبها البسيط الأنيق. . ثم صرنا تتلافى في كل يوم. . ولم يشأ أن يسأل أحدنا الآخر عن ماضيه. . ما شأن الماضي بنا؟ ما شأن الأشياء التي ماتت وانقرضت؟ لم نعذب أنفسنا بأوهام وأشباح؟ كذلك لم نشأ أن نفكر في المستقبل، لأن المستقبل لن يكون خالياً من الخطر والغموض. . أليس الفراق يراقبنا عن كثب؟ ألست طالباً أجنبياً تنتهي دراسته بعد أسابيع ثم يعود إلى وطنه؟ ما لنا وللمستقبل إذا كنا ننعم بالسعادة والحب في الحاضر؟
قضينا أياماً لذيذة سعيدة مرت كعادتها سراعاً. . . أي صديقتي العزيزة! إني لن أنسى وفاءك ما حييت! كم كنت تحثيني على المذاكرة عند اقتراب الامتحان، ونجاحي معناه الافتراق، معناه عودتي إلى الوطن. . ولو رسبت لطالت إقامتي معك. . ولكنك آثرت نفسي على نفسك، وقدمت مصلحتي على مصلحتك!
أي صديقتي المحبوبة! إن قلبي يتفطر حزناً كلما تذكرت يوم نجاحي، وقد جئت إلى الكلية أعرف النتيجة، فلما عرفت نجاحي طوقتني بذراعيك وقبلتني أمام الجميع بلا مبالاة من شدة الفرح، بينما لمحت دمعة تتحدر من عينك المحبوبة للفراق المرتقب!. .
أي صديقتي العزيزة! إني ما زلت أراك وأنت ترافقينني في مسيري لقضاء بعض حاجاتي قبل الرحيل، وقد تظاهرت بالغبطة والسرور كي لا تدخلي على الغم في الأيام القليلة التي سأقضيها معك في باريس! كنت فرحة وأنت تنتقين لي الهدايا التي سوف أقدمها لدى عودتي إلى أفراد أسرتي في مصر! أي صديقتيالعزيزة! إني ما زلت أراك تكفكفين دموعك خلسة حينما حجزنا تذكرة عودتي لدى إحدى شركات الملاحة! إني ما زلت أذكر عشاءنا منفردين في الفندق عشية الرحيل. . . لقد بدا عليك الحزن في أجلي مظاهره، لأنه لم يعد بعد في طاقة قلبك الرقيق الصغير أن يتحمل تلك (الكوميديا). . (كوميديا الفرح) والسرور التي كان يحياها في أيامنا الأخيرة. . أي صديقتي المحبوبة! كم كان مؤلماً يوم الفراق! لقد رجوتك ألا تذهبي إلى المحطة لأن الوداع في المحطات مؤثر من نفسه، ولكنك أصررت على الحضور زاعمة أنه في طاقتك أن تتجملي. . ثم حضرت. . وكنت فعلاً شجاعة في أول الأمر فقد أخذت تضحكين، كما جعلت توصيني بأن أبعث إليك رسالة من كل مكان أحله في طريقي. . ولكن عندما علا صفير القطر المزعج المؤذن بالرحيل، ضاعت شجاعتك فأخذت تبكين بكاء مراً، ولم يكن في طاقتي أن أخفف عنك لأني كنت في مثل حالك من التأثر. . . ما أطيب قلب تلك السيدة العجوز التي جلست أمامي في العربة، وقد أخذت تبكي لبكائنا وهي تتمتم: يا لله! ما أقسى الحياة!
أي صديقتي المحبوبة! إذا كان حبنا لم يعيش طويلاً فإن عزاءنا فيه أنه انقضى في أوج شبابه وريعانه!
وأنت يا شجرة المشمش! ذكريني في مثل هذا اليوم من كل عام بهذه الذكريات العزيزة، لأن القلب البشري ضعيف قد ينسى أحباءه يوما ما!
كرامة بن هانئ
حسين شوقي