مجلة الرسالة/العدد 90/الكتب
→ من هنا ومن هناك | مجلة الرسالة - العدد 90 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 25 - 03 - 1935 |
ترجمة نفسية تحليلية
2 - هو ذا تاريخ إنسان. . .!
للأستاذ خليل هنداوي
جبران (دمعة وابتسامة) كان رؤوفاً بالناس محباً للناس، راحماً ضعفهم، مشفقاً على بؤسهم، وهو - وإن يكن في نزعاته هذه مقلداً - فقد عبر عن عاطفة صحيحة صادقة لم تدنسها الأرض. فهو مؤمن بالعدل السماوي والرحمة المتغلغلة في كل جزء من أجزاء الكون، ولكن جبران الإنسان أفسد على جبران الهادئ هدوءه، وقلقه الحسي عمل قلقه الروحي. . . فالفقر والهجرة وموت الأعزاء والخيبة، كلها عوامل تألبت على جبران فخنقت فيه جبران الهادئ، ووترت أعصاب جبران القاسي، ومن يطفئ مثل هذه الثورة إلا خمرة (نيتشه) يتناولها بيد (زرادشت)؟
خلقت خمرة (نيتشه) عواصف جبران، وقد أثبت الناقد تأثير نيتشه في (العواصف) وهو تأثير لمن يرى؛ وعندي أن هذا التأثير مهما أحاطت به عوامل هذا الفيلسوف فهو لا يخلو من تأثير روح جبران الباطنية التي تمثلت أن الناس كانوا سبب خيبتها، فكرهتهم، لأن في كراهيتها انتقاماً لها منهم.
قد كان - في طوايا جبران - زرادشت راقداً، فأيقضه زرادشت نيتشه. . . وألهبه بروحه، وهتف به ليكون هداماً مثله، دافناً للأموات الأحياء!
لا يرضى النعيمي عن كل هذا التمرد ولا بعضه، لأنه لا يعرف للتمرد غاية. . . وإنما أظهر رضاه عنه في (غرباله) لأنه كان نفثة صادقة من فتى التفت إلى لباب الحياة، أو طفل صاح صيحة الحياة، برغم القابلة الواقفة على كل طفل يولد لتحول بينه وبين صيحته بالخنق أو بالسحق: هتف جبران برغم ذلك هتاف المرارة والحرقة، فوجد الناقد في هتافه تحرقاً للمجهول، فرضى عن هذا التحرق وإن لم يرض عن هذا التمرد. . . فنظر - كما قال جبران - إلى مستقبله لا إلى ماضيه، وأدرك الناقد أن هذه الثورة النفسية هي ثورة لم يخل منها فنان أو شاعر، وأي حجر ينزل في القاع بدون دوائر وأمواج. وهذه الثورة هي علامة الحياة. . .
صدق النعيمي في نبوءته؛ فإن جبران لم يطل تمرده، ولو طال تمرده لما كان شريفاً كالذي قلده في تمرده؛ فإن تمرد نيتشه ناشئ عن المثل الأعلى الذي وجده واتبعه، لا يثنيه ثان عنه إلا رده، ولا يحول بينه وبين مثله حائل إلا صده. أما تمرد جبران فهو تمرد تقليدي - كمن يمد لمصافحة يداً شائكة إذا أنكره أو يداً ملساء إذا عرفه. تمرد نيتشه لا يقبل رحمة من يشتمهم، ولا يرضى بهبة من يدعوهم أمواتاً لأنه هو الحي العظيم! أما جبران فهو يعمل لهم ويقبل صداقتهم ويبني فنه على عطفهم ومعونتهم. ولو أن نيتشه حل محل جبران وعرضت عليه - ماري هاسكل - هذه الخمسة والسبعين دولاراً هبة، فماذا كان فاعلاً؟ لكن جبران علل نفسه بأنه اليوم مستسلماً وغداً يتمرد ثائراً. . وجاءت ساعة التمرد فأعلن العصيان، ثم فاء إلى منطقة السكينة الصامتة، والحياة كلها متوزعة في منطقة الصمت
ما هي العوامل التي دفعت جبران إلى السكينة بعد تلك العاصفة الهوجاء؟
ذلك ما حاول النعيمي أن يسدل عليه ستاراً فيأتي بالعوامل الخارجية التي لا يسكن إليها العقل. فجبران المتمرد قد يكون سبب سكونه أنه لم يكن داعياً بتمرده إلى مثل أعلى تؤمن به روحه كما يذيعهيراعه. ولكن (زرادشت) الثائر في قلب جبران هو ذات (زرادشت) الذي هدأ، والذي أسماه (المصطفى) وفيه لا يزال نتيشه عرقاً حياً ينبض في قلب جبران!
يرى (النعيمي) في المصطفى جبران الاسمي الذي بلغ بخياله ما لم يبلغه بإرادته. . . جبران الذي هو في القاع وهدأ في مكانه. جبران الساكن الذي دفن جبران المتمرد! جبران الذي رضى عن الحياة بكل ما انطوت عليه الحياة؛ وقبل الحياة المتصلة اتصال كل ذرة بذرة وكل قطرة بقطرة؛ الحياة التي لا ينفصل ألمها عن فرحها وجميلها عن قبيحها! هذه هي القمة التي بلغها جبران وأراد النعيمي من جبران أن يبلغها!
يقف النعيمي عند هذه النقطة ولا يتقدم، ويبقى القارئ مشوشاً لأنه لا يستطيع أن يصل بين حلقة التمرد وحلقة الكون؛ وقد تركهما الناقد مقطوعتين. عرف مولد التمرد ولم يعرف مولد السكينة، ولكن المحلل اليقظ يسهل عليه أن يدرك أن في (جبران المصطفى) أثراً من روح (نعيمة الهادئ)
أما جبران الثائر فقد علمنا أنه وليد نتيشه، أما جبران الهادئ فأي (نتيشه آخر) ذهب بروحه إلى هذا الأفق.، وهداه إلى هذه الغاية؟ إن الناقد الحقيقي قد يساعد الشاعر على خلق نفسه وتتميم رسالته، والتغلب على الصدمات التي تعترض سبيله إذا كان فناناً. . . والناقد لا يحيط بمعاني العبقري إلا إذا كان ممن أوتوا من هذه العبقرية شيئاً. . والنعيمي هو صاحب فلسفة ومذهب في الحياة شامل، تراه في كل آثاره. ألم يحمل إلى جبران الثائر من هذا الطعام شيئاً؟ ألم يكيفه بشيء؟
أنا أعتقد بأنه أثر فيه وإن أخفى النعيمي هذه الصفحة تواضعاً منه، فجبران يوم كان يبعث بعواصفه المدمرة كان النعيمي يبشر بهذه الحياة الهادئة الساكنة. .
هذا هو كتاب (المصطفى) الذي يمثل الروح الشاملة المطلقة التي يبشر بها النعيمي؛ هذه الروح التي تضم إلى صدرها كل شيء، وتجعل صاحبها في أمن من الألم، لأن الألم عندها مفقود، وكيف يتألم من يؤمن بأن الحياة في كل حركة من حركاتها وفي كل سكنة من سكناتها ساعية دائبة وراء غايتها التي لا تحد!
(يتبع)
خليل هنداوي