مجلة الرسالة/العدد 9/شروح وحواشي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 9 شروح وحواشي [[مؤلف:|]] |
أدب القوة وأدب الضعف ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1933 |
في المرأة أيضا
كتبنا في العدد السابع كلمة عن العيد جاء فيها أن غياب المرأة عن المجتمع الإنساني جر عليه فيما جر الجفاء والجفاف والسآمة والفوضى. فوقع هذا القول من الجنسين البارز والمستتر موقع التسليم والرضا. ولكن قليلا من صالحي الإخوان لا يزالون يرون إقصاء المرأة عن الحياة العامة أمراً من أوامر الدين، وقاعدة من قواعد الخلق، فكتبوا إلينا وإلى بعض الصحف يفندون هذا الرأي بحجج انتزعوها من أحاديث الظنون، وهواجس الخوف، ومواضعات العرف.
أما صلة الحجاب بالدين فقد فرغ من توهينها العلماء من أمد طويل. وشديد على العقل أن يسلم بأن البدويات والقرويات ومعظم الحضريات (ومجموعهن يربى على تسعين في كل مائة من جميع المسلمات) قد تعدين بسفورهن حدود الله منذ ظهر الاسلام، ولم يأخذ على أيديهن إمام ولا حاكم حتى اليوم.
وأما الاعتقاد بأن احتجاب المرأة هو الضمان الوحيد لحصانتها وعفتها فذلك إفلاس للتربية، وسوء ظن بالدين، وإلقاء بالنفس إلى الرذيلة!
فلو أن الفتاة وهي صغيرة فتحت عينها على القدوة الحسنة، وأذنها لصوت الواجب، وقلبها لنور الله لوجدت من روحها القوى وضميرها النقي وزرا من الفتنة وعصمة من الغواية.
فالتربية الصحيحة إذن هي الضمان الذي لا يضر معه سفور، ولا ينفع بدونه حجاب، وهي وحدها السبيل المأمونة إلى الغاية التي قصدناها من تلك الكلمة، ولا زلنا نعتقد اعتقادا لا ظل عليه للريب أن غاية الكمال الاجتماعي أن يكون الرجل في كفة والمرأة في كفة من ميزان المجتمع، وتلك هي السنة التي فطرنا عليها الله، والنظام الذي فرضته علينا الطبيعة، والواجب الذي يتطلبه العدل، أما المجتمع الأعرج الأشل البليد الخشن، فغير جدير بالسباق ولا باللحاق في هذا العصر الطموح الطائر، ومجتمعنا بغير المرأة هو ذلك المجتمع: فهو اعرج لأنه يمشي على رجل واحدة، أشل لأنه يعمل بيد واحدة، بليد لأن حدة العواطف تنقصه. خشن لأن لطافة الأنوثة تعوزه.
لاحظ مجلسا من مجالسنا احتشدت فيه الرجال شبابا وشيبا فماذا تجد؟ تجد الحركات العنيفة، والأصوات الناشزة، والمناقشات الفجة، والأحاديث الجريئة، والكلمات المندية، والذوق العامي، والإحساس البطيء!
لاحظ هذا المجلس نفسه وقد حضرته امرأة (امرأة واحدة ليس غير) تجد الحركات تتزن، والأصوات ترق، والمناقشات تنتج، والأحاديث تحتشم، والكلمات تنتقى، والذوق يسمو، والإحساس يدق، ذلك لأن الرجل حريص بطبعه على أن يجمل سمته في عين المرأة، ويحسن صوته في أذن المرأة، ويسوغ رأيه في عقل المرأة، والأخلاق المكتسبة تبتدئ بالتطبع وتنتهي إلى الطبع.
جهل الأولون وظيفة المرأة فلم يعرفوها إلا متاعا وزينة، لذلك اشتد تنافسهم فيها وتنازعهم عليها واستئثارهم بها حتى ضربوا دونها الحجب، وأحصوا عليها الأنفاس، وبثوا حولها العيون، فجعلوها بذلك قينة لا شريكة، ومملوكة لا مليكة، وكان من جريرة ذلك عليها أن وهن جسمها لقلة العمل، وساء خلقها لفقد الحرية، وضعف تفكيرها لترك التدبير، وغفل ضميرها لعدم المسئولية، فلم تفكر إلا في حللها وحليها، ومدافعة الضرائر والجواري عن نصيبها من زوجها. . . لقد كان للأسلاف ولا شك عذر في إقصاء المرأة عن مكانها من المجتمع وخير أعذارهم انهم كانوا ينظرون إلى المرأة نظرهم إلى الكنز الثمين،. وكان من عادتهم في الكنوز أن يدفنوها في الأرض أو يحفظوها في الخزائن. ذلك إلى أن عمرانهم لم يكن من السعة والتعقد بحيث يطلب نشاط الجنسين جميعا، فحملَ الرجال وحدهم أعباءه وقالوا:
كتب الموت والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
أما نحن فبأي عذر نعتذر وعلى أي حجة نعتمد؟ إن الأمم الراقية التي نعاصرها ونصارعها لم تزل تنظر إلى المرأة نظر الأسلاف إليها، ولكنها عرفت كيف تحتفظ بالكنوز وتستفيد منها، فهي تعرضها اليوم في المتاحف أداة علم ومتعة، وفي المصارف رأس مال وقوة. وعمراننا قد زخر واستبحر حتى اعتدى فيه العمل على الراحة، والتنافس على العدل، والقوة على الحق، وتسلح الغربي في جهاد الحياة بقوى الطبيعة في السماء والأرض، ونحن ما زال نصفنا اللطيف قاعداً عن الإنتاج عاطلا من العمل.
أنا لا أريد أن ندفع بفتاتنا في أتون الحياة المستعر فتحمل الفأس، وترفع المطرقة، وتقعد للبيع، وتجلس للحكم، إنما أريد أن تعطى حريتها الطبيعية في حدود عملها الطبيعي، وأن تعلك كيف تساهم في شركة الزوجية، فتربي الولد، وتدبر البيت، وتدير الأسرة، وتعدل ميزانية الرجل، وتشعر أنها تعمل متضامنة مع بنات جنسها وبني قومها لتكوين أمة متماسكة الأجزاء وثيقة البناء لا ينال من وحدتها شهوة من هوى، ولا نزوة من جهل.
ذلك ما قصدنا إليه في تلك الكلمة الموجزة بسطناه اليوم بعض البسط لعل فيه جلاء لما اختلج في بعض النفوس من هذا الموضوع.
لعل في الثرثرة فائدة!
تريد (العاصفة) البيروتية أن تضع الموازين القسط للأدباء، فتقول فلان أحسن وفلان أساء، وهي لم توفق إلى إدراك الغرض القريب من الكلمة الواضحة التي وجهناها في عددنا الماضي إليها!! فقد قلنا لها ما خلاصته (أن محاولة التفريق بين أدباء العرب طيش ورعونة، وان التعصب للبلد كالتعصب للقبيلة نزعة بدوية ونغمة مملولة) ففهمت من ذلك أن الرسالة تقول: (. . . إن الإشادة بفضل أدباء سورية ولبنان على النهضة الأدبية في مصر ضرب من الطيش، وإن الإيجاز في الكلام نعرة بدوية ونغمة مملولة)
فإذا كان هذا مبلغ فهم العاصفة للكلام، فقد أخطأنا حين مضضناها بالملام، فان اللوم على العجز ظلم، والمناقشة مع الخبث مهاترة!
أحمد حسَن الزيات