مجلة الرسالة/العدد 9/ساعة مع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك
→ أدب القوة وأدب الضعف | مجلة الرسالة - العدد 9 ساعة مع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك [[مؤلف:|]] |
هل للشعر المرسل مكان في العربية ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1933 |
دقائق مجهولة من حياة الإمام محمد عبده
كانت نسائم الأصيل في مصر الجديدة قد أخذت تنفح جوها المحرور بالطراوة المنعشة حين غمزنا الجرس مستأذنين على الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد بك، وكان جوسقه الأنيق غريقا في سكون فلسفي حالم، وحديقته البهيجة ترف على جوانبها الأربعة بالجمال والعطر فتذهب عن صمته الانقباض وعن سكونه الوحشة، وكان كل شيء يقع عليه طرفك في الحديقة والدار يعلن عما وراءه من مزاج حكيم، وذوق فنان، ونفس شاعرة.
كان الأستاذ على عادته يستريض مع أرسطو في كتابه (الطبيعة) وهو السفر الثالث الذي يخرجه للناس من آثار المعلم الأول، وفي رأيه انه أجلّ كتب أرسطو وأدلها على سمو عبقريته وسر نبوغه. لقينا في البهو لقاء ذوي البيوتات الكريمة والأبهاء القديمة فسلّم في أريحية وحيا في هشاشة، ثم خيرنا بين مجلس الدار ومجلس الحديقة فاخترنا هذا، وجلس ثلاثتنا على كراسي قصيرة القواعد وثيرة المقاعد حول منضدة مستديرة فوقها مظلة صيفية على طراز ما يستعمله المصطافون على شواطئ البحار وفي فنادق الجبال، وجلس الأستاذ الحكيم قبالتنا على كرسي له ظلة كالعلبة المستطيلة تقي الجالس فيها وهجة شمس، أما كلبه الضخم الجميل فقد ذهب يتهادى في المماشي المزهرة، ومن حين إلى حين كان يعود ليداعب السامرين على قدر ما يفهم من الدعابة.
أخذ الأستاذ يطارحنا الحديث (على نحو ما كان يتحدث إلى تلاميذه صديقه أرسطو زعيم المشائين في مماشيه المظللة) بصوته النقي العذب، وجرسه العربي الواضح، وأدائه المتئد الموزون، ولهجته (الشرقاوية) التي ينثرها عمداً في خلال الحديث فتكسبه ظرفاً ورقة. ولطفي بك مسامر حلو النغمة، فكه اللسان، متفنن الحديث، متخير اللفظ، فلو رحت تكتب ما يقول لكان قريب الشبه مما تكتب. وبراعة الحديث صفة امتازت بها طبقته التي تأثر بها وأثر فيها من أمثال محمد عبده وسعد زغلول والهلباوي، فأنت في حضرتهم لا تشتهي الكلام لأن لذتك في أن تسمع، ولا تثير الجدال لأن همك في أن تستفيد. ومجلس لطفي بك يصدق الصورة التي رسمتها له في ذهنك قبل أن تلقاه من شهرته المستفيضة وأعماله المنشورة: فبديهته حاضرة وفكره نفاذ وبيانه أخاذ واطلاعه شامل ومنطقه مستقيم وهو يتوخى في حديثه الإفادة واللذة فسامعه لا ينفك راضي العقل ريان العاطفة.
وقصارى ما تقوله فيه أنه خلاصة الجيل الماضي بأسره، وتطبيق صحيح لمدرسة الأفغاني وعصره. وأوضح مظهر لهذا التطبيق كان في نزعته السياسية وطريقته الكتابية. ففي (الجريدة) نهج للناس سياسة مصرية خالصة لا تتصل بالدعوة
العثمانية ولا بالجامعة الاسلامية، وفي (الجريدة) ابتكر للكتاب أسلوباً لفظه قدر لمعناه، ووصفه طبق على موصوفه، وسبيله قصد إلى غايته. فكان مذهباً جديداً جرى عليه الصحفيون إلى اليوم وأصدق الأمثلة عليه أسلوب صاحب البلاغ.
ولطفي بك بارع في سلسلة الحديث سريع إلى اقتناص المناسبة فلا تخشى على الحديث في مجلسه أن يبوخ ولا على الصموت في محضره أن يحرج.
قال حينما استقر بنا الجلوس يعيد التحية ويفتتح السمر: أنا أقرأ ما تكتبونه في (الرسالة) بشوق ولذة. . . ويسرني ان الكتابة في مصر قد بلغت من الكمال الفني حد الاعجاب، فأصبحت للألفاظ دلالتها الدقيقة، وللأوصاف بيانها المقصود، أما الكتابة في (أيامنا) فكانت بالتقريب، فمعاني الكاتب تقريبية وألفاظها الدالة عليها تقريبية، والأثر الذي تتركه في نفس القارئ (إن كان مبهم أو تقريبي) فقال له أحدنا:
- ولكن سواد القراء يقرءون اليوم بالتقريب
- طبيعي! فالكاتب أيام كان يكتب بالتقريب كان القارئ لا يقرأ وإذا قرأ لا يفهم، فلما ارتقى الكاتب إلى التدقيق ارتقى القارئ إلى التقريب.
ولقد تصرف كتاب العصر في فنون الكتابة فعالجوا بها شتى الأغراض في براعة وحذق. ولذلك لا أوافق الدكتور طه على جعله النثر لسان العقل والشعر لسان العاطفة فان من النثر ما يكون شعراً.
ثم تشاجن الحديث وتشقق بعضه من بعض فتناول المويلحيين والخضري وشوقي وأبا النصر والأفغاني والطويل حتى أدى إلى علاقته بالشيخ محمد عبده فقال:
- تخرجت في مدرسة الحقوق وأنا في الثانية والعشرين من عمري فرغبت الأسرة في زواجي فأوعز أبي إلى أمي ان تكلمني في ذلك فأبيته، ولم يشأ والدي أن يفاوضني بنفسه في ذلك الأمر فلجأ إلى الشيخ عبده وكانت المعرفة قد اتصلت بينهما بسببي فدعاني الشيخ إلى داره. . . .
- لقد كان حسنا من الإمام أن يجمع قلوب الشباب حوله ويتدخل بالنصح في أمورهم الخاصة.
- لم يكن الأمر في التعميم والإطلاق على ما فهمت، فقد كان الشيخ في علاقته بالناس على انقباض وتحفظ والشباب أنفسهم هم الذين سعوا إليه والتفتوا حواليه لأنه كان بطبعه رجل ثورة، ولأن اتصاله بصالون نازلي هانم ومصطفى فهمي وكرومر أوهن أسبابه بالقصر وأيبس ما بينه وبين الخديوي، ولأنه كان يدعو إلى الإصلاح والتجديد فكان قريباً بنزعته إلى هوى الشبان، ولأنه كان ينتدب في كل عام لامتحان طلاب الحقوق المنتهين وقد اتصلت به معرفتي بسبب ذلك الامتحان نفسه. . .
- شت!! فكف الكلب المطيع عن النباح وكان ينبح شيئا أو شخصا خارج السور.
- فجاء الكلب الوديع حتى دنا من سيده.
- فانتبذ مكانا قريبا ونام.
ثم عاد الأستاذ إلى حديثه يقول: اقترحوا علينا في امتحان الإنشاء أن نكتب في هذا الموضوع: كيف كان للحكومة حق عقاب المجرم؟ وجعلوا زمن الإجابة أربع ساعات على ما أظن. فكتبت المذاهب الأربعة التي قررها العلماء في هذه المسألة ثم عقبت عليها ففندتها ونفيت أن يكون للحكومة على أي شكل من أشكالها (حق) عقاب المجرم لأنها قائمة على القوة لا على الحق. وأسرفت في التدليل على ذلك حتى ملأت الكراسة ثم خرجت فذكرت لرفاقي ما أجبت به فاضطربوا واكتأبوا وقرروا جميعاً أني لا محالة راسب، ثم اشتد من جانبهم اللوم والتقريع حتى ذهب من نفسي كل أمل في النجاح فلما كان يوم الامتحان الشفهي وقف الشيخ فقرظ موضوعي وكان قد وضع الدرجة النهائية، ولكنه نصح لي أن اقتصد الآن في هذه الآراء إشفاقا علي.
وكم للشباب من شطط في الآراء.
زرت الشيخ بعد ذلك في جهة شارع الشيخ عبد الله نائبا عن فريق من الطلبة التمس منه أن يقرأ لنا درساً في التفسير بمسجد الفتح على مقربة من مدرسة الحقوق، فأجاب الملتمس وانضم إلينا طلبة من دار العلوم فكنا بين الثلاثين والأربعين. وهنالك قويت الصلة بيني وبين الشيخ حتى بلغت حد الألفة.
وفي سنة 1897 سافرت في الشتاء إلى جنيف لغرض سياسي، فانتهزت هذه الفرصة وانتسبت إلى جامعتها في دروس في الأدب والفلسفة أقامتها في الصيف خاصة للحاصلين على درجة علمية، واتفق أن جاء الشيخ وسعد بك زغلول وقاسم بك أمين مصطافين وكان المرحوم قاسم بك يشتغل في كتاب تحرير المرأة وكان يقرأ لنا غالبا بعد الظهر في كتاب للفيلسوف الفرنسي (تين) ومن العجيب إننا كلما التوى علينا فهم عبارة كان الشيخ وهو أقلنا علماً باللغة الفرنسية، يجلو لنا غامضها.
سافر سعد باشا وقاسم بك وبقى الشيخ عبده فانتسب معي إلى دروس الأدب واقبل عليها بجد ومثابرة، وأذكر أن أستاذ الأدب كان قد قرر علينا فيما قرر كتاب (روي بلاس) لفكتور هوجو نقرأه وندرسه ثم نناقشه وننقده في الدرس أمامه فلما جاء يوم المناقشة أدلى كل طالب برأيه والأستاذ يعقب على الآراء فيخطئ ويصوب ويصحح حتى نخرج آخر الأمر بطائفة صالحة من الآراء الصائبة. وخرج الشيخ شديد الإعجاب بما رأى وسمع وقال: هكذا يكون التعليم! نحن في بلدنا لا نعلم واعتزم أن يدخل هذه الطريقة في الأزهر.
كان مراحنا ومغدانا قبل الدرس وبعده إلى حلوانية تجاه الكلية تدعى (اكسلين) ويأبى الشيخ رحمه الله إلا أن يدعوها (اخصلين) على الرغم من وسامتها الظاهرة. وكان زيه وعمامته قيد الأبصار وموضع التساؤل ومستجر الحديث في كل مكان نحله. وهنا ذكر الأستاذ بعض الطرف التي تدل على ظرف الشيخ ولطف روحه ورقة شمائله ثم قال:. . . وكان من عادتنا أن المتقدم منا ينتظر المتأخر عند هذه الحلوانية حتى نذهب إلى الدرس معاً. ففي ذات يوم جئت قبله فانتظرته ثم انتظرته حتى مضى الوقت الذي كان يصل فيه عادة إذا تأخر وكانت الجامعة قد استقدمت أحد العلماء الطبيعيين ليحاضر في استحضار الأرواح والدخول عام والزحام لا بد شديد، فلما أزف موعد المحاضرة ولم يبق إلا دقائق قلت للفتاة: إذا جاء الشيخ فأخبريه أني انتظرته إلى قبيل المحاضرة. ثم مضيت فدخلت مدرج المحاضرات من بابه الأعلى وأخذت مجلسي بين الحضور. ولشد ما كانت دهشتي حين وثبت إلى عيني عمامة الشيخ جالساً في الصفوف الأمامية بين سيدتين جميلتين، يميل على هذه مرة وعلى تلك أخرى!! فداخلني من أمر الإمام ما لم أكن أعهده. ثم خيل إلي أن الزمن يبطئ والدرس يثقل لأن رغبتي كانت تلح في الوقوف على جلية الخبر. فلما انتهت المحاضرة أسرعت في النزول إليه وفي عيني دهشة وعلى وجهي تعجب وبين شفتي كلام! وتبين الشيخ ذلك في هيئتي من بعيد، فصاح قبل أن أحدثه:
- تعال يا لطفي أقدمك إلى البرنسيس!!
وقدمني إلى الأميرتين نازلي وخديجة!
وكان ذلك أول معرفتي بالأميرتين المصريتين فدعتانا إلى الشاي في الفندق الفخم الذي تنزلانه.
وفي سنة 1898 رغب الشيخ أن يقضي معي أياما بالبلد. فما علم بمقدمه رجال الإدارة والقضاء بالمنصورة حتى توافدوا إلى لقائه، وفيهم المرحوم حشمت باشا، وحفل المجلس بالناس على اختلافهم ودار الحديث. فقال الشيخ فيما قال أن السيد جمال الدين كان يقول: إذا أردت أن تحكم على أخلاق أمة فاجلس في قهوة من قهوات الفقراء، فما انطبع في نفسك من الانفعالات فاحكم به على هذه الأمة من غير تحرج، فأخذت أنقض هذا الحكم وأفنده والشيخ يدافع عنه ويؤيده فاستحييت أن ألح في معارضة الشيخ في المجلس فأمسكت.
وفي العصر ركبنا جوادين، وخرجنا نرتاض في المزارع والحقول فعدت إلى ذلك الموضوع فقال الشيخ لا أدري لماذا لا تصدق هذا؟ أليست قهوة الفقراء تجمع الفقير الذي سيبقى فقيراً، والفقير الذي سيصير غنياً، والغني الذي صار فقيراً؟
وفي سنة 1905 أذكر إن الشيخ كان قادماً من الوجه القبلي وأظنه كان في السودان، فنزل عندي بالمنيا وكنت يومئذ نائبا بها، وحضر للسلام عليه رجال القضاء الأهلي والشرعي ووجوه البلد. فلما احتشد المجلس بالجمع قال أحد العلماء من رجال المحكمة الشرعية أن كثيراً من النصارى يدخلون في الإسلام فتضاعف بذلك شغلنا. فقال له الإمام: فيم تشتغل أيها الشيخ؟ فقال نعلمهم أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول له صل وصم وزك وحج فقال ولا بد أن نعلمه الوضوء. فقال قل له اغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك وامسح رأسك واغسل رجليك، فقال ذلك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي، فقال الشيخ بصوته الجهير في شيء من الحدة: سبحان الله يا سي الشيخ!! قل له يغسل وجهه! كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مساح!!
وهنا استأذنا الأستاذ الجليل في الانصراف على نية العودة إليه من حين إلى حين فنستزيد من طرائف هذه الأحاديث.
الزيات