مجلة الرسالة/العدد 9/القصَص
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 9 القصَص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 15 - 05 - 1933 |
في الأدب الإيطالي الحديث
الرواية في بونتاسياف!
للكاتب الإيطالي لوسيو دامبرا
وفعلا، لم تمض ثمانية أيام حتى كانت الغرفة قد أعدت! وهذا الحادث العظيم، هذا الحادث الغريب، حادث إصرار (مارك سيريني) على أن تمثل روايته الحديثة ولأول مرة، في قرية حقيرة لا يتجاوز عدد سكانها الخمسة آلاف نسمة، هذا الحادث الذي لا يصدق، أثارت الصحافة حوله ضجة كبرى، اقتحمت حدود إيطاليا وأقلقت صحافة أوربا بأسرها. ولقد كانت هذه القضية رنانة كسائر قضايا (مارك سيريني) ورنانة أيضا كانت عودة رئيس الشركة الأمريكية من (بونتاسياف) إلى (الستيديو)، حيث كان المؤلف، وسيجارته في فمه، ممتداً على أريكة وثيرة، يفكر بسيدة النافذة الشهية!!!
- كل شيء الا هذا!. . . لقد ذهبت أتعابنا أدراج الرياح: أني أعود من (بونتاسياف) إذ ليس فيها مسرح!!!
- ليس فيها مسرح؟ هذا أمر عديم الأهمية: إن بناء مسرح لا يستغرق أكثر من شهر، وهو الوقت اللازم للحفظ والمراجعات.
- ماذا؟؟. . . بناء مسرح جديد؟. . . وفي ظروف شهر واحد؟؟ لم يتحرك (سيريني)،. . نظر إلى طاولة عليها رزنامة من المعدن اللماع. وقال:
- أجل، في شهر واحد!. . . نحن الآن في سبتمبر، ولن يزال البرد شديداً حتى في أكتوبر في هذه البلاد،. . . وبعد، فان بناء مسرح خشبي يتسع لألفين شخص، لا يمكن أن يستغرق أكثر من ثلاثة أسابيع.
- وتزيينه؟. . . وتنميقه؟. . . في ثلاثة أسابيع؟ لن يكون هذا المسرح سوى براكة. . . .
هنا انتفض (سيريني) وأجاب بلهجة قاسية:
- لن يتسابق الناس لمشاهدة المسرح، بل لمشاهدة روايتي!!!
- 4 - لنختصر: لم ينتجع وسيلة لحمله على تغيير رأيه، ولو كان رئيس الشركة التي تعاقد معه إيطالياً، لترك الأرباح التي قد تنجم عن هذا الاتفاق، ولترك المؤلف يسدر في عناده وجنونه، ولكنه كان أمريكياً، وللأمريكيين عقل خاص، وتفكير خاص يميزانهم عن غيرهم. ولم يمض شهر، حتى كان كل شيء قد تم: حفظت الرواية وروجعت وأقيم المسرح في بقعة جميلة. أما ما جرى في (بونتاسياف) في ذلك الوقت، فأمر لا يستطاع تصويره أو وصفه، ولا شك أن بينكم أناساً وجدوا فيها، في ذلك الحين، وهؤلاء وحدهم يستطيعون أن يذكروا كيف احتلت الغرف المعدة للإيجار احتلالا لا يفرق عن الاحتلال العسكري بشيء، وكيف أن الجموع الغفيرة تسابقت إلى فلورانسا وإلى (اريزو) لتبحث لها عن مبيت، وكيف أنها عادت إلى (بونتاسياف) لتحضر تمثيل الرواية، وتعود بعد منتصف الليل إلى إحدى المدينتين المذكورتين. . ولا شك انهم يذكرون أيضاً أنه كان بين المتفرجين أناس تقاطروا من أقصى البلاد، بينهم كثير من النقاد المسرحيين، ورؤساء شركات التمثيل الأجنبية. . . . وقد كان بينهم صحفيون اضطروا خدمة للفن أن يبيتوا ليلة كاملة في القطار، وان يضيعوا يوما كاملا في ساحة (بونتاسياف) وأن يمضوا ليلة ثانية متعبة، في دائرة البرق، حيث ظن عامل التلغراف المسكين، إن الساعة اقتربت، وإن القيامة قامت!!!
وليست هذه بالمعركة الأولى التي استبسل فيها (مارك سيريني) بطبعه الهادئ الرزين، ولكنها كانت أشد المعارك كلها وأحماها وطيساً، لأن تلك الرغبة الشاذة، التي شاءت أن تضطر محبي الفن للمجيء إلى (بونتاسياف) تركت أسوأ الأثر في النفوس، حتى أن القادمين كانوا على أتم استعداد لأن يثأروا لأنفسهم!
وهكذا فانه قبل أن يرفع الستار بساعتين، أسرع أصدقاء (سيريني) إليه، وأخبروه أن الجو مكهرب، وأن عواصف السخط والغضب لن تلبث أن تصدم الرواية صدمة عنيفة، ربما كانت لا تقوى على احتمالها، ولكن المؤلف أجابهم بلهجة حازمة:
- إذا كانت لديهم سهام فليسددوها!. . وإذا كان لديهم قنابل فليقذفوها!. . أما أنا ففي غنى عن آرائهم: لا يهمني هذا المساء، غير رأي شخص واحد!
- امرأة؟
- طبعاً!. . ومن تريدون أن يكون إذن؟. . وزير؟ ولم يزد على ذلك كلمة لأنه كان يحرص كل الحرص على أن يخلص بسره لنفسه. . . أما الناس فقد ذهبوا في الظن كل مذهب. .
- 5 -
ومع ذلك، ورغم هذا الحرص فانه لم يضن على به. . من عادة (سيريني) أن يتخلف عن حضور رواياته، عند تمثيلها لأول مرة، ومن عادته أيضاً أن يدور حول المسرح كما تدور الفراشة حول الضوء، حتى إذا أخذ اللهيب بأحد أجنحتها لجأت إلى الهرب فإذا نسيت اللهيب وأثره في جسمها عادت تحوم حول الضوء وحول الخطر، و (سيريني) يحاول ان يتظاهر بالهدوء. وأن يتحدث عن أشياء لا مساس لها بالرواية حتى إذا أصابها الإخفاق فقد رزانته وشرع يصب جام غضبه طيلة الليلة بكاملها على تلك الجموع المأفونة التي لا تقدر الفن، ولا تفهمه، ولا تستحق أن تفهمه، ورماها بأقبح الوصمات وأشنعها.
أخذنا نتنزه سوية، ذلك المساء في أزقة القرية التي استحالت في ساعة من الزمن إلى ميدان تتزاحم فيه السيارات، ويتكدس بعضها فوق البعض الآخر. . وكان الشاعر يبتسم، ويطلعني بهدوء على الأسباب التي حدت به لأن يثير عليه سخط تلك الجموع الغفيرة، وكان يقول لي وهو يضغط على يدي:
- أفهمت؟. . أفهمت؟. . أني إذا كنت أصررت ألا تمثل روايتي لأول مرة إلا في (بونتاسياف) فلأني أريد أن استثير إعجابها!!. . تلك هي الغاية الوحيدة التي أرغب في إدراكها من غرامي الغريب!
- آه!. . . لو انك رأيتها في ذلك اليوم، لصهرك حبها رغم ما أنت عليه من (برود)، وبعد، فأنا لست أعتقد إن بين الذكور، رجالا ينطبق عليهم هذا الوصف، وإنما هم جميعاً في نظري، براكين هادئة. تثيرها مشاهدة امرأة، وتجعلها أشد هياجاً من البراكين الدائمة الإستعار! آه. . لو رأيتها وهي تطل من فتحة النافذة!. . . ها. . . . ها هي. . . . نافذتها!
- كانت نافذتها مغلقة، وهي ذات درفات خضر، وواجهة وردية. . . . كانت محكمة الغلق، لا يتسرب من خصاصها أقل بصيص نور، فسر (مارك) لذلك، وقال بلهجة المنتصر:
- لم يبق أحد في داره!. . . لقد ذهبت (المدينة) بأسرها لمشاهدة روايتي!. . . وهي، هي. . . هي في هذه الساعة، هناك، مأخوذة بجمال روايتي وقوتها، تكتسحها موجة الإعجاب التي أردت أن أتغلب عليها بها. . . . أني اقدم لها فخراً لا يعدله في العالم فخر. . . أقدم لها عيداً، بل مهرجاناً لا يحلم به أحد!. . . أي سحر؟. . . وأي عيون؟؟؟ آه!. . أني لا أتمنى إلا أن تبادلني الحب هذه الريفية الحسناء، أنا الشاعر المتعب. . أنا الشاعر الفتان، الذي تضايقه النساء، وتطارده. . تلك النساء اللواتي تجملهن المساحيق، وتزينهن (الكريمات) المختلفة. . . تلك النساء الكئيبات، اللواتي يلبسن جوارب بمائتين فرنك فقط. . . تلك النساء الفارغات القلوب، كبطونهن التي لا يملأنها خشية السمنة!!!
إن سيدة النافذة، على نقيض هذا كله: هي بسيطة رشيقة حقيقية الجمال، لها نفس، ولها قلب، ولها مواهب، ولها نباهة ولقد قرأت في عينيها ذلك الإعجاب اللامتناهي الذي تخصني به وتسبغه عليّ!
وأنا موقن أن هذه الحسناء قرأت رواياتي كلها، وأنها أصبحت تعرفها ولكن معرفتها بها لا يجوز أن تقارن بمعرفة صديقاتي المعجبات (باركهن الله) بما وضعت من روايات. . تلك الصديقات اللواتي يتسارعن لمشاهدة رواياتي عندما تعرض للتمثيل لأول مرة، وكأنهن يتسابقن (ليجبرن خاطري). . حتى إذا بدأ التمثيل أخذن في الثرثرة والمغازلة مع عشاقهن في زوايا المقصورات: إنهن لا يتقاطرن على المسرح من أجلي، أو من أجل رواياتي. . كلا!. . بل ليعرضن على الأنظار أثوابهن الحديثة!.
وألقى نظرة أخيرة على درفات النافذة، ثم أخذ يتجه نحو المسرح، كما يتجه الفراش نحو الضوء.
- أني أحبها. . أحبها حتى العبادة!. . ولأجلها وضعت هذه الرواية، وقد وضعتها بعاطفة لم اشعر بمثلها من قبل!. . أقسم لك على ذلك!. . . تصور. . . تصور انك ذات مساء، تبصر بين الحضور المرأة الوحيدة التي تحبك وتعجب بك إعجابا لا يحد بحدود، ولا يقاس بمقياس، تصور ذلك، وقل، ألا تدير (السانفوني) التاسعة إدارة لا تحسن مثلها في كل وقت؟ ألا تخرج منها ما لم يحلم (بتهوفن) نفسه أن يخرجه منها؟؟ إذن. . أنا اليوم أحارب هذه الجماهير كلها. من اجلها هي. أنا أحارب باسمها وبجمالها!
إن رواياتي إنما هي معارك، وحروب، وسباقات، إذن فهي لا تبعث على التثاؤب والملل، وإذن فهي لا تدع المتفرجين هادئين ساكنين، بل تحرك ما في نفوسهم من عواطف وميول وتحملهم على التفكير.
ماذا؟. انتصار؟. لم نكد ندرك المسرح، حتى هرع إلينا بعض الأصدقاء.
- انتهى الفصل الثاني منذ قليل: نجاح لا مثيل له!. . انتصار لا يعد له انتصار!. . ولكن أي جمهور في بدء التمثيل؟ جمهور عبوس حذر، إلا أنه لم يلبث أن خفف من حدته بالرغم منه حتى إذا كان التمثيل، لم يتمالك أيديه عن التصفيق وألسنته عن الهتاف: وهكذا، لم ينتهي الفصل الأول حتى ثارت عواطف التقدير، وانفجرت قنابل الإعجاب. أما الفصل الثاني، فهو الذي أتم الانتصار وجعل الستار ينزل بين رعود من التصفيق الحاد المتواصل، والهتاف العالي القاصف!!!. . . وقد اضطرت الممثلة (تيريز اندرياني) أكثر من عشر مرات متوالية أن تعود إلى المسرح، لتحية الجماهير المعجبة.
أيزاك شموش. حلب