مجلة الرسالة/العدد 9/العشق النجمي
→ هل للشعر المرسل مكان في العربية | مجلة الرسالة - العدد 9 العشق النجمي [[مؤلف:|]] |
هذا العذاب. . . ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1933 |
للدكتور محمد عوض محمد
لئن كنت أيها القارئ ممن وقاهم الله غائلة العشق، ولم تنفجر في
صدورهم قنابل الغرام، ولم تضع المقادير قلوبهم بين سندان الشقاء
ومطرقة البلاء، إذن فأحمد الله، واشكرجدك الباسم!
لكن إذا كنت خلياً فاذكر الشجي، ولا تمنعك السعادة من أن ترثي للشقاء؛ فأن لصرعى الغرام عليك حقا، أن تذرف من أجلهم لتراً أو لترين من الدمع الساخن، ثم تسقي به ثراهم وتروي به الطلحة الحزينة التي تظل جدثهم.
وأني محدثك اليوم عن ضرب جديد من العشق، أو على الأقل ضرب كنت أحسبه جديداً. . إلى أن ألفيته قديماً، شأن كل الأشياء التي يطلع علينا بها المجددون. .
بيد أن العشق الذي نحن بصدده، إن لم يكن جديداً، فقد استحدثنا له اسمأً جديداً. ودعوناه (العشق النجمي). . وهو كما ترى
أسم طريف؛ ليس في الكتاب من سبقنا إليه. . . ولا خير في كاتب لا ينهض للجليل من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأمور فيبتدع لها الجديد من الأسماء.
وأول من أصيب بالعشق النجمي فيما نعلم؛ أو على الأقل أول من سجلت أصابته رسمياً، هو العباس بن الأحنف إذ يقول عن حبيبته:
هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا
هكذا كان ذلك العشق المسكين: يطلب ما ليس إليه سبيل، ويظمأ والشراب عزيز، ويشتهي وقصارى جهده أن يشتهي.
ولعمرك مادام مناط حبه الشمس، فليس حظه منها سوى التطلع والتحديق، والزفير والشهيق. . هل كان يعلم عفا الله عنه! أن بينه وبين الشمس 92 , 000 , 000 ميلا في الصيف و 93 , 000 , 000 ميلا في الشتاء؟ وهي في كلا الحالين بعيدة المنال، ليس إليها في شتاء ولا صيف وصول.
ومن العبث أن ننصح أمثاله من العشاق أو نعذلهم، أو نطلب إليهم أن يصرفوا هواهم إلى الممكن المتيسر، والقريب الداني. وان يراعوا صحتهم، فأن في طلب المحال سقماً وسهداً وإن التحديق في الشمس يضني القلب كما يضني البصر. . ولكن هيهات. . .
إن المحب عن العذال دائماً في صمم.
وأحسب القارئ قد أخذ الآنيفهم ما أعنيه بالعشق النجمي. وأظنه يتوهم أن العشق النجمي هو عشق الشيء البعيد المنال. . لكن هذا ليس الذي أرمي إليه. إن العشق النجمي هو عشق النجوم نفسها. . أجل النجوم التي في السماء على طريقة العباس بن الأحنف المذكور. ورويداً يظهر لك ما أظمره، شيئاً فشيئاً.
هنالك أمراض تصيب الناس من آن لآن. لكنها تصيبهم فرادى. أي تصيب هذا مرة، وذاك مرة أخرى. ثم يأتي بعد ذلك زمان تصبح فيه تلك الأمراض وباء يجتاح العالم كله إقليماً بعد اقليم، وشعب بعد شعب.
وهكذا (العشق النجمي) كان فيما مضى يصيب الناس فرادى، فأمسى الآن وباء شائعاً فاشياً، قد ملأ السهل والجبل وانتشر في المشرق والمغرب. وسبب ذلك أن قد ظهرت في العالم سماء جديدة تدعى (السينما) وقد امتلأت أرجاؤها بالنجوم.
والعشق الذي تتأجج ناره في قلوب المغرمين ببعض هذه النجوم لا يختلف، في كثير ولا قليل، عن ذلك الهوى المبرح الذي وصفه لنا العباس بن الأحنف. وقد يظن بعض البسطاء أن نجوم السينما أدنى إلينا وأقرب منالا، إذ نراها أمامنا ونشاهدها بأعيننا. وهذا لعمرك خطأ محض! فإنها قريبة على بعد، بعيدة على قرب.
والشرق نحو الغرب أقرب شقة ... من بعد تلك الخمسة الأمتار. . .
والآن قد أدركت أيها القارئ ما (العشق النجمي) وأنه هو تلك اللوعة التي تحرق قلوب الناس في مشارق الأرض ومغاربها ومن أجل بعض النجوم التي تدور في أفلاك تدعى (الأفلام) في سماء يسمونها (الشاشة) البيضاء.
فالعشق النجمي أذن منسوب إلى نجوم السينما، وبالله لا تقل كواكب السينما! لأن الكواكب في علم الهيئة قريبة المنال دانية المزار ومن علمائنا اليوم من يحلم بالوصول إلى بعض الكواكب كالمريخ، أما النجوم فبعيدة بعد الشيء المستحيل وكذلك العشق النجمي فأن مرامه بعيد، ومأربه محال.
وأكبر ما يمتاز به هذا العشق أنه عذري. . فأنك قد تولع بنجمة فتانة من نجوم هوليود، فيمتلئ بحبها قلبك، وتملك عليك مشاعرك، فلا ترى في الأرض الفسيحة غير وجهها، ولا تسمع غير صوتها. هي حلمك إذا هجعت، ونجواك إذا صحوت. إن أبصرتها في قصة حزينة استولى عليك الحزن والألم. وإن أصابها برد أو زكام أصابك مثلها سعال وزكام. وإن رأيتها ويا للهول!، صريعة قتيلة، قطع الحزن نياط قلبك، وأظلم العالم في وجهك، فلا تزال كئيباً أسيفاً، جاحظ العين متقلص الشفتين، حتى تراها في فلم آخر فرحة ضحكة؛ فيسري عنك؛ وتبرق أسارير محياك. وتضحك حتى تبدو نواجذك. .
ومن الغريب انك لا تأخذك الغيرة حين ترى عشاقها الكثيرين، ولا تستنكر منها أن تبدل في كل فيلم زوجاً مكان زوج أو صاحباً مكان آخر. لا يهمك من هذا كله شيء لأنك لا تفكر في سعادتها، فكل ما ترضاه ترضاه. ويحلو في عينك ما يحلو في عينها. بل لقد ألهاك التفكير فيها عن التفكير في شيء آخر. . .
ثم أنت بعد كل هذا لا ترجو نوالا ولا وصالا، تعلم أنها بعيدة عنك بعد النجم. وإن قرّبها منك الفلم. وقد رضت النفس على هذا البعد الممزوج بالقرب، وهذا النوال المنطوي على الحرمان. وهذا الوصل الذي هو أدنى إلى القلي والهجران.
فلا تريد على حبك جزاء ولا لدائك دواء. ذلك أن هواك عذري أفلاطوني بريء. فلا تريد لنارك المتأججة أن تطفأ، ولا لغليك المستعر أن يشفى. حب هو الغاية والوسيلة، نار تأبى إلا اضطراماً ودمع يأبى إلا انسجاماً، وتنور يريد أن يفور، وكان يحلو له أن يثور. من غير مأرب تنشده، أو أمل تريد تحقيقه، أو غاية تبغي الوصول إليها. . بل إن الحب هو الشغل الشاغل عن كل أمل أو مأرب أو مرام. .
تلك إذن هي الظاهرة الأولى للعشق النجمي: انه هوى عذري طاهر عفيف نظيف. أما الظاهرة الثانية لذلك العشق. فهي انه يصيبك من بعيد. . وقديماً وصف لنا الشريف الرضي هذه الظاهرة فقال يخاطب نجمته!:
سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق. . . لقد أبعدت مرماك!. . .
ذو سلم هذا مكان في جوار المدينة المنورة، يكثر الشعراء من ذكره حين ينسبون. ولو كان لديك أيها القارئ مصور جغرافي لأمكنك أن تقيس المسافة بين العراق وذي سلم، ولعلمت أنها لا تتجاوز سبعمائة من الأميال. ومع ذلك يندهش
الشريف الرضي لان سهم الحب قد أصابه من ذي سلم والشاعر في العراق. لكن تلك المسافة لا تعد شيئاً إذا قورنت إلى البعد الهائل الذي يفصل ما بين هوليود وبين وادي النيل السعيد. . وأن النجمة الفاتنة لترمي بسهمها من تلك الأقطار القاصية.، فلا يلبث أن يصيب صميم الفؤاد، ويفتت الأكباد، في شرق العالم وغربه. لا تحول دونه بحار ولا قفار. . .
وفي الحب العادي قد يكون البعد من أسباب السلو، والبعيد عن العين بعيد عن القلب في زعم الناس. لكن البعد بين المحب والمحبوبة شرط أساسي في هذا الصنف من الغرام. بل إني زعيم بأن عاشق النجمة لو رآها على قارعة الطريق، وهي تبتاع شيئاً من الحلوى، أو داخلة إلى دكان الحلاق. . لرأى شيئاً كسائر الأشياء وامرأة كسائر النساء، ولما حدثته نفسه بأن قد يصيبه من مثل هذه قنبلة غرام. . بل ولا سهم ضئيل. .
كلا إنما يلعب حب النجوم بالأرواح عن بعد. ومن مستلزماته تلك الحجرات المظلمة القاتمة، تبعث في النفس رهبة، وتثير فيه شغفاً ورغبة. وهذه الأنوار الساحرة تنبعث من مكان خفي، وتسطع على لوح فضي: ظلام يتوسط النور، ونور يحيط به الظلام. وحسبك تلك الحال السحرية باعثة على الشجن، ومثيرة لمكامن الجنون.
وهكذا تستطيع النجمة، وهي على سواحل المحيط الهادي أن ترسل أشعتها إلى أطراف العالم، وتنشر شباكها في جميع الأقطار.
هذا وللعشق النجمي خصائص أخرى، ولكننا ضربنا عن ذكرها صفحا، لأنها تعد في المرتبة الثانية من الأهمية، وحسبنا ما ذكرناه وصفا لأعراض ذلك المرض. . أستغفر الله بل تلك العاطفة القاهرة، التي استرقت قلوب الناس من شباب وكهول، وصفدتهم بسلاسلها وأغلالها. وقد أسلموها قيادهم طائعين خاضعين. .
لقد تحسب أيها القارئ أن فيما ذكرناه غلوا أو أن نصيب الخيال فيه أكثر من نصيب الحقيقة. . وفي الحق أننا ما كنا نعلم أن لهذا الشيء وجوداً أو أن شره قد استفحل. وخطره قد أشتد إلى هذا الحد، لولا أن صديقنا العزيز (رشاد) قد أصابه ذلكالسهم، فأحزننا مصابه. ولقد تتاح لنا قريباً فرصة أخرى فنحدث القارئ بحديث ذلك الصديق وإن كان حديثاً أليماً.