الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 899/دفاع عن الثقافة العربية

مجلة الرسالة/العدد 899/دفاع عن الثقافة العربية

مجلة الرسالة - العدد 899
دفاع عن الثقافة العربية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 09 - 1950


للأستاذ عمر حليق

- 3 -

قال (بروكسي أتكنسون) الناقد المسرحي لمجلة النيويورك تايمس الواسعة النفوذ:

(على الرغم من أن الثقافة الأمريكية لا تلقي الاحترام الكافي في كثير من بقاع العالم إلا أن الأفلام والمسرحيات والكتب الأمريكية تلقى رواجاً واسعاً في تلك البقاع يعادل رواج البضائع والمنتجات الصناعية الأمريكية. فإن الروح التي تسيطر على معظم أسواق العالم).

ووضع الإنتاج الصناعي على قدم المساواة مع الإنتاج الفني والأدبي في الحضارة الأمريكية المعاصرة هو الوصف الصادق لروح الثقافة الأمريكية. ولو سلمت مع (هيجل) بأن الثقافة روحاً فإن للثقافة الأمريكية روحاً مادية تنتج الأدب والفن ليخدم الناحية العلمية في النشاط الصناعي، أو بمعنى آخر تجعل الإنسان في خدمة الآلة نسترقه فيتفانى في ماديتها على حساب النواحي الأخرى في النشاط الإنساني. والأمريكي يفخر بأن ليس للثقافة الممتازة مكان في سلوكه وفي أهدافه وما يصبو إليه من مجد ورفعة و (نجاح). وهذه النظرية البرجماتزمية هي المسئولة عن رواج أدب اللذة والمجون في أمريكا وسيطرته على عناصر الغذاء الفكري للقارئ. فالكاتب والفنان هناك لا يرتفعان عن ذوق السطحيين والذين من طبائعهم (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد). وتاريخ الفكر في أمريكا لم يسمح للمثقف الممتاز الفنان الأصيل والعالم المتبحر أن يحتل المكانة والنفوذ والسلطة التي سمحت له بها الثقافات الإنسانية الأخرى.

ولذا فإن مساهمة أمريكا في الحضارة العالمية هي في الواقع مساهمة (صناعية) وليست ثقافية التقليدي المعروف. ولذا فليس للمستعير من الثقافة الأمريكية، مجال للاختيار فالبضاعة في مجملها بضاعة صناعية، اللذة والمجون جوهرها.

والأمريكي يكره السلطة بجميع أنواعها ثقافية كانت أو سياسية. ومن ثم أنكر الأمريكي على مثقفيه الممتازين أن يحتلوا مكان التوجيه فافتقرت الثقافة الأمريكية إلى المدارس الفكرية العميقة التي تتميز بها ثقافات الأمم. وأنكر الأمريكي على المثقفين الممتازين كذلك أن يحتلوا مكانة اجتماعية ونفوذاً أدبياً يفوق مكانة الصانع والمزارع بالرغم من التفاوت في المواهب العقلية وأهمية الإنتاج في التراث الفكري. وقد أعرب أحد أقطاب الفكر الأمريكي عن هذه الحقيقة حين قال:

(قاموس الكاتب الأمريكي هو الحياة العملية (المادية). فالفن والثقافة الرفيعة تعد من قبيل الهراء والسخف إذا لم تتمش مع مقومات هذه الحياة العملية).

وسبب ذلك أن أسس المجتمع الأمريكي بنيت على المزارع والنجار والحطاب الذين فرضت عليهم حياة الهجرة في أوائل التاريخ الأمريكي أن يواجهوا الحياة بأيديهم قبل معالجتها بعقولهم ومواهبهم الأدبية والفنية. ومرت الأجيال ونما المجتمع والحضارة الأمريكية أن على هذا الأساس من المثالية. فكان أن أحتل المسرح والفلسفة والفن والشعر والثقافة الرفيعة بجميع ألوانها مكانة ثانوية في الحياة الأمريكية. وإذا حدث فنجحت مسرحية أو راج كتاب أو تبوأ مثقف مكانة مرموقة فذلك لا يكون إلا لأن إنتاجه كان إنتاجاً بمعنى أنه يتمشى مع (عامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) التي هي من طبائع الحياة العملية التي لا سبيل المجتمع الصناعي أن يتخلص منها أو أن يتغلب عليها إذا أراد ذلك.

وقد تجد من المفكرين في أمريكا من يبرر عامية الإنتاج وسطحيته بقوله (إن الثقافات والتراث القديم عالة على الأجيال الجديدة، وإن القارات التي تتطعم بالتراث التقليد العريق قد تجد نفسها عاجزة عن قبول الفكر الجديد والتطور المفاجئ.

فإذا افتقرت الثقافة الأمريكية المعاصرة إلى جمال العنصر الكلاسيكي التقليدي فإن ذلك الافتقار هو من النعم التي حظي بها الأمريكان وحدهم، إذ أنهم يتفادون بذلك تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الثقافات الأخرى في تطلعها إلى الأدب والفن الكلاسيكي تستمد منه الوحي والإلهام).

وهذه النظرية البرجماتزمية تبدأ من حيث اعتقدت بأن الحياة قد بدأت فقط منذ اختراع البخار والكهرباء والطاقة الذرية، فهي إذن استنتاج مبني على خطأ. ووجه الخطأ أن الحياة قديمة قدم آدم، وأن الثورة الصناعية لم تستهل حياة إنسانية جديدة وإنما أدخلت على هذه الحياة عقداً نفسانية ومشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية أضيف إلى العقد التي عاش بها الإنسان في المجتمع الكلاسيكي. فبدل أن يبدأ الفكر الأمريكي فيعالج مشاكل النفس الجوهرية على النحو الذي يعالجه فلاسفة الإغريق وحكماء الشرق وأنبياؤه - بدل أن يبدأ الفكر الأمريكي في معالجة الجوهر أتجه يعالج القشرة السطحية من العقد والمشاكل والمسرة والبؤس التي أضافتها (الثورة الصناعية) إلى حياة الفرد والمجتمع. والبدء في تجميل البشرة وتطرية الجلد قبل تطهير النفس والروح هو الطابع الذي يحمله الإنتاج الأدبي والفني في العالم الجديد.

فهم الحضارة الأمريكية أن توفر الغذاء والمسكن ووسائل الراحة المادية للفرد قبل أن توفر الطمأنينة الروحية. ولو أن الضائقات الاقتصادية والأزمات السياسية العنيفة والمصائب والبلايا التي حلت بالشرق يصمد لها وجلد في صراعه لها - لو أن هذه الضائقات والأزمات والبلايا قد حلت بأمريكا لفقد أهلها الجلد ولعجزوا عن مواجهة الحياة. فليس لديهم مناعة وطمأنينة روحانية تصمد للنوائب. والشواهد عديدة على تفكك عرى المجتمع الأمريكي أبان الضائقة الاقتصادية العابرة التي مرت بها أمريكا في أعوام 1929 - 1933 فلقد عم الفساد وانطمست كثير من أوجهه الفضيلة وشاع في الناس القنوط والتمسوا الرخاء والقناعة فلم توفر لهم فلسفتهم البرجماتزمية وراحوا ينتحرون بالمئات. والواقع أن نسبة الانتحار بين البروتستانت الأمريكان هي أعلى نسبة بين المجموعات الإنسانية الأخرى كما شرح ذلك (أميل في دير كهايم) دراسته المعروفة عن الانتحار.

والثقافة البرجماتزمية في إصرارها على النواحي المادية في السلوك والحياة الإنسانية لا تختلف كثيراً عن الفلسفة الماركسية وتفسيرها المادي للتاريخ وسعيها الآخرة بالدنيا.

وأدب وفن وثقافة وحضارة هذا عنصرها الجوهري هي ثقافة راحة وترف لا يعنيها توجيه النفس توجيهاً ثقافياً أصيلاً بقدر ما يعنيها توفير المتعة وإشباع الغريزة واللعب بالعواطف وإثارتها واصطناع اللذة. وليس لنا أن نستعرض هنا حسنات ثقافة الترف والمتعة والغريزة أو سيئاتها في التكافل الاجتماعي في الحضارات الصناعية، فمشاكل العائلة والصراع الطائفي والعنصري من نتائجها. ومن نتائجها كذلك القلق الاقتصادي وفقدان الطمأنينة السياسية وما يستتبع ذلك من توسع استعماري وحروب وويلات صبغت تاريخ الغرب بالدم والنار، وهو اليوم يدفع الإنسانية إلى المحو والدمار بالقنابل الذرية والهيدروجينية.

ولكن الذي يعنينا أن الثقافة الصناعية المادية أمريكية كانت أم ماركسية ابتدأت - خطأ أو صواباً - من حيث اختارت البدء. ونحن في العالم العربي وريثو حضارة لا يمكن أن توصف بأنها صناعية مادية. واتجاهنا الآن إلى التصنيع والإنعاش الاقتصادي لا يبرر مطلقاً التقليد الأعمى والمحاكاة الضالة وتجاهل المقومات التقليدية الأصيلة المتأصلة فنياً والتي ورثناها عن ثقافتنا الكلاسيكية بما فيها من النزعات الروحانية والخلق القومي والاتجاهات العاطفة والصلات الاجتماعية والمشاعر والاحساسات الخاصة بنا والتي نتميز بها عن غيرنا من الأمم. وحتى لو تعمدنا تجاهل هذه المقومات لما استطعنا وإلا كنا أشبه بالديك الذي تعمد تقليد مشية الطاووس فلم يكن له من تكوينه الطبيعي عون على المحاكاة التامة فنسي مشيته وفقد نفسه وأصبح مدعاة إلى السخرية:

فطبيعة المجتمع العربي ليست كطبيعة المجتمع الأمريكي أو السوفيتي أو الفرنسي. فهناك اختلاف جوهري في التطور التاريخي والصناعي وفي العواطف والاحساسات والمشاعر. وسبب هذا التباين مستمد من العوامل البيولوجية، من الوراثة والبيئة والتفاوت في مستوى التطور.

فتغذية القارئ العربي بالإنتاج الثقافي (الخام) أمريكياً كان أم فرنسياً أم روسياً مخالف لسنن الطبيعة فوق مخالفته للمنطق السليم والمصلحة القومية.

ومشاكلنا الاجتماعية تختلف، وملذتنا وآلامنا ومستقبلنا الثقافي والسياسي والاجتماعي تختلف عن مثيلاتها في الثقافات الأخرى.

ولقد وجدنا أن الثقافة الأمريكية قد تحكمت في الزمان والمكان حين وضعت دعائمها وأسسها ومقوماتها واتجاهاتها البرجماتزمية. ومثل ذلك ينطبق على الثقافة السوفيتية الماركسية التي تذرعت بالديكتاتورية لتتحكم في الأوضاع والزمان والمكان.

فترك ميدان الفكر في العالم العربي في أيدي المغرورين من الديوك التي تحاول تقليد الطاووس الأمريكي أو الدب الروسي جريمة والنتائج المترتبة على هذا الوضع لن تظهر عواقبها السيئة ألا بعد مضى فترة غير قصيرة من الزمن. والزمن في حياة الأمم لا يقدر بالشهور والسنوات.

فلئن علت أصوات الإنكار لهذه التيارات من أدب اللذة والمجون (وعامية الذهن وسطحية الفكرة وسآمة الجد) فلأن الثقافة العربية حساسة لا تزال في جوهرها أصيلة وعريقة. ولقد شعرت بالتحدي قبل أن يستفحل خطره ولمست الشيء فبل أن ترسخ أسسه.

فدفاع المثقفين عن سلامة المقومات الأصيلة للثقافة العربية مستمد من عراقة الثقافة ومتانة هذه المقومات واستقلال العقلية العربية ونفورها من أن لا تعيش على قدم المساواة مع الثقافات الإنسانية الأصيلة. وكما تحمس المدافعون عن أصول هذه الثقافة ونقلوا حماسهم إلى المجالس العامة ازدادت مناعة تلك المجالس ضد الانسياق مع لأدب الترف والمتعة والمنحط من الغرائز والشهوات.

ويخيل إلى أن المثقفين في العالم العربي قد استشعروا منذ زمن هذا التحدي لثقافتهم. فالكتب التي أنتجها أمثال أحمد أمين والعقاد وهيكل وطه حسين وعبد الرزاق والزيات وغيرهم من الكتاب عن الثقافة الإسلامية والأدب العربي - وهذا التراث الكلاسيكي الذي أخذ يحييه الباحثون والمصنفون من خزائن الثقافة العربية القديمة، وتشعب برامج التعليم في الجامعات ومعاهد العلم العالية لتشمل المواضيع العربية الأصيلة، وصمود الحياة الدينية وقيامها بوظيفتها التقليدية في عالم تهب عليه تيارات اللذة والمجون كل ذلك - على ضآلته - أجابه لهذا التحدي الذي تواجهه الثقافة العربية، وهو خطوات في الطريق الصواب.

بقي أن يزداد حفظة الثقافة العربية إدراكا لخطورة هذا التحدي لتزداد أصواتهم حدة فلا تقتصر على الخاصة وإنما تجد صداها في المجتمع العام وفي الدوائر المسؤولة فلعلها تجد العناية التي يبدو أن حفظة الدين من علماء الأزهر ورجال الشرع الشريف والأدباء الروحانيين مستطيعون تحقيقها في تحديهم لموجات اللذة والمجون وألوان المستوردة المصطنعة، فدفاع حفظة الدين هو جزء من الدفاع الجماعي عن أسس الثقافة العربية.

عمر حليق

جامعة كولومبيا - نيويورك